نابلس- ينتابه شعور بالحزن والأسى كلما استذكر الحاج نافذ بني جابر (أبو ماهر) أرضه في منطقة “دامية” في قرية عقربا قرب نابلس بالضفة الغربية، ويزداد حزنا كلما يرى كيف أضحت سهولها في قبضة حفنة من المستوطنين يعيثون بها فسادا ويحرمونه وأهالي قريته من فلاحتها أو حتى الوصول إليها، بل إنهم صاروا يسترقون النظر إليها من بعيد.
وأكثر مرارة من الحرمان من الأرض هو آلية مصادرتها التي اتبعها الاحتلال وتهجير أصحابها، وكان أخطرها عبر تسميم أراض فلسطينية بالضفة الغربية مطلع سبعينيات القرن الماضي، بهدف طرد سكانها وبناء المستوطنات عليها، كحال السهول الشرقية لبلدة عقربا، وفق ما كشفته وثائق أرشيفية رفعت عنها السرية أخيرا ونشرتها صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية مؤخرا.
ووفق الصحيفة الإسرائيلية فقد تصدر خبر تسميم الأراضي عناوين الصحف لفترة وجيزة عام 1972، لكن ذلك لم يمنع الاحتلال من مواصلة مشروعه التهويدي وتشييد مستوطنة “جيتيت” على أراضي القرية المصادرة.
وبعد 51 عاما لم ينس الحاج أبو ماهر مجزرة الاحتلال بأرضه، ولا يزال يذكر موقعها وغيرها في سهل دامية والسهول المجاورة كالروَّاع والمطارق وخلة الراهب ومزدارين.
تسميم الأرض
عن قرب استعادت الجزيرة نت ذكريات “أليمة” مرَّ بها الحاج أبو ماهر (84 عاما) عندما سمَّم الاحتلال أرضه أمام عينه وأقاموا عليها مستوطنة “جيتيت”، وانطلقنا رفقته إلى الجبل المقابل، حيث يمكننا رؤيتها والتقاط الصور دون ملاحقة من جنود الاحتلال ومستوطنيه.
وبتنهيدة عكست حزنا عميقا، راح أبو ماهر يروي لنا حادثة التسميم آنذاك، قائلا “بدأت عمليات الرش في ساعات الصباح الباكر عبر طائرات ضخمة، ورأيت ذلك بعيني، فقد كنت أرعى أغنامي”.
ويضيف الحاج أبو ماهر “فعلوا ذلك عدة مرات وعلى مدار 3 أيام متتاليات، وبعدها بدأت المحاصيل تجف وتتساقط، ورفضت المواشي أكلها، ما يؤكد أنها أبيدت بمواد سامَّة”.
بعد ذلك لجأ الاحتلال لوضع يده على الأرض بشكل مباشر وتحويلها لمناطق عسكرية، وبدأ بالأراضي المصنفة بأنها “أملاك غائب”، ومن ثم توسيع رقعة المصادرة، فاستولى على 20 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع) من أرضه في قرية “دامية” لصالح مستوطنة “جيتيت”، ثم أتبع ذلك بمصادرة لمئات الدونمات في المناطق المجاورة.
قتل الماشية
ثم تتالت النكبات بعد أن وسَّع ونوَّع المستوطنون رفقة جيش الاحتلال اعتداءاتهم، فأعدموا أمام عين أبي ماهر 11 رأسا من أغنامه، بعد أن أطلقوا النار عليها مباشرة، مضيفا “ومرة أثناء مناورة عسكرية لهم، أطلق جنود الاحتلال قنابل متفجرة من دبابتهم فقتلوا 10 من رؤوس الأبقار خاصتي، بكلفة قدرت آنذاك بأكثر من 15 ألف دولار أميركي”.
وللمفارقة يقول أبو ماهر إنه قدَّم شكوى لدى المحكمة الإسرائيلية، حيث قضت لصالحه، متابعا “صحيح أنهم لم يعوضوني سوى بثمن بقرة واحدة، لكن الأهم أنهم اعترفوا بجريمتهم كما يعترفون الآن بعد 51 عاما بتسميم الأرض والمزروعات”.
ولم يقف الأمر عند قتل المواشي، بل صعَّد الاحتلال لتعجيل عملية الاستيطان في تلك المنطقة عبر مستوطنة “جيتيت”، فأجرى مصادرات جماعية للمواشي عبر تحميلها بشاحنات كبيرة ونقلها لمعسكراته، واعتقال رعاة الأغنام وحبسهم وتغريمهم بدفع أموال طائلة، قدرت بأكثر من 15 دولارا أميركيا عن كل رأس في حينها.
ويذكر أبو ماهر جيدا كيف أقدم المستوطنون عام 1990 على قتل 150 رأسا من أغنامه، ولغيره الكثير، “عبر وخزها بإبر سامة بشكل مباشر”.
وعلى وقع تلك المضايقات والتهجير من الأرض، نزح المواطنون لمنطقة “خربة الطويل” القريبة من مستوطنة “جيتيت”، إلا أن الاحتلال استمر بملاحقتهم هناك وهدم منشآتهم السكنية والزراعية وحظائر الأغنام مرات عديدة، حتى إنه هدم مسجد الخربة عام 2014.
أساليب الطرد
ويقول المواطن باسم دلة من خربة الطويل إن الاحتلال انتهج أساليب كثيرة لطردهم، وإن تسميم الأرض وقتل المواشي ومصادرتها وتغريم أصحابها جزء من ذلك، إضافة لمصادرة المعدات الزراعية وهدم البيوت والمنشآت وخدمات البنية التحتية واعتقالهم.
ويستذكر دلة كيف اعتقل الاحتلال مواطنين عبر الإنزال عليهم من الطائرات واقتيادهم لمعسكراته وتغريمهم أموالا ضخمة، ثم تحويل مناطقهم لتدريبات عسكرية، وتقليص مساحات الرعي الخاصة بمواشيهم، والاستيلاء على الأرض “الاستيطان الرعوي”.
ويقول دلة للجزيرة نت “فقد المواطنون أرضهم وماشيتهم، فمن أكثر من 20 ألف رأس في عقربا، لا يوجد سوى أقل من 15 ألفا، أكثر من نصفها يعيش داخل البيوت، فلا مراعي لها”.
ومن أصل 144 ألف دونم -هي مساحة أراضي عقربا الحدودية مع الأردن- صادرت إٍسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 أكثر من 70% من أراضي القرية بحجة أنها مناطق عسكرية أو أملاك غائبين.
ثم توسع الاحتلال، حيث لا يوجد الآن سوى أقل من 20 ألف دونم خارج المصادرة، وفق دلة، وكلها لصالح المستوطنات مثل مجدليم وإيتمار ومعالي إفرايم وغيرها.
حرق المحاصيل
ما رواه أبو ماهر ودلة وثَّقه ابن القرية حمزة العقرباوي الباحث والمؤرخ الفلسطيني، الذي يقول إن الاحتلال صادر بداية أراضي عقربا الحدودية مع نهر الأردن، وأغلبها أملاك وقفية للكنائس والأوقاف الإسلامية، ثم طوّقها بالسياج منعا لتسلل الفدائيين وغيرهم.
ثم شرع بتشييد معسكرات الجيش في مساكن المواطنين ورعاة الأغنام بعد أن طردهم منها بقوة السلاح، كما ادعى أنها مناطق تدريب عسكري ومحميات طبيعية، ثم منحها لاحقا للمستوطنين.
ويقول عقرباوي للجزيرة نت “أقيمت جيتيت كمستوطنة زراعية فوق أرض خلة عصيم، وتحول سهل لفجم الأكثر خصوبة لمزارع للمستوطنين، وإلى الآن لا تزال مساكن الفلسطينيين شاهدة على جريمة الاحتلال”.
ولكن الأكثر تطرفا وعنفا، وفق رأي الباحث العقرباوي، تعمد الاحتلال حرق المحاصيل الزراعية وقت نضوجها وطرح غلتها، والتي جاءت عقب سنوات من القحط وقلة المطر، وقد احتج أهالي القرية ضد الاحتلال، لكن بدون جدوى.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.