نعم وألف نعم، الديمقراطية وحدها تستطيع بناء اتحاد الشعوب العربية الحرة، وحدها تستطيع التسريع بولادة شعب من المواطنين من رحم شعب الرعايا، وحدها تستطيع أن تبني دولة قانون ومؤسسات بانية لاستقرار سياسي حقيقي، ومن ثم قادرة على محاربة الفساد وتسهيل عمل المكنة الاقتصادية.
لكن ماذا عن آخر الدراسات العلمية حول وضع هذه الديمقراطية في العالم؟
يتبين حسب دراسة “ذي إيكونوميست غروب” (The Economist Group) لسنة 2022، وفقا لـ60 مؤشرا (صدقية الانتخابات، الحريات، طبيعة السلطة، المشاركة السياسية والثقافة السياسية)، 8% من البشرية فقط تعيش في ظل ديمقراطية مكتملة الأوصاف (البلدان الإسكندنافية نموذجا)، و37% في ديمقراطية غير كاملة (البرازيل نموذجا)، و17% تحت أنظمة هجينة، أي فيها بعض خصائص الديمقراطية مع ثوابت الدكتاتورية (باكستان نموذجا)، و37.3% تعيش في ظل أنظمة دكتاتورية (أفغانستان نموذجا).
لو كانت الديمقراطية النظام المثالي الذي ندّعي لكانت النظام السائد في كل العالم، ولتبنتها كل الشعوب كما تبنت من دون تردد الكهرباء والتعليم الإجباري وقانون الطرقات.
ماذا عن العيوب والثغرات والتناقضات التي أظهرتها ما لا يحصى ولا يعد من التجارب في عديد من البلدان وعلى امتداد قرابة القرنين؟ ألا تجب مواجهتها لأنها لن تختفي سحريا ونحن نشيح البصر والبصيرة عنها؟
إذا لنتسلح بكل شجاعتنا الفكرية لتفحص النصف الفارغ من الكأس علنا نسهم في ملء ما فيه من فراغ.
دروس كبرى لخصتها في لاءات سبع أعرضها على العقل الجماعي لتقييم صارم ونقاش معمق:
-
لا، ليس صحيحا أن الديمقراطية “حكم الشعب للشعب من أجل الشعب’’
إنه شعار أجوف، لأن “الشعب” كان -ولا يزال- مجرد غطاء لحكم النخب السياسية الإعلامية المالية القادرة على توظيف آليات الديمقراطية، لخدمة مصالحها أولا، وفي مرتبة ثانية المصلحة العامة شريطة ألا تتناقض مع مصالحها الحيوية في توزيع الثروة والسلطة والاعتبار.
دعنا نتوقف عند المفهوم السحري: الشعب
النظرية الديمقراطية -حتى لا نقول الديموغوجيا الديمقراطية- لم تكتف باستعمال هذا المفهوم للقفز على التعددية الدينية أو العرقية أو الطبقية للمجتمع، وإنما استعملت هذا الشعار الأجوف للقفز على تعددية المجتمع السياسية لتجعل منه كيانا واحدا، وهو في الواقع 3 مكونات.
سياسيا، هناك دوما نخبة تصادر بالقوة أو بالحيلة وغالبا بمزيج من الاثنين جل الثروة والسلطة والاعتبار. هذه النخبة المجتمعية هي ترجمة للجزء الظالم المظلم من الطبيعة البشرية الذي سميته “الإنسان المفترس” في كتابي “المراجعات والبدائل”.
وهناك دوما مقاومة سلمية أو عنيفة من أجل توزيع أعدل للثروة والسلطة والاعتبار تترجم للجزء النير المتعطش للعدل في الطبيعة البشرية والذي سميته: “الإنسان الفارس”. هذا الإنسان الفارس هو الذي يحرك ما أسميه “شعب المواطنين”.
أخيرا، هناك عنصر ثالث، هو “شعب الرعايا” المستكين للقمع والظلم والذي لا يتحرك إلا إبان الثورات، ومحركه الجزء من الطبيعة البشرية الذي سميته: “الإنسان الفريسة”.
كيف يمكن لمثل هذا الشعب الذي لا يتوقف الصراع داخله بين مكوناته السياسية الثلاثة أن تكون له إرادة واحدة يمكن للديمقراطية أن تؤسس عليها شرعية السلطة؟
2. لا، ليس صحيحا أن للشعب إرادة تعبر عنها الانتخابات ولو كانت حرة وشفافة
الشعب مكون من الأطفال ومن الشيوخ، من الأسوياء والمرضى، من السجناء والأحرار، ممن يشاركون في الانتخابات وممن يقاطعونها، حتى الذين يشاركون ليسوا سوى جزء من القائمات الانتخابية، أي من الذين لهم الحق في الانتخاب. كم غريب أن يقال إن 51% هم إرادة الشعب و49% ليس لرأيهم أي وزن. الغريب تسمية البرلمان “مجلس الشعب”، والحال أن وصفه الحقيقي هو “مجلس القائمات الانتخابية المنتصرة”. حاليا في تونس هو يمثل 8% من القائمات الانتخابية وليس من الشعب. ألسنا، حتى في الحالات غير الكاريكاتيرية مثل الحالة التونسية، أمام عملية تحيل على الواقع نتيجة تفكير سحري يخلط بين مستويات مختلفة.
يجب الآن تفحص مفهوم الإرادة المزعومة التي تنبثق من الانتخابات. ثمة مستويان للمفهوم، هما “الرغبة في والقدرة على”. ما يعبر عنه الناخبون عند الإدلاء بأصواتهم هو الرغبة في كذا وكذا من الإنجازات على الصعيد الاقتصادي والسياسي وغيرهما. لكن شتان بين الرغبة وتحقيق هذه الرغبة الموكول بها لأشخاص يعدون بكل شيء، مقابل أشخاص آخرين قد تكون لهم هم أنفسهم القدرة على تحقيق ما يعدون به أو هم كذابون وعاجزون. كل هذا يجعل من الحديث عن إرادة الشعب التي تعبر عنها الانتخابات مجرد مظهر من مظاهر التفكير السحري الذي لا تخلو منه أيديولوجيا ولو كانت الديمقراطية.
3. لا، ليس صحيحا أن الانتخابات أحسن وأضمن وسيلة لاختيار المسؤولين الأكفاء وغير الفاسدين
يتضح يوما بعد يوم خطورة أدوات الإعلام القديم وشبكات التواصل الحديثة، ناهيك عن شركات التأثير في الانتخابات المملوكة كلها إما لحفنة من الأشخاص أو لدول استبدادية، على تضليل الرأي العام وتوجيهه في الاتجاه الذي قلما يخدم المصلحة العامة. هكذا رأينا وسنرى وصول أغرب الناس وأقلهم كفاءة في إدارة الشأن العام وأكثرهم خطرا عليه للسلطة.
السبب أن الناخبين دوما تحت ضغط ظروف اجتماعية قاهرة تجعلهم فريسة سهلة لكل الوعود الكاذبة وضحايا تضليل متواصل سواء كان من سياسيين ديماغوجيين أو من وسائل إعلام في خدمة المصالح غير المشروعة لمالكيها.
هم أيضا طيف واسع من البشر بكل حسنات البشر وعيوبهم، أي أنك تجد بينهم أذكياء مسؤولين وأيضا عددا غير معروف من الأغبياء والفاسدين والسذج الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الآنية والخاصة على حساب المصلحة العامة والبعيدة المدى.
4. لا، ليس صحيحا أن عزوف المواطنين عن الانتخابات هو نتيجة قلة الوعي وضعف الاهتمام بالشأن السياسي
بل هو احتجاجهم المتزايد على مصادرة النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية لآليات الديمقراطية وتفويضها لمصالحها مقابل بيع المواطنين وهم سيادة لا تغني ولا تسمن من جوع. إنه اكتشافهم -طال الزمان أو قصر- أن الطبقة السياسية تضحك عليهم عندما تدّعي أن أمانيهم ورغباتهم مسموعة ومطاعة ومقدور عليها والحال أن العكس هو الأكثر احتمالا
5- لا، ليس صحيحا أن الدكتاتورية أخطر أعداء الديمقراطية
إنما أخطر أعدائها السياسي الفاسد والإعلامي الفاسد وممولهما المفسد، بما لهم من قدرة على الاستيلاء على آليات ومؤسسات الديمقراطية وتوظيفها في خدمة المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة.
6. لا، ليس صحيحا أن الدكتاتورية تختفي كليا أو نهائيا داخل الأنظمة الديمقراطية الأكثر عراقة
هي تنسحب وراء ستار لتواصل عملها -عبر سطوة مؤسسات ورجال الأعمال والإعلام- التحكم في السياسة، على عكس الأنظمة الاستبدادية أين تواصل السياسة التحكم في مؤسسات ورجال الإعلام والأعمال.
7. لا، ليس صحيحا أن كل الدول الديمقراطية وبالأساس الدول الغربية معنية بدعم الديمقراطية
القاعدة إلى اليوم مساندة الدول الغربية لكل الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا بحثا عن منافع تكتيكية، مثل الاستقرار المفروض بالقمع ومنع الهجرة السرية وتجارة الأسلحة، مع جهل وتجاهل بالكوارث الإستراتيجية لمثل هذه السياسة قصيرة النظر، ومنها إضعاف الديمقراطيات الغربية نفسها. في الماضي، كانت الدول الأوروبية التي استعمرت العالم دولا ديمقراطية. لكن ديمقراطيتها هذه لم تمنعها من استعباد شعوب بأكملها. الديمقراطية هي نظام سياسي يمكّن مجتمعا من التحكم في عنفه الداخلي فقط، أما العنف مع “الأغيار”، فليس من مشمولاتها (إسرائيل نموذجا).
المشكل أن هذه العيوب واضحة كل الوضوح، لكن قل من يتجرأ على القول إن آن الأوان لنفحص كل المسلمات النظرية وكل المؤسسات والآليات، لنرَ ما الذي يمكن الحفاظ عليه وما الذي يجب التخلي عنه، وخاصة ما البدائل الفكرية والتنظيمية لكي تربح الديمقراطية معركة وجودها ووجودنا؟
الحلقة الثالثة: كيف إنقاذ الديمقراطية بالديمقراطية من الديمقراطية؟
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.