في يوم 14 مايو/أيار عام 1950، توجَّه الأتراك إلى صناديق الاقتراع الحُرَّة والشفافة لأول مرة في تاريخهم، وقد قرَّرت السلطات التركية تبكير موعد عقد انتخابات الرئاسة والبرلمان لهذا العام من شهر يونيو/حزيران إلى هذا التاريخ، تيمُّنا بالماضي الديمقراطي الطويل للبلاد، التي لم تُزوَّر انتخابات واحدة فيها منذ عام 1950 إلى يومنا هذا رغم تكرُّر التدخُّلات العسكرية، وهي انتخابات تواكب أيضا الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية (عام 1923).
تضافرت الذكريات والسِّمات الرمزية إذن لتصبغ صراعا على تمثيل الشعب التركي بين تحالفيْن لا يبدو من اسميْهما اختلاف كبير لأول وهلة: أولهما تحالف “الجمهور” الحاكم بقيادة حزب العدالة والتنمية (AKP) وزعيمه الرئيس الحالي “رجب طيب أردوغان”، بالإضافة إلى حزب الحركة القومية (MHP) وزعيمه “دولت بهتشلي”، وثانيهما تحالف “الشعب” بقيادة حزب الشعب الجمهوري (CHP) الذي يتزعمه المرشح الرئاسي “كمال كليجدار أوغلو”، وحزب “الجيِّد” بقيادة زعيمته “ميرال أكشنار”.
مُجددا، توجَّه الملايين من الناخبين الأتراك إلى صناديق الاقتراع ومنحوا الثقة لحزب العدالة والتنمية، تماما كما دأبوا على مدار أكثر من عشرين عاما من هيمنة الحزب شبه المُطلقة على الحياة السياسية منذ صعوده عام 2002. بيد أنهم على ما يبدو لم يمنحوا ما يكفي من الأصوات للرئيس رجب طيب أردوغان، الذي اقتنص المركز الأول كما ذهبت التوقعات، لكن دون أن يعبر عتبة الـ50%، مما يعني اتجاه الانتخابات الرئاسية إلى جولة الإعادة في يوم 28 مايو/أيار الحالي. احتفظ التحالف الحاكم بالصدارة بهامش ضئيل أيضا أصغر من ذلك الذي تفوَّق به في انتخابات 2018، ما يعني استمرار التراجع البطيء لشعبية الحزب الحاكم -وهو اتجاه كشفته سابقا الانتخابات المحلية لعام 2019- لا سيما في المُدن الكبرى إسطنبول وأنقرة اللتيْن يحكم كلٌّ منهما اليوم عُمدة من الحزب المعارض، ما دفع ببعض المحللين للقول إن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لهذا العام لن تكون سهلة المنال، وإنها ستصل إلى جولة الإعادة بين الرئيس رجب طيب أردوغان، على رأس تحالف الجمهور، ومنافسه كمال كليجدار أوغلو، زعيم تحالف الشعب المكوَّن من ستة أحزاب.
وقد عزَّز من تلك التوقُّعات بصعوبة الانتخابات خروج الكثيرين من رجال ومؤسسي حزب العدالة والتنمية القدامى وحلفاء أردوغان التقليديين طيلة السنوات الماضية، وتأسيسهم أحزابا معارضة انضمت إلى تحالف الشعب. وعلى رأس هؤلاء وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق “أحمد داوود أوغلو”، وحزب “المستقبل” (Gelecek) الذي أسسه عام 2019، ووزير الاقتصاد الأسبق “علي باباجان”، وحزب “الديمقراطية والتقدُّم” (DEVA) الذي أسسه عام 2020، وأخيرا، والأكثر مفاجأة، “تمل قره ملا أوغلو” ابن المدرسة الإسلامية التقليدية التي أسسها أربكان في السبعينيات ورفضت منذ البداية الانضمام إلى ركب العدالة والتنمية في مطلع الألفية، حيث انضم الرجل مع حزبه “السعادة” (Saadet) إلى تحالف الشعب وزعيمه كليجدار أوغلو.
تجدر الإشارة إلى أن ثلاثة فقط من الرجال المؤسسين لحزب العدالة والتنمية ترشحوا هذا العام على قائمة الحزب للانتخابات البرلمانية، فيما انزوت معظم الأسماء القديمة إما لتقاعدها وإما لرغبة الحزب في تنحيتها لصالح وجوه جديدة. علاوة على ذلك، يضم تحالف الجمهور، بخلاف العدالة والتنمية والحركة القومية، حزبيْن صغيريْن هما حزب “الاتحاد الكبير”، القومي ذو الميول الإسلامية والنشط في قلب الأناضول منذ التسعينيات، وحزب “الرفاه من جديد”، الذي يتزعَّمه “فاتح أربكان”، نجل نجم الدين أربكان، حيث تأسس عام 2018 في محاولة لمنازعة حزب السعادة هيمنته على إرث أربكان ومدرسته السياسية، لا سيما بعد أن اتجه السعادة نحو التحالف مع الشعب الجمهوري.
النتائج.. خريطة قديمة جديدة
حلَّ أردوغان في المركز الأول بنسبة 49.42%، وهي نسبة أقل مما حصل عليه في انتخابات عامَيْ 2014 و2018 حين حسم السباق من الجولة الأولى، في حين حلَّ ثانيا كليجدار أوغلو بنسبة 44.95% بعد فرز 99% من الأصوات تقريبا، ثم حلَّ المرشح القومي المتطرف “سينان أوغان” في المركز الثالث والأخير فعليا بنسبة 5.25%، وهو مرشح تحالف “الأجداد” (ATA) الذي لم ينجح في الحصول على أكثر من 2.5% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية التي جرت بالتوازي مع الرئاسة. أما المرشح “مُحرَّم إنجه” فلم يحصل على أكثر من رُبع مليون صوت لم تتجاوز النصف في المئة، بسبب إعلانه الانسحاب من السباق الرئاسي في اللحظات الأخيرة، إذ لم يكن أمام لجنة الانتخابات فرصة لرفع اسمه من بطاقات الاقتراع قبل موعد الانتخابات. وقد صرَّح أوغان بعد خروجه المتوقع من السباق بأنه سيمنح ثقته في الإعادة للمرشح الأشد تمسُّكا بمواجهة التنظيمات الإرهابية مثل حزب العمال وحركة فتح الله كولن، ما فسَّره البعض بأنه انحياز ضمني للرئيس التركي أردوغان.
على صعيد الانتخابات البرلمانية، حقق تحالف الجمهور الحاكم التفوُّق بهامش ضئيل بحصوله على نسبة 49.4%، وهي نسبة أقل من تلك التي حصل عليها عام 2018 (نحو 60%)، فيما يعتبره كثيرون صدى للأزمة الاقتصادية، لكنه احتفظ في الأخير بأغلبيته البرلمانية، إذ إن الأحزاب التي حصلت على أقل من 7% من أصوات الناخبين في عموم تركيا ولم تكن جزءا من قائمة موحَّدة تُوزَّعت أصواتها على الفائزين، ومن ثمَّ فإن التحالف الحاكم أمَّن لنفسه نحو 320 مقعدا أو يزيد من أصل 600 مقعد في مجلس الأمة الكبير كما يُعرف رغم عدم تجاوزه نسبة الـ50%.
مصداقا للتوقعات أيضا، حصل تحالف الشعب المعارض على نسبة 35.5% تقريبا من أصوات الناخبين، وهي نسبة أكبر من تلك التي حصل عليها عام 2018 (32.6%)، بما يكافئ 210 مقاعد أو يزيد، ومن ثمَّ سيكون بذلك الكُتلة المُعارِضة الرئيسية في البرلمان. وثالثا حلَّ تحالف “العمل والحرية” الذي يتزعَّمه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من معاقله في الجنوب الشرقي، حيث شكَّل تحالفا يساريا بالتعاون مع حزب العمال التركي، وحزب العمل الماركسي النشط منذ التسعينيات، وحزب “اليسار الأخضر” الذي تأسس عام 2012، وأحزاب أخرى صغيرة. وحصل التحالف الجديد على نحو 10.5% من أصوات الناخبين في عموم تركيا، وهي نسبة جيدة بالمقارنة مع العُزلة السياسية التي طالما عانت منها الأحزاب الكُردية، والحضور المحدود للأحزاب اليسارية والماركسية التقليدية منذ نهاية تجربة يسار الوسط التي تزعَّمها رئيس الوزراء الأسبق “بولنت أجاويد” في سبعينيات القرن الماضي.
على مستوى الأحزاب منفردة، حصل العدالة والتنمية وحده على نحو 35.5%، ثم الشعب الجمهوري على نحو 25.4%، ثم حزب الحركة القومية على 10.05%، ثم حزب الجيِّد على 9.75%، ثم اليسار الأخضر على 8.8% (وهو يضم أصوات الأكراد من داعمي حزب الشعوب)، ثم حزب الرفاه الجديد على 2.8%، ثم حزب العمال التركي على 1.7%. وتجدر الإشارة إلى أن الأحزاب الأربعة التي تحالفت مع الشعب الجمهوري وحزب الجيِّد (المستقبل، والديمقراطية والتقدُّم، والسعادة، واليسار الديمقراطي) شاركت بمرشيحها تحت لواء الشعب الجمهوري، ما يعني أن لها نصيبا من مقاعد الحزب. فقد ترشَّح 25 عضوا من حزب الديمقراطية والتقدُّم ببطاقة الشعب الجمهوري، وكذلك فعل 24 عضوا من حزب السعادة، و19 عضوا من حزب المستقبل. ورغم ما يبدو من متانة التحالف المعارض للرئيس التركي، يظل احتمال انفصال مَن وصل من هؤلاء إلى البرلمان وانضمامه إلى الحكومة قائما ولا يمكن استبعاده.
لا تبدو خريطة النتائج للوهلة الأولى مختلفة كثيرا عن سابقاتها، فقد هيمن العدالة والتنمية كما هي العادة في قلب الأناضول كله تقريبا، وبطول ساحل البحر الأسود، في حين سيطرت المعارضة على معاقل حزب الشعب التقليدية بطول ساحلَيْ البحر المتوسط وبحر إيجه. وكانت المفاجأة المتوقعة جزئيا تصويت إسطنبول لصالح منافس أردوغان في انتخابات رئاسية للمرة الأولى، وهي خسارة دلالتها قوية على تراجع دعم الحزب الحاكم في المدينة الأهم والأثقل في البلاد.
الأكراد والأتراك بالخارج
وعلى عكس ما اعتدناه من تفرُّد الجنوب الشرقي ذي الأغلبية الكُردية بمرشحه الخاص، فإن حزب الشعوب لم يرشح رئيسه هذه المرة في السباق الرئاسي، وأتى التصويت في تلك المناطق صاحبة العلاقة التاريخية الباردة على أحسن تقدير مع حزب الشعب الجمهوري لصالح كليجدار أوغلو بوصفها مفاجأة تاريخية نوعا ما، لكن التحالف المنطقي غير المُعلَن (بين الحزب الكردي وحزب الشعب) لم يخفَ على كثيرين من متابعي الشأن التركي، لا سيما مَن تابعوا الانتخابات المحلية لعام 2019 ورأوا النمط نفسه من اتجاه الأكراد نحو مرشح المعارضة في إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ومساهمتهم الكبيرة في الميل بالكفة إلى صالحه.
ويُمكن تفسير هذا التغيُّر الأبرز الذي عرفته الحياة السياسية التركية بمجريات الأحداث منذ عام 2015، حين خسر العدالة والتنمية أغلبيته المُطلقة في البرلمان للمرة الأولى آنذاك، واضطر للدخول في تحالف من أجل تشكيل حكومة، وهي لحظة عدَّها كثيرون نقطة تحوُّل، حيث اتجه على إثرها الحزب للتحالف مع القوميين ومع حزب الحركة القومية المناهض للأكراد. وقد فسر أنصار العدالة والتنمية هذا التحول في العلاقة بسلوك حزب العمال الكردستاني الذي أخذ يستغل الأوضاع الجديدة في شمال سوريا لصالحه، ومن ثمَّ لعب بورقة حضوره هناك في مفاوضاته مع الدولة التركية بشكل رأته الحكومة التركية غير مقبول.
خسر أردوغان أيضا ولاية “هطاي” بهامش ضئيل جدا، وهو ما قد يعزوه البعض إلى تداعيات الزلازل التي ضربت الولاية. بيد أن تلك ليست المرة الأولى التي يخسر فيها أردوغان ولاية “هطاي”، التي فاز بها في مواجهة “مُحرَّم إنجه” عام 2018، حيث ظهرت المعارضة حينها بأداء ضعيف عموما عزاه كثيرون إلى عدم قدرة الرجل على إثبات حضوره الجماهيري. أما في عام 2014، وحين التفت المُعارضة حول الإسلامي “أكمل الدين إحسان أوغلو”، الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ورغم أن شعبية أردوغان كانت لا تزال في ذروتها بالمقارنة مع السنوات الأخيرة التي شهدت تفاقم الأزمة الاقتصادية، فإن المعارضة نجحت في اقتناص “هطاي” وكل الولايات الساحلية المُطلة على البحر المتوسط وبحر إيجه. بيد أن تحالف الجمهور هو مَن نجح في الفوز بأغلبية الأصوات البرلمانية بالولاية على حساب تحالف الشعب المعارض للمفارقة.
أخيرا، انتظر كثيرون أن تلعب أصوات الأتراك المقيمين بالخارج دورا محوريا في حسم السباق لصالح أردوغان بفارق ضئيل، إذ شارك الأتراك بالخارج بنسبة مشاركة غير مسبوقة منذ عام 2011 بلغت 53%، بإجمالي مليون و817 ألف صوت تقريبا. والجالية التركية الأكبر موجودة في ألمانيا، التي استقبلت أعدادا كبرى من الأتراك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا تزال تستقطب مئات الآلاف من الطبقات العاملة التركية، وقد صوَّت أغلبهم لصالح أردوغان وحزب العدالة والتنمية كما جرت العادة بنسبة بلغت 56% تقريبا وبإجمالي 773 ألف صوت حتى اللحظة، في حين حصل كليجدار أوغلو على 40.7% بإجمالي أصوات 560 ألفا حتى اللحظة.
ما من مفاجآت مدوية إذن في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، بل تعزيز للنمط الذي بدأ منذ عام 2015 ووصل إلى ذروته في 2019، الذي يتسم بتراجع نسبي لقدرة العدالة والتنمية على الهيمنة السياسية منفردا كما فعل في العقد الأول لحُكمه، رغم أنه أثبت مجددا أنه لا يزال الحزب الأكثر شعبية بفارق ملحوظ على الساحة التركية. يُضاف إلى ذلك تحوُّل المدن الكبرى ناحية دعم المعارضة في السباقات المرتبطة بالشخصيات السياسية، مثلما حدث في انتخابات الرئاسة بالأمس وفي انتخابات عمودية إسطنبول وأنقرة سابقا، في حين تشي الانتخابات البرلمانية بأن لواء الحزب الحاكم فيها لا يزال حاضرا وجاذبا لثقة الناخبين، بالتزامن مع زيادة طفيفة في حضور الشعب الجمهوري مع ظهور أجيال جديدة تجاوزت العداء التاريخي للمسلمين المحافظين مع حزب الشعب الجمهوري بسبب سياساته المُعادية للتديُّن الإسلامي في المجال العام في الماضي، لا سيما طيلة التسعينيات والعقد الأول من الألفية. بطبيعة الحال، تزايد حضور الأزمة الاقتصادية على ما عداها من قضايا ثقافية أو إقليمية، جنبا إلى جنب مع تحالف الأكراد الضمني مع المعارضة في خضم تبني الحزب الحاكم سياسة المواجهة ضد حزب العمال الكردستاني وحلفائه. وهي تحوُّلات حالت لأول مرة دون فوز أردوغان بالرئاسة من الجولة الأولى، رغم أنها لم تعرقل الحزب عن حماية تفوُّق تحالفه الذي تراجع عدد مقاعده فقط عن انتخابات العام 2018 ليس إلا.
من المؤكد أن جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية لن تكون سهلة، ولكن بالنظر إلى مؤشرات التصويت في الجولة الأولى، يبدو الرئيس أردوغان أقرب إلى الاحتفاظ بمقعده، خاصة إذا قرر المرشح سينان أوغان وأنصاره التصويت له أو البقاء على الحياد. لكن أردوغان، حال فوزه، سوف يجلس على عرش تركيا في ثوب مغاير إلى حدٍّ كبير لذلك الذي دخل به إلى السلطة في البلاد قبل نحو عقدين. فقد صار سياسيا محافظا أكثر من كونه إصلاحيا، وأقرب للأوراسيين من أنصار التحالف مع الغرب، كما أنه صار قوميا أكثر من ذي قبل. وفي حال نجح أردوغان في حكم تركيا لفترة جديدة فإنه سوف يكمل رُبع قرن لم يسبقه إليها أحد في تاريخ الجمهورية، وبل ولم يسبقه إليها طيلة القرنين الماضيين من التاريخ الحديث سوى السلطانين “عبد الحميد الثاني” و”محمود الثاني”. غير أنها سنوات ستُطرَح فيها بشدة مسألة خليفته أكثر من أي وقت مضى، إذ لا يُمكن للرجل أن يُرشح نفسه مجددا عام 2028، بسبب القيود الدستورية، وبسبب سِنِّه الكبيرة أيضا. في غضون أسبوعين إذن سوف تغلق أبواب السباق على السلطة في تركيا حتى 2028، لكن يُفتح على مصراعيه سؤال خلافة الرئيس الأطول حُكما في تاريخ تركيا.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.