دول الجنوب بين التحوط وعدم الانحياز | آراء


ربما لا توجد حقيقة مقبولة على نطاق واسع حول العالم اليوم أكثر من فكرة أنه لم يعد أحادي القطب تنفرد فيه الولايات المتحدة بالهيمنة كما في تسعينيات القرن الماضي. النظام الدولي يقف عند نقطة انعطاف تاريخية، لذا فإنه لا يمكن توصيف ما يجري فيه من تطورات باستخدام الأوصاف والمفاهيم نفسها التي حكمت النظام الدولي فيما مضى من قبيل الثنائية القطبية، والحرب الباردة، والعالم الحر، وعدم الانحياز ودول الجنوب، ولا حتى الانقسام بين الغرب والشرق، وإذا قُدِّر واضطررنا لاستخدام بعض من هذه المفاهيم فيجب أن نكون واعين بما يكفي لندرك أنها تستخدم لوصف ظواهر جديدة.

مع بداية الحرب الأوكرانية صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 141 صوتا مقابل 5 أصوات على إدانة الغزو الروسي، في حين امتنعت 47 دولة عن التصويت، وهو ما يمثل رفضا للغزو الروسي وفي الوقت نفسه عدم قناعة بالسياسة الغربية.

امتنعت 58 دولة عن التصويت في أبريل/نيسان 2022 على طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

هذه الدول لا تحتوي على أنظمة سياسية من طبيعة واحدة، إذ تضم العديد من الديمقراطيات البارزة مثل البرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا والهند. يعيش ما لا يقل عن 4 مليارات شخص أو أكثر من نصف سكان العالم في أكثر من 100 دولة لا تريد الانحياز لأحد الجانبين، وفق تقديرات الإيكونوميست التي تشير أيضا إلى أن نفوذ هذه الدول الاقتصادي آخذ في الارتفاع.

لنأخذ على سبيل المثال أكبر 25 اقتصادا غير منحاز، أو “المعاملات-25” (المحددة على أنها تلك التي لم تفرض عقوبات على روسيا، أو قالت إنها ترغب في أن تكون محايدة في المنافسة الصينية الأميركية)، هؤلاء يشكلون معا 45% من سكان العالم، وارتفعت حصتهم من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 11% عند انهيار جدار برلين إلى 18% اليوم، أي أكثر من الاتحاد الأوروبي.

هل يعني هذا أننا بصدد إحياء جديد لحركة عدم الانحياز؟

بدأت حركة عدم الانحياز في الخمسينيات من القرن الماضي كتحالف من الدول النامية المستقلة حديثا عن الاستعمار. حرصت هذه البلدان على ممارسة سياستها الخارجية المستقلة بعيدا عن مقتضيات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التي تحولت إلى مباراة صفرية بين القوتين العظميين وقتها.

النظام الدولي يقف عند نقطة انعطاف تاريخية، لذا فإنه لا يمكن توصيف ما يجري فيه من تطورات باستخدام الأوصاف والمفاهيم نفسها التي حكمت النظام الدولي فيما مضى

ملاحظات خمس

  • الأولى: غياب هوية جامعة

فسلوك هذه الدول هو سلوك فردي وليس جماعيا، وهو تعبير عن إدراكها لمصالحها الوطنية كما تعرفها، لذا فإن التنسيق فيما بينها يدور حول موضوعات أو قضايا محددة، ويسير في مسارات أو تكتلات متقاطعة متداخلة وليس تكتلا واحدا يعبر عن مجموع مصالح أعضائه.

فمجموعة “أوبك بلس” تضم بلدان منظمة أوبك التي شهدت تنافسا محتدما بين أعضائها على أسقف الإنتاج، بالإضافة إلى روسيا وعدد من البلدان الأخرى التي جمعتها مصلحة تحديد أسقف إنتاج النفط بما يضمن منع التنافس بينها ويحافظ على أسعار نفط مرتفعة نسبيا.

هذه الخصيصة ترتبط بشدة بطبيعة التفاعلات في العالم الآن التي تغيب عنها القيم الكلية والأيديولوجيات الحاكمة بما يجعل التفاعلات تدور حول المصالح الآنية المؤقتة وليست الدائمة، والمباشرة وليست الطويلة الأمد.

حالة الانقسام السياسي حول التوجهات الأساسية في داخل البلدان المشكلة لظاهرة عدم الانحياز يمكن ملاحظتها بسهولة، وهي تعبير عن غياب التوافقات المجتمعية حول محددات وطبيعة العقد الاجتماعي، وافتقاد للقيادات الكاريزمية القادرة على خلق التيار الأساسي في المجتمع. ينطبق هذا على النظم الديمقراطية كما في البرازيل والهند وغيرها، والنظم التسلطية كما في بلداننا.

البلدان المحايدة لديها القليل من القواسم المشتركة لتكون متماسكة مثل الغرب، أو حتى تحالف المصلحة الصيني الروسي. الديمقراطيات الضخمة مثل البرازيل والهند لديها القليل من المصالح المشتركة، ناهيك عن غياب أجندة مشتركة مع نظم ملكية غنية بالأموال مثل دول الخليج.

  • الثانية: الحياد تعبير عن حالة إحباط

فموقف هذه البلدان من الحرب الأوكرانية هو نتاج إحباط عميق -غضب في الحقيقة- بشأن سوء إدارة العولمة بقيادة الغرب منذ نهاية الحرب الباردة، وهو وفق ديفيد ميليباند وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية الأسبق: “أحد أعراض متلازمة أوسع: الغضب من المعايير الغربية المزدوجة والإحباط من جهود الإصلاح المتوقفة في النظام الدولي”.

يمكن أن نضرب العديد من الأمثلة على حالة الإحباط هذه، فقد فشل الغرب منذ الأزمة المالية لعام 2008 في إظهار أنه مستعد أو قادر على دفع صفقة اقتصادية عالمية أكثر مساواة واستدامة أو تطوير المؤسسات السياسية المناسبة لإدارة عالم متعدد الأقطاب.

يتم تقديم الحرب الأوكرانية كدليل على ازدواجية المعايير والقيم عندما يتعلق الأمر بالاهتمام بالمدنيين. ويُقال أيضا إن الغرب أبدى تعاطفا أكبر بكثير مع ضحايا الحرب في أوكرانيا أكثر من تعاطفه مع ضحايا الحروب في أماكن أخرى.

نداء الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية لأوكرانيا تم تمويله بنسبة 80% إلى 90%. وفي الوقت نفسه، لم يتم تمويل نصف نداءات الأمم المتحدة لعام 2022 للأشخاص المحاصرين في أزمات إثيوبيا وسوريا واليمن.

ولذلك العديد من الأمثلة: من قضية فلسطين التي تم استدعاء الموقف الغربي منها، أو تقديم سردية حول أنها صراع بين الديمقراطيات والاستبداد والتي لم يكن لها صدى مهم خارج أوروبا وأميركا الشمالية، فمن بين 50 دولة تعتبرها فريدوم هاوس “ديكتاتوريات”، تلقت 35 دولة مساعدات عسكرية من حكومة الولايات المتحدة في عام 2021.

  • الثالثة: التحوط بالخيارات المفتوحة

التحوط بمثابة بوليصة تأمين لعدم اليقين في النظام الدولي -على حد قول ماتياس سبيكتور أستاذ العلاقات الدولية في Fundação Getulio Vargas في ساو باولو، والباحث غير المقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

تنتهج هذه البلدان إستراتيجية التحوط لأنها ترى أن التوزيع المستقبلي للقوة العالمية غير مؤكد، وترغب في تجنب الالتزامات التي سيكون من الصعب الوفاء بها.

مع الموارد المحدودة التي يمكن من خلالها التأثير على السياسة العالمية، تريد البلدان النامية أن تكون قادرة على تكييف سياساتها الخارجية بسرعة مع الظروف غير المتوقعة، والاستفادة من الفرص والمزايا التي يمكن اغتنامها من الطرفين المتنافسين، فإندونيسيا ترغب في الاستفادة من الاستثمار الصيني والغربي على السواء، وتركيا رغم رفضها لغزو أوكرانيا وعضويتها في حلف الناتو حرصت على تقوية علاقاتها الاقتصادية مع روسيا.

أوكرانيا أحدث مباراة لصنع القوة والحفاظ على الهيمنة الأميركية، لكنها أنشأت عدم الانحياز، وهو ما يستدعي المراكمة عليه ليس بالاحتفاء بصعود الصين ولكن بمحاولة إنشاء نظام دولي جديد

ونظرا لأن المتحوطين يقدرون حرية التصرف، فقد يشكلون شراكات ملائمة لتحقيق أهداف محددة للسياسة الخارجية، لكن من غير المرجح أن يشكلوا تحالفات عامة -كما أشرت آنفا- وهذا يميز المتحوطين اليوم عن دول عدم الانحياز في الحرب الباردة.

يربط الكثيرون في الغرب النظام العالمي متعدد الأقطاب بالصراع وعدم الاستقرار، ويفضلون الولايات المتحدة المهيمنة، كما كان الحال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ليس الأمر كذلك بين بلدان الجنوب، حيث الرأي السائد هو أن تعددية الأقطاب يمكن أن تكون بمثابة أساس مستقر للنظام الدولي في القرن الـ21.

ورغم ذلك فليس من الواضح على الإطلاق أن البلدان النامية ستكون أفضل حالا في ظل تعدد الأقطاب عما كانت عليه في ظل الأنظمة العالمية السابقة.

  • الرابعة: أجندات مشتركة

3 موضوعات يمكن أن تمثل مجالا لعمل مشترك بين الدول النامية وهي:

  • زيادة أدوارها في صنع القرار في المؤسسات الدولية

على مدى عقود، دعت الدول الأفريقية إلى إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وإعادة تشكيل النظام الدولي الأوسع وفقا لشروط أكثر إنصافا.

وفقا لمعهد السلام الدولي، فإن أكثر من نصف اجتماعات مجلس الأمن و70% من قراراته التي تتضمن تفويضات الفصل السابع -تلك التي تسمح لقوات حفظ السلام باستخدام القوة- تتعلق بقضايا الأمن الأفريقي.

لم يتم إشراك ممثلي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بشكل مفيد في إدارة برنامج توزيع لقاحات كورونا. هذا النقص في التمثيل أعاق الجهود المبذولة لتحقيق التوزيع العادل للقاحات والتقديم الفعال للخدمات الصحية الأخرى.

  •  صياغة طريقة أكثر إنصافا لمواجهة المخاطر العالمية

التغير المناخي مثال على قضايا عديدة في هذا المجال. نظرا لمسؤوليتها المحدودة عن انبعاثات الكربون التاريخية وتعرضها لتغير الطقس، ستسعى دول عدم الانحياز إلى مزيد من التأثير في سياسة المناخ.

  • تقديم دعم جماعي واسع النطاق لأكثر أولويات البلدان النامية إلحاحا

إن إصلاح المؤسسات الاقتصادية الدولية لجعلها أكثر انتباها لاحتياجات البلدان المتلقية للمساعدات والواقعة تحت وطأة الديون من الأولويات الملحة لدول الجنوب.

  • الخامسة: كيف ننظر إلى تطورات النظام الدولي؟

وهنا يمكن الإشارة إلى نقطتين:

  • أن شعوب منطقتنا بالإضافة إلى أفريقيا قد دفعت الثمن الأكبر لمجمل التغيرات في النظام الدولي، وبتلك الصفة فإننا والأفارقة يجب أن نكون أصواتا قيادية من أجل العدالة التي تُعرَّف بأنها الإنصاف والمساواة والمساءلة والتعويض عن أضرار الماضي، وهذا قد يمنحنا نحن الاثنين السلطة الأخلاقية للمطالبة بإعادة تشكيل النظام العالمي.

أوكرانيا أحدث مباراة لصنع القوة والحفاظ على الهيمنة الأميركية، لكنها أنشأت عدم الانحياز، وهو ما يستدعي المراكمة عليه ليس بالاحتفاء بصعود الصين -كما يرى جزء من التفكير العربي- ولكن بمحاولة إنشاء نظام دولي جديد. هنا تأتي أهمية دراسة سر إخفاق حركة عدم الانحياز سابقا، والانتفاضات العربية التي كانت بمثابة تعبير عن تطلعات وحراك الشعوب -ليس في المنطقة فقط ولكن في العالم كله- نحو المساواة والعدل والإنصاف التي هي جوهر القيم التي يجب أن تحكم النظام الدولي.

  • أن دول الجنوب ونتيجة سعيها لتحقيق التنمية الوطنية، فإنها تدافع بشدة عن العولمة إذ من دونها لن تستطيع أن تحقق أهدافها، مستفيدة من تدفق الاستثمارات الدولية وإعادة صياغة سلاسل التوريد بعيدا عن الصين.

يضاف إلى ذلك تطلعات الشباب إلى الاندماج في العالم ورغبتهم في الاستفادة اقتصاديا وثقافيا وتعليميا مما يتيحه هذا الاندماج، لذا فإن رؤية تطورات النظام الدولي من منظور الأجيال الشابة التي تريد أن تعيش في عالم تتمتع فيه بالمساواة والعدالة أمر ضروري، وأخذ مخاوفهم ومصالحهم وتطلعاتهم على محمل الجد أمر واجب.

عبر الجنوب العالمي، يتزايد انفتاح الناس على التعامل مع العالم بلا خوف أو وجل. سكان معظم البلدان النامية هم من الشباب الذين يتصفون بالحيوية ونفاد الصبر، ويسعون إلى خلق نظام عالمي يمكنهم من الازدهار فيه، وقطاع معتبر من النخب الثقافية والاقتصادية في الجنوب العالمي وجزء من الحركات الشعبية، تضغط من أجل إصلاحات تقدمية يمكن أن توفر أساسا للتعاون معهم ومع أمثالهم في العالم كله.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post 4 آثار جانبية للإفراط في تناول البيض.. أبرزها الإصابة بأمراض القلب
Next post زيارة مفاجئة لداني ألفيش في عيد ميلاده خلف أسوار السجن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading