“لولاكِ أنتِ لكان العيش أجمعه .. سحابة من حميم آسن آني”
(عبد الله الطيب في إهدائه لكتابه “الحماسة الصغرى” لـ”زوجه الفضلى” جريزلدا الطيب)
يجلس بين الجموع متحدثا بلغة عربية فصيحة، يتأمل في آيات القرآن أو يتحدث عن تعليم العربية في أفريقيا، هذا أول ما فُتنت به، ولذلك لا عجب أن تبدأ به حكايتها، فهي لا تكتمل إلا بسيرته، كما لا تكتمل سيرة العلامة والشاعر السوداني عبد الله الطيب إلا بجريزلدا، رفيقة دربه التي قدِمت من بريطانيا لتكمل حياتها إلى جواره، عروبته كانت أول ما لفت نظرها إليه وهو يتحدث في جامعة لندن حيث كان لقاؤهما الأول بعد الحرب العالمية الثانية، كان يمثل لها سحر الشرق وحكايات ألف ليلة وليلة، هناك بدأت الحكاية وفي السودان كانت الخاتمة لقصة حب لا تتكرر جمعت العلامة السوداني عبد الله الطيب بالفنانة وعالمة الأنثروبولوجيا جريزلدا الطيب.(1)
الهجرة إلى لندن
كان عبد الله الطيب (1921-2003) أحد أبناء الجيل الأول الذي رحل عن السودان ليتلقى تعليمه في لندن، في وقت أُرسلت خلاله نخبة من الشباب السودانيين اختيروا بعناية للذهاب إلى جامعة لندن، في ظل الاستعمار البريطاني للسودان، يحتكون هناك بالمجتمع ويعيش كلٌّ منهم حكايته. هناك التقى الطيب بطالبة الفنون البريطانية في جامعة لندن عام 1945، ويبدو أن اللقاء الأول كان بداية الصحبة الطويلة، حيث لفت حضوره نظرها، وجذب حديثه مسامعها. (2)
“آويتني حين لا قربى ولا نسب .. إلا الوداد وحب ليس بالواني”
(من شعر الطيب في جريزلدا)
بدا الزواج صعب المنال، فالطيب يرعى أشقاءه، وجريزلدا لن تجد قبولا من أسرتها، لذا ظل اللقاء بينهما بعيدا عن أنظار الأسرة، قبل أن تخبرهم برغبتها في الزواج منه، تحكي جريزلدا كيف أخبرتها أمها حين رأته قادما: “إنه يشبه القتلة”، وكيف مضى والدها نحو وكيل حكومة السودان البريطاني، بحثا عن حل جذري بنفي الشاب السوداني خارج البلاد، لكن وكيل الحكومة أخبره أن الرجل من عائلة كبيرة في السودان (آل المجذوب)، وأن له مستقبلا باهرا، وهكذا ارتاح الأب قليلا للزواج الذي تم عام 1948، في عام 1960 سيطمئن قلب الأب أكثر حين يتعرف على مكانة الطيب الكبيرة في بلده.
الانتقال إلى السودان كان مرهقا للفتاة الإنجليزية، تذكر كيف استغرق الأمر أياما عبر الباخرة إلى بورتسودان، ثم عبر القطار من بورتسودان حتى الدامر، تذكر أول مرة رأت فيها المراوح في أحد الفنادق في بورتسودان، كما تذكر الطعام الذي لم يَرُقْها، وكيف اتفق زوجها مع طباخ مختص ليقدم لها الأطباق التي تعرفها، وتحكي عن صدمتها من التجمعات التي فرضت أحيانا -وفق العادات- الفصل بين الرجال والنساء، فكانت تجد نفسها وحيدة، رغم الابتسامات اللطيفة من النساء المرحبات. (3)
بعد قليل سيذوب الجليد، وستتقن جريزلدا الحديث بالعربية، وتندمج في عائلة الطيب لتصبح واحدة منها، وتندمج في المحيط الأكبر في السودان ويكون لها بصمات وجهود لا تُنسى.
هو يكتب وهي ترسم
خلال رحلة الطيب التي أسهم فيها في مجالات الفكر والأدب واللغة العربية، كانت جريزلدا التي لا تعلم الكثير عن العربية تتدخل برأيها في أمور فارقة، ليس فقط عبر إحاطته بالرعاية ومساعدته في تنظيم أوقاته ليفرغ لمؤلفاته في الشعر والأدب واللغة، فقد كانت هي التي أشارت عليه بتعلم اللغة الفرنسية، كما فكرت عندما أنجز أحد أهم كتبه “المرشد في فهم أشعار العرب وصناعتها” بأن يتولى الدكتور طه حسين كتابة المقدمة له، وهو ما حدث بالفعل، فانتقلا معا إلى القاهرة للقاء عميد الأدب العربي وعرض الكتاب عليه.(4)
وعندما تُرجم كتابه “الأحاجي السودانية” إلى الإنجليزية عام 1965، تولت جريزلدا رسم لوحات توضيحية للقصب الأحمر والغول وغيرها من الأساطير التي كانت الجدات تحكيها للأطفال في المساء فتشحذ الخيال وتمتع الصغار، كما تولت تصميم رسوم مؤلفه “نافذة القطار” وبعض المسرحيات الأخرى.
“وأحطتني منك بالعطف الجميل فقد .. رقّت بزهر الرضا والبر أغصاني”
امتد حب جريزلدا من عبد الله الطيب إلى السودان بأسره، فكتبت العديد من المقالات توثق تراث السودان، وهي التي عاشت فيه عقودا طويلة، في كتابها “الملابس التقليدية في السودان” كتبت ورسمت الأزياء السودانية التي كادت تندثر اليوم، الكتاب الذي كان جزءا من رسالتها للحصول على الماجستير في الفلكلور والرسم. (5)
كان الكتاب نتيجة بحث ميداني جمعت فيه جريزلدا عادات وتقاليد عدد من الجماعات العِرقية في شمال وشرق البلاد في المناسبات الاجتماعية المختلفة، وضمنته سجلا شاملا ومصورا للأزياء السودانية الوطنية؛ “القُرباب” و”الفِدَو” و”الزُمام” و”الحجبات”، وقد رصدت التغير في الأزياء منذ قدومها مع مرور السنوات.
درست جريزلدا علم الأجناس، وخلال عمرها الطويل في السودان كانت لها أنشطة مجتمعية ثقافية وفنية، إلى جانب عملها في التدريس في أقسام الفنون التي ساهمت في تأسيسها، وسعت نحو تطوير حضور الفن في الثقافة السودانية والتعريف بكبار الفنانين السودانيين، خاصة أن أغلبهم كان يعيش خارجه.(6)
جريزلدا.. جوهرة
تكتمل روعة الحكاية بمرور الأعوام، هي التي قالت في أحد اللقاءات معها إنها كانت محظوظة بالزواج من الطيب. في عام 1974، وبعد عمر طويل من التعرف على اللغة العربية والثقافة السودانية، كانت جريزلدا ترافق الطيب إلى نيجيريا لتأسيس كلية اللغة العربية بجامعة عبد الله بايرو بمدينة كانو، أعلنت جريزلدا إسلامها في ليلة رمضانية تجمّع فيها أحبابها من أبناء العائلة وتلاميذ الطيب بصحبة مفتي نيجيريا الدكتور حسن جوارزو، الذي أطلق عليها اسم “جوهرة”، وكانت هديته بطاقتَيْ سفر للزوج إلى مكة المكرمة لأداء العمرة.
أما هدية الطيب فكانت منزلا أنيقا في أحد أحياء الخرطوم الراقية، صنعاه معا بمحبة، ووضعت جريزلدا اللمسات الفنية فيه، وإن ظلت الإقامة الأساسية لهما بمسكن الأساتذة التابع لجامعة الخرطوم. (7)
“لكِ التحيات أهديها ومكرمة .. من الفؤاد وموموقات أوزاني”
في عام 2003، توفي عبد الله الطيب، وعاشت جريزلدا بعد وفاته نحو 20 عاما حارسة أمينة لتراثه، تروي سيرته، وتحفظ مؤلفاته، وخاضت جريزلدا خلال تلك السنوات معارك قانونية لاستعادة كتابه “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها”، حيث عثرت على نسخ مقلدة منه، وذكرت أن بعض مؤلفاته تعرضت للسرقة، وسعت لترى كل مؤلفات زوجها الراحل النور، إذ كان له ديوانان من الشعر لم يُطبعا بعد.(8)
يستبق الشاعر والصحفي جعفر حامد البشير الأحداث وهو يواسيها فيخبرها: “الشعب السوداني لن يتركك تغادرين السودان”، لتؤكد له أنها لم تفكر في الأمر أصلا: “كيف أترك بلدي الذي عشت فيه أكثر من سبعين سنة إلى غيره؟”، كانت هذه إجابتها عند سؤالها عن بقائها في السودان بعد رحيل الطيب، كانت تتحدث عن مسؤولياتها العائلية نحو أحفادها -أبناء أبناء إخوته- وعن حبها للبلد الذي كوَّنت فيه صداقاتها، وتؤكد أن وجودها فيه هو الأصل، وتُقدِّر أنهم يرعون كبار السن ويحترمونهم. (9) (10)
عمر طويل للطيب
في الذكرى الحادية عشرة لوفاته، كتب الدكتور عبد القادر محمود عبد الله، أستاذ الدراسات النقدية، كتابه “عبد الله الطيب وجريزلدا: العثور على الذات الأخرى”، مؤكدا أن كتابه ليس عن الطيب وحده، وأنه سمع قصتهما من السيدة جريزلدا بالأساس، ثم من السيرة الذاتية للطيب ومن أشعاره أيضا، ربما كانت جريزلدا أقرب من أن يكتب عنها الطيب في سيرته الذاتية “من حقيبة الذكريات”، إذ يعرفها كل المحيطين به، تظهر في أشعاره وكتاباته محفورة دون أن يذكر اسمها.(11)
ستبدو السنوات التي عاشتها بعد وفاته امتدادا لعمر عبد الله الطيب وسيرته، فبقيت لتروي قصة حبهما العابر للمحيطات، وتستقبل زوار بيتهما بلهجة سودانية تميزها اللكنة الإنجليزية، وتروي عن أبطال رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” الذين يشبهون بعض مَن رأتهم في تلك الحقبة. (12)
كانت جريزلدا تنفي بشكل قاطع أن يكون أحد ممن تعرفهم يشبه بطل الرواية “مصطفى سعيد” الذي ذهب إلى لندن محملا برغبة انتقامية من الاستعمار، وتفند كيف اختلفت الفترة التي ذهب فيها جيل الطيب صالح في الخمسينيات عن الفترة الأولى التي تتناولها الرواية في العشرينيات، لكنها تروي مؤرخة لتلك الفترة عن أسماء تتقاطع حكاياتهم مع أبطال الرواية، وإن كان في أجزاء بسيطة منها؛ أحمد الطيب الذي كان يُعِد للدكتوراه في الأدب العربي، والدكتور سعد الدين فوزي أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد، وزوجها العلامة عبد الله الطيب.
يظهر في كتابتها قدر المعرفة بالمجتمع السوداني والاحتكاك بالنخبة المثقفة فيه، إذ تسرد حكايات تتشابه مع ما جاء في الرواية الأشهر للطيب صالح، وتؤكد على براعته في خلط كل تلك الشخصيات والأحداث ليُخرِج عملا فنيا رائعا منها.(13)
قبل رحيلها في مايو/أيار الماضي (2022)، أوصت جريزلدا بأن تُسلم هديته إليها بمناسبة إسلامها، الفيلا رقم 12، بمربع 12 شرق الامتداد الخرطوم، العمارات شارع 17، إلى “بيته الثاني” الذي لم تنقطع صلته به؛ كلية الآداب بجامعة الخرطوم، لتبقى السيرة لا تزول بين طلاب سيتعرفون إليه ربما قبل قراءة كتبه، من الاسم المحفور على المبنى الذي اعتنت به جريزلدا، مع مقتنياته ومراجعه ومؤلفاته، ولوحاتها. (14)
————————————————————————————
المصادر:
- برنامج المهم – برفيسور عبد الله الطيب و غيرزيلدا (أسطورة حب معاصرة)
- جريزلدا.. قصة عشق إنجليزي سوداني ترويها الأيام
- برنامج المهم – برفيسور عبد الله الطيب و غيرزيلدا (أسطورة حب معاصرة)
- مجلة الفيصل – يعيدان قصة جميل وبثينة
- السفير عبد الله الأزرق: جرزلدا مِنّا آل المجذوب
- A British woman who lived in Sudan for 72 years… wanders in the cemetery before her death and leaves an impressive will
- جريزلدا الطيب.. بريطانية محمولة على اكتاف السودانيين..!
- جريزلدا.. قصة عشق إنجليزي سوداني ترويها الأيام
- صحفي يصف زيارته العاطفية لقريزلدا بعد رحيل عبدالله
- السودان.. رحيل غريزلدا زوجة العلامة عبد الله الطيب
- مجلة الفيصل – يعيدان قصة جميل وبثينة
- جريزلدا.. قصة عشق إنجليزي سوداني ترويها الأيام
- جريزلدا الطيب – من هو مصطفى سعيد بطل «موسم الهجرة إلى الشمال»؟
- هدية إسلامها أصبحت وقفًا.. إنفاذ وصية جريزلدا الطيب وحسرة على منازل مبدعين سودانيين
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.