أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تشكيلة حكومته الجديدة بعد حفل تنصيبه رئيسا لـ5 سنوات إضافية. وقد كانت أسماء التشكيلة الوزارية جديدة في غالبيتها العظمى وحملت رسائل ودلالات عديدة للداخل والخارج.
التشكيلة
أدى أردوغان يوم السبت اليمين الدستورية أمام البرلمان التركي الجديد بعد تثبيت فوزه وفق النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات. ونظمت أنقرة في اليوم نفسه مراسم تنصيبه رئيسا للولاية المقبلة، في احتفالية مهيبة ركزت على البعد التاريخي باستحضار الدول التركية عبر التاريخ.
وقد حضر الاحتفال أكثر من 5 آلاف مدعو في مقدمتهم ما يقرب من 80 مسؤولا دوليا بينهم 21 رئيس دولة إضافة لرؤساء وزراء وبرلمان ومنظمات دولية. تقدم الحضور الرئيسان الأذربيجاني والفنزويلي ورئيسا وزراء أرمينيا والباكستان والأمناء العامون لمنظمات دولية مثل حلف شمال الأطلسي والدول التركية والتعاون الإسلامي، إضافة لحضور كبير ولافت لرؤساء عدة دول أفريقية وجمهوريات آسيا الوسطى “التركية”، فضلاً عن رئيسة كوسوفو ورئيس جمهورية شمال قبرص التركية.
على المستوى العربي شارك في مراسم التنصيب الرئيس الصومالي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية ورئيس الوزراء اللبناني، إضافة لوزراء خارجية كل من السعودية والكويت ومصر والعراق والأردن ووزراء ومسؤولين من عدة دول عربية أخرى.
وقد ركزت كلمة أردوغان على معنيين رئيسيين؛ الأول أن الانتخابات الأخيرة مكسب وفوز لكل الشعب التركي ولا خاسر فيها، بما فهم على أنه رسالة تهدئة واحتضان داخلية، لا سيما أن أكثر الحضور لفتا للأنظار كان الرئيس الأسبق عبد الله غل الذي عرف بمعارضته خلال السنوات الماضية وكان محتملاً أن ينافس أردوغان في الانتخابات.
والثاني فكرة “قرن تركيا” كرسالة قوة وتواصل وإيجابية في السياسة الخارجية ومكانة تركيا المتقدمة إقليميا ودوليا، وهي الرسالة التي أسهم في تأييدها الحضور الخارجي الكبير والرفيع في مراسم التنصيب.
أظهرت التشكيلة الحكومية الجديدة نسبة تجديد كبيرة جدا، حيث احتفظ وزيران فقط من بين 17 وزيرا بحقيبتيهما هما وزيرا الصحة والسياحة والثقافة، كما وقع اختيار أردوغان على الوزير الأسبق والقيادي البارز في الحزب جودت يلماظ ليكون نائبا له.
وعليه، تشكلت الحكومة الجديدة من أسماء جديدة ولكن معروفة في المشهد السياسي، أهمهم الوزير الأسبق محمد شيمشك لوزارة الخزينة والمالية ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان لوزارة الخارجية، والذي يتوقع أن يحل مكانه الناطق باسم الرئاسة وكبير مستشاري الرئيس إبراهيم قالن.
دلالات ورسائل
زخرت التشكيلة الحكومية الجديدة بدلالات ورسائل عديدة، في مقدمتها رسالة التجديد والتغيير التي كان أردوغان وعد بها واتضحت إرهاصاتها عبر ترشيح 15 من أصل 17 وزيرا للانتخابات البرلمانية، حيث يمنع الدستور التركي الجمع بين الحقيبة الوزارية وعضوية البرلمان.
ورغم أنه كان من الممكن تعيين أحد أو بعض الوزراء السابقين مع استقالته من البرلمان، فإن أردوغان فضل عدم كسر هذه القاعدة بأي استثناء، كما أن عدد نوابه في البرلمان لا يتيح له هامشا كبيرا في هذا الاتجاه لئلا تتأثر فرص الحزب في رئاسة العدد الأكبر الممكن من اللجان البرلمانية.
كما تشكلت الحكومة في معظمها من أسماء معروفة للشارع التركي وذات كفاءة وسير ذاتية مشجعة في مجالات عملها وهو ما أشاع جوا من المصداقية والثقة والتفاؤل. وعلى عكس الحكومات السابقة، لم تشارك قيادات بارزة في الحزب بالتشكيل الوزاري الجديد، بل أتى عدد منهم من وزاراتهم أصلاً، في تأكيد على أهمية البيروقراطية والاستمرارية في آنٍ معاً.
فقد كان وزراء “الزراعة والغابات” و”الصناعة والتكنولوجيا” و”الطاقة والمصادر الطبيعية” الجدد نوابا للوزراء في السنوات الماضية، كما كان وزير “المواصلات والبنية التحتية” الجديد مديرا عاما للطرق البرية، ووزير الداخلية الجديد واليا على إسطنبول، ووزير التعليم الجديد مستشارا سابقا في الوزارة.
في المقابل، وعلى عكس ذلك، فقد اختار أردوغان هذه المرة نائبا سياسيا له، هو الوزير ونائب رئيس الوزراء الأسبق والنائب الأسبق لرئيس حزب العدالة والتنمية، والرئيس الأسبق للجنة التخطيط والموازنة في البرلمان جودت يلماظ. وتقديرنا أن ذلك مرتبط من جهة بكونها الولاية الرئاسية الأخيرة لأردوغان، ولجذور يلماظ الاقتصادية وتفاهمه مع وزير الخزينة والمالية الجديد محمد شيمشك، فضلاً عن فكرة تخفيف عبء المتابعات على أردوغان بشكل عام.
تعيين شيمشك، الوزير ونائب رئيس الوزراء الأسبق، بعد عدة لقاءات مع أردوغان يشير إلى أهمية وأولوية الملف الاقتصادي في الفترة المقبلة من جهة، واستشعار ثقل الرجل وسمعته الطيبة في الخارج بما يمكن أن يسهم في جلب الاستثمارات، وكذلك لإمكانية التخلي عن النهج الاقتصادي السابق لصالح “سياسات اقتصادية عقلانية، وإصلاح هيكلي للاقتصاد” كما جاء على لسان شيمشك نفسه، ولو بعد فترة انتقالية وبشكل متدرج.
أما اختيار رجل الاستخبارات القوي، هاكان فيدان، لوزارة الخارجية فيحمل عدة دلالات في آنٍ معا. في المقام الأول، ثمة إشارة لأهمية الحقيبة في الفترة المقبلة والتأكيد على فكرة “تركيا القوية” في الإقليم والعالم وليس أفضل من “الرجل القوي” وذراع أردوغان اليمنى كما يوصف في تركيا، ليقود دفة دبلوماسيتها في الفترة المقبلة.
كما أن اختياره يعني استمرارا للسياسات السابقة إلى حد كبير، إذ كان فيدان أحد صناع السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الماضية وأحد راسمي مساراتها على المستويين النظري والتطبيقي، إذ كان هو -عبر جهاز الاستخبارات- من بدأ خطوات تحسين العلاقات مع عدة أطراف إقليمية (قبل الخطوات الدبلوماسية) فضلاً عن انخراطه المباشر في الملفين الليبي والسوري.
وأخيرا، يحمل الأمر دلالة مهمة لمستقبل فيدان السياسي. إذ كان سبق له أن رغب بترك منصبه للانخراط في السياسة واستقال منه للترشح للبرلمان عام 2015، لكنه عاد عن ذلك بسبب معارضة أردوغان في حينها.
اليوم، يرشحه الأخير لمنصب رفيع وحساس، يمكن أن يفتح له أبواب مستقبل سياسي عريض، لا سيما وأنها الولاية الرئاسية الأخيرة لأردوغان التي دفعت للتساؤل عن خليفته في الحزب والرئاسة، خصوصا أن فيدان من الشخصيات القوية القليلة المرشحة لخلافته من جهة والتي تحظى بثقته من جهة ثانية.
تعيين رئيس الأركان الحالي يشار غولر لوزارة الدفاع كان لافتا، ويشير لترسيخ تقليد بهذا الاتجاه حيث كان سبق للوزير السابق خلوصي أكار أن انتقل للوزارة من رئاسة الأركان، وهو مسار يسهم في تثبيت معادلات العلاقات المدنية- العسكرية ذات الأهمية والحساسية في البلاد.
اختيار جزء مهم من الوزراء من خارج أطر الحزب الحاكم وكذلك من خارج أحزاب التحالف الحاكم وداعميه، وكونهم أسماء مهمة وقوية في تخصصاتهم، تشير من زاوية ما لزيادة مستوى التفويض -للوزراء- في إدارة الحكومة وتراجع مركزية إدارة أردوغان للأمور، وربما يعود ذلك أيضا لرغبته في التركيز على ملفات أكثر إستراتيجية وأبعد عن التفاصيل، مثل إعادة هيكلة حزب العدالة والتنمية والتخطيط لمستقبله والترتيب للانتخابات البلدية المقبلة وصياغة دستور جديد وما إلى ذلك.
وفي الخلاصة، تشير تشكيلة الحكومة الجديدة إلى تفاعل أردوغان مع رسائل صندوق الانتخابات من جهة، وتركيبة البرلمان الجديد من جهة ثانية، والاستجابة للتحديات الأساسية في المرحلة المقبلة وفي مقدمتها الاقتصاد.
ويبدو أنها أشاعت مناخا من الإيجابية بشكل مبدئي لدى إعلانها، وفي كل الأحوال، فإن الاختيارات في العموم وما يتعلق بالاقتصاد على وجه التحديد، فضلاً عن خطاب أردوغان وخطواته المتوقعة بما يخص الحزب الحاكم، كلها تشير إلى أولوية الانتخابات البلدية المقبلة في رؤية الرئيس وتخطيطه للمرحلة المقبلة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.