حصن بابليون بوابة القاهرة الشرقية وقلعتها الحصينة، أمر ببنائه الإمبراطور الروماني تراجان قبل 20 قرنا، ليكون حامية لصد الهجمات على حدود الإمبراطورية من جهة الشرق.
واكتسب الموقع مكانة خاصة في التاريخ العربي الإسلامي عندما حاصره المسلمون بقيادة الصحابي عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لعدة أشهر، قبل أن يفتحوه وتدين لهم جميع مصر من بعده.
ولا يزال المكان حتى يومنا هذا شاهدا على الحضارات والممالك التي حكمت مصر وعَلما على أهمية المدينة موقعا وتاريخا، وهي التي شغلت بال الملوك وأرقت أعين القادة من الغزاة والفاتحين منذ فجر التاريخ.
الموقع
يقع حصن بابليون في الجهة الشرقية من مدينة القاهرة التاريخية متاخما لنهر النيل على ضفته الشرقية، قبل أن ينقسم إلى فرعيه الرئيسيين رشيد ودمياط، وهو في مصر الحديثة، وبعد أن تمددت القاهرة بشكل هائل وتضاعفت مساحتها آلاف المرات أصبح يقع في القاهرة القديمة بحي الفسطاط قرب المتحف القبطي.
وقد اختير موقع الحصن الإستراتيجي بعناية عسكرية فائقة ونظرة دفاعية ثاقبة، فهو من جهة يؤمّن الحماية للعاصمة المصرية ضد الهجمات القادمة من الشرق، سواء كانت من بلاد ما بين النهرين أو من شبه جزيرة العرب، ومن ناحية أخرى يعتبر حلقة الوصل للمدينة يربطها بشمال البلاد “الوجه البحري” وجنوبها “الوجه القبلي”.
وكانت لموقعه على مجرى النيل أهمية اجتماعية وتجارية كبيرة، حيث يسمح لساكنيه بأن يتنقلوا بين الحواضر المصرية على امتداد النيل، ثم يعودون إليه بالمؤونة والسلاح دون أن ترصدهم عيون الأعداء.
سبب التسمية
تذكر بعض المصادر التاريخية أن اسم الحصن “بابليون” جاء قبل بنائه من قبل الإمبراطور الروماني تراجان، فقد كان في الموقع قصر وُضع فيه مجموعة من السجناء الذين سباهم الملك الفرعوني سنوسرت من مدينة بابل العراقية التي غزاها قبل قرون من بناء الحصن المعروف اليوم.
ويعرف الحصن أيضا باسم “قصر الشمع”، وذلك أنه كانت للمصريين عادة قديمة، حيث كانوا يوقدون الشموع على أبراج الحصن بداية كل شهر شمسي، ويقومون بمراقبة مطالع الشمس ومغاربها وتنقلها بين المنازل والأبراج الفلكية.
المساحة والتصميم
لم يتبق من مساحة بناء الحصن إلا 500 متر مربع، ولم يبق من مباني الحصن سوى الباب القبلي، يكتنفه برجان كبيران، وقد بنيت فوق أحد البرجين في الجزء القبلي منه الكنيسة المعلقة، كما بنيت فوق البرج الموجود عند مدخل المتحف القبلي كنيسة مار جرجس الرومانية للروم الأرثوذكس (الملكيون).
أما بقية الحصن من الجهتين الشرقية والغربية فقد بنيت فيها الكنائس التالية: أبو سرجة ومار جرجس والعذراء قصرية الريحان ودير مار جرجس للراهبات ومعبد لليهود، وقد استخدمت في بنائه أحجار تعود إلى معابد فرعونية، واستكمل البناء بالطوب الأحمر.
التاريخ
نظرا لأهمية المنطقة التي يقع عليها الحصن ولأهميتها الإستراتيجية والتاريخية فإن المصادر ترجح أنه أقيمت على هذه المنطقة قلاع وحصون في فترات متعاقبة من التاريخ، حيث إن نقطة تفرّع نهر النيل تعتبر قلب مصر التاريخي منذ أقدم العصور، لكن هذه القلاع والحصون قد دمرت، إما بفعل الغزاة والفاتحين أو بسبب عوامل طبيعية متعددة.
فهناك حصن بابليون الفرعوني الذي من المؤكد أنه قد تم بناؤه قبل بداية التاريخ الميلادي بقرون، ويوجد معبد يهودي يشير إلى وجود أماكن محمية وحصينة استوطنها اليهود بعد هلاك فرعون موسى وقبل ميلاد المسيح عليه السلام.
ثم جاء عصر الاحتلال الروماني لمصر، وأمر الإمبراطور تراجان ببناء الحصن في القرن الثاني الميلادي، والذي بقيت آثاره قائمة حتى يومنا هذا.
ثم رمم ووسع وزادت تحصيناته في عهد الإمبراطور الروماني أوركاديوس في القرن الرابع الميلادي، وبعد الفتح الإسلامي بنى عمرو بن العاص عاصمة حكمه الفسطاط في نفس منطقة الحصن.
الفتح العربي الإسلامي
بعدما تم للمسلمين فتح بلاد الشام استأذن عمرو بن العاص الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في فتح مصر، وكان عمرو قد خَبِر مصر وأهلها أيام تجارته معهم في الجاهلية، وما زال ابن العاص يغري الخليفة بكثرة خيرات مصر وتقاعس أهلها عن القتال حتى أذن له.
توجه عمرو بن العاص إلى مصر من أرض فلسطين، واستولى على المدن في طريقه الواحدة تلو الأخرى، ففتح “الفرما” شمالي مصر ثم “بلبيس” شمال شرق، وبعدها “أم دنين” شمال شرق، ثم اتخذ من مدينة “عين شمس” قاعدة له من أجل التحضير لفتح حصن بابليون، وفي الأثناء فتح “الفيوم” بعد أن فرت حاميتها الرومانية بقيادة دومنتيانوس حاكم المدينة.
لم يبق بأيدي البيزنطيين سوى حصن بابليون، فكان هدف عمرو بن العاص التالي قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية لفتحها، وسار إليه في شهر شوال 19 هجري الموافق لعام سبتمبر/أيلول 640 ميلادي وحاصره، وكان قد طلب مددا من عمر بن الخطاب فأمده بـ4 آلاف رجل، على رأسهم عبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد.
أدرك سكان الحصن وأفراد حاميته أن الحصار سوف يطول لسببين، أولهما أنه بدأ في وقت فيضان النيل وارتفاع مياهه، فيتعذر على المسلمين أن يجتازوه ويهاجموا الحصن، ولا بد لهم من الانتظار حتى هبوط الفيضان، والآخر أن مناعة الحصن ومتانة أسواره وما يحيط به من الماء سوف تشكل عائقا أمام المحاصرين، ومن الصعب أن يجتازوه بسرعة.
كان المقوقس داخل الحصن عندما بدأ الحصار، وأدرك حين انحسار الفيضان أن المسلمين ذوو بأس وصبر، وأن طول المكث لا يثنيهم عما عزموا عليه من فتح الحصن، كما أن الإمدادات التي كان ينتظرها المقوقس من البيزنطيين قد تأخرت أو أنها لن تأتي، فشاور أصحابه في إرسال وفد لمفاوضة المسلمين، وقد كان.
عاد أعضاء الوفد بعد يومين حاملين رد عمرو، وهو يخير المقوقس أحد 3 أمور، إما الدخول في الإسلام أو الجزية أو القتال، فاستبعد المقوقس وجماعته الخيارين الأول والثالث، وقبل الدخول في الصلح، وطلب من عمرو إرسال وفد للتفاوض، فأرسل إليه عبادة بن الصامت، فطمأنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية.
لم تكن الموافقة على الاستسلام والجزية عامة، وانبرى فريق من الجند للمقاومة، فأراد المقوقس المواءمة بين الأمرين فاشترط شيئين، أولهما موافقة الإمبراطور، والآخر تجميد العمليات العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية.
فشل المقوقس في إقناع هرقل بوجهة نظره بشأن الصلح مع المسلمين، فاتهمه الإمبراطور بالتقصير والخيانة والتخلي للمسلمين عن مصر، ونفاه وشهّر به ورفض عرض الصلح مع المسلمين، لكنه وقف عند هذا الحد، فلم يرسل مددا إلى مصر، ولم يفعل شيئا من تنظيم الدفاع عن هذا البلد لرفع معنويات جنوده.
علم المسلمون برفض هرقل عهد الصلح، فانتهت بذلك الهدنة، واستأنف الطرفان القتال، وكان المدافعون عن الحصن قد قل عددهم بسبب فرار كثير منهم إلى الإسكندرية، ولم تأتهم نجدة من الخارج وبدأ المرض ينتشر بينهم، وانتهى فيضان النيل وغاض الماء عن الخندق حول الحصن، فأضحى بمقدور المسلمين الآن أن يهاجموه.
وصمد المدافعون عن الحصن بضعة أشهر أخرى حتى أتاهم نبأ وفاة هرقل في ربيع الأول سنة 20 هجرية الموافق لفبراير/شباط 641 م، فاضطربوا لموته وتراجعت قدراتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في 21 ربيع الآخر 20 هـ الموافق للتاسع من أبريل/نيسان 641 م، واعتلى الزبير بن العوام السور، فكبّر وكبر المسلمون معه.
وقد صالح عمرو بن العاص من تبقى منهم وكتب “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم، والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة، شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان (مولى عمرو بن العاص) وحضر”.
معالم
تركت عدة حضارات بصمتها في الموقع، فمنطقة مصر القديمة تعد من أبرز المناطق التاريخية والحضارية في مصر، ولأهميتها فقد أُدرجت في قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 1979 ميلادي، وتحيط بحصن بابليون العديد من الآثار المهمة، من أبرزها:
- أطلال مدينة الفسطاط
بناها عمرو بن العاص عام 21 هجري، وتعد من أقدم المدن الإسلامية في مصر، وكانت عاصمة مصر الحضارية حتى عام 1169 ميلادي، وتقع هذه الأطلال إلى الشمال من حصن بابليون خلف جامع عمرو بن العاص.
- قباب السبع بنات
أقدم الأضرحة الفاطمية في مصر، وتقع في جنوب الفسطاط، وترجع لعام 1010 ميلادي، سميت بهذا الاسم لأنها تعود إلى بنات أبي سعيد المغربي أحد وزراء الخليفة الحاكم الذي انتقم منه بقتل جميع أفراد عائلته في مذبحة حدثت ذلك العام.
- جامع عمرو بن العاص
أول جامع بني في مصر وأفريقيا على يد عمرو بن العاص عام 21 هجري، وتحيط به خطط الفسطاط من 3 جهات ويطل على نهر النيل، ويشبه في بنائه مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث يتكون من مستطيل مكشوف وتحيط به أروقة من الجهات الأربع.
- مسجد محمد الصغير
يرجع المسجد إلى محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وهو من المساجد المعلقة التي يُصعد إليها بدرج، ويقع مدخله الرئيسي في الجهة الجنوبية الغربية.
- كنائس دير مار جرجس
تسمى الكنيسة المعلقة، وهي أهم كنائس مصر، وترجع إلى القرن التاسع الميلادي، أي ما بعد الفتح الإسلامي لمصر، وسميت بهذا الاسم لبنائها على برجين من أبراج الحصن الروماني بابليون.
- كنيسة دير أبي سيفين
تقع شمال حصن بابليون، وهدمت الكنيسة في القرن الثامن الميلادي، وتبقت كنيسة صغيرة باسم القديسين يوحنا المعمدان ويعقوب، وفي زمن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي تم تجديدها ثم أحرقت عام 1868 ميلادي.
- كنيسة الست بربارة
يرجع تاريخ هذه الكنيسة إلى القرنين الرابع والخامس الميلادي، وتقع داخل دير مار جرجس، وتنسب إلى القديسة بربارة التي قتلت على يد ابنها بعد اعتناقها الدين المسيحي.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.