جدل الفن والسياسة تحسمه المحكمة.. لماذا اتهمت مدن ألمانية الفنان روجر ووترز بعداء السامية؟ | ثقافة


برلين- لم تكن ميونخ في الأيام القليلة الماضية هادئة، محافظة وأنيقة، كعادتها، بل كانت عاصمة أقصى جنوب ألمانيا منشغلة بنفسها ومرتبكة وقبل كل شيء تخوض نقاشا استقطابيا محتدما، يمزج الفن بالسياسة، جعلها تتجاهل “مصيبة” اقتراب فريقها من الخروج خالي الوفاض من موسم كروي شارف على الانتهاء.

وحاولت ميونخ ومدن ألمانية أخرى في الأشهر الماضية إلصاق تهمة العداء للسامية بالفنان العالمي روجر ووترز لدرجة أن حكومة إحدى هذه المدن حظرت حفلا مقررا له الأحد المقبل، لكن القضاء الألماني أنصف الفنان الذي سيقيم الحفل في موعده بعد تنظيم حفلات مشابهة في مدن ألمانية عدة منها ميونخ عاصمة ولاية بافاريا.

نقاش تركته خلفها 3 مدن ألمانية أخرى في الأسابيع الماضية، هي برلين وهامبورغ وكولونيا، ولكن “تاريخ ألمانيا الحديث” يجعل ميونخ مختلفة عما سواها، تلك المدينة التي ألقى الزعيم النازي آدولف هتلر أخطر خطاباته ومنها أيضا حرّض على الزحف إلى برلين، فالنقاش فيها يدور بحدة واستقطاب، خاصة عند الحديث عن التاريخ وقضية حساسة مثل نقاش العداء للسامية.

هذه الخصوصية جعلت المدينة بنخبها السياسية والإعلامية تخوض نقاش العداء للسامية والاتهامات الموجهة لضيفها الفنان العالمي الكبير روجر ووترز بطريقة خاصة، وبتساؤلات لا تخطر ببال سكان مدن برلين أو هامبورغ أو كولونيا حيث نظم الفنان 3 حفلات في الأسابيع الماضية.

ومن تلك التساؤلات التي نوقشت في ميونخ: هل روجر ووترز بالفعل معاد للسامية لأنه ينتقد ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين؟ وهل تسلك ميونخ طريق فرانكفورت التي حظرت الحفل وأحرجت نفسها بعد أن أنصفه القضاء وأقر بأحقيته في التعبير عن رأيه بصفته فنانا؟ وهل أذعنت حكومة المدينة لإملاءات جماعات ضغط ما عندما دعت لمقاطعة الحفل؟ وهل مجرد قرْب ووترز من حركة المقاطعة (BDS) يجعله تلقائيا معاديا للسامية؟ وقبل كل شيء أين تنتهي حدود الفن وما المسموح للفنانين دون غيرهم وبجميع فئاتهم؟

الصحيفة الأولى تلتزم الحياد

الصحيفة الأولى في ميونخ “زود دويتشه تسايتونغ” المحسوبة على اليسار الليبرالي والتي تعد من أكبر الصحف الألمانية اختارت الحياد واكتفت بتغطية خبرية للفعالية الموسيقية دون الدخول في دهاليز مقالات الرأي، لكنها رافقت رئيسة الشؤون الثقافية والتعليمية في الجالية الإسرائيلية بولاية بافاريا والرئيسة السابقة لاتحاد اليهود الأعلى في ألمانيا شارلوته كنوبلوخ أثناء مشاركتها في مظاهرة نظمت الأحد الماضي أمام الصالة الأولمبية حيث نظم حفل الفنان وأعطتها المساحة الكافية لانتقاد الحفل وصاحبه وما وصفته في خطاب أثناء المظاهرة “بعجز السياسة عن تحويل الكلمات القوية إلى أفعال” من أجل محاربة ظاهرة العداء للسامية.

أما القناة العامة في ميونخ (BR) فلم تكتف بمرافقة كنوبلوخ إلى المظاهرة ومنح مفوض معاداة السامية في حكومة بافاريا لودفيغ شبينله المساحة الكافية لانتقاد الحفل وظاهرة العداء للسامية، بل خصصت 13 تقريرا من أجل تغطية الفعالية، وعنونت للصحفيين بيرغت غروندنر وبيتر يونغبلوت مقالا مفصلا: “يجب منع روجر ووترز من الغناء في ميونخ”.

وشارك في هذه الانتقادات أيضا عمدة المدينة ديتر رايتر الذي وسع في إحدى المقابلات نطاق انتقاداته للفنان، لتشمل أيضا اتهامات ضد ووترز بنسج نظريات المؤامرة حول الحرب الروسية على أوكرانيا، مطالبا الشركة المسؤولة عن تنظيم الحفل “بفحص جميع إمكانات” الحظر.

المحامي المتخصص في القانون الاجتماعي أحمد عابد لم يُفاجأ بتعاطي المدينة مع القضية بهذه الطريقة، وقال -للجزيرة نت- إن ميونخ “تحديدا تحاول منذ سنوات التضييق على جميع الناشطين الذين يحاولون انتقاد ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين أو مجرد الحديث عن وضع حقوق الفلسطينيين”.

وأشار عابد إلى صعوبة حصول الناشطين في هذه المدينة وتحديدا حركة المقاطعة (BDS) على قاعات وتراخيص من أجل تنظيم فعالياتها رغم لجوء الحركة إلى المحاكم ونجاحها في انتزاع قرارات قضائية تسمح لها بتنظيم هذه الفعاليات.

المحامي المختص في القانون الاجتماعي أحمد عابد
المحامي المتخصص في القانون الاجتماعي أحمد عابد (الجزيرة)

ووترز وحركة “الوردة البيضاء”

روجر ووترز نفسه اختار بعناية وذكاء محطته الأولى في ميونخ، فزار ضريح صوفي شول وهانس شول اللذين أعدمهما النظام النازي في ميونخ عام 1943 بتهمة تأسيس الحركة الطلابية المناهضة للنازية وإبادة اليهود “الوردة البيضاء” (Die weiße Rose)، وعلق على الزيارة بعبارة لصوفي شول: “كيف لنا أن نتوقع أن يسود العدل إذا لم يكن هناك أشخاص قادرون على التضحية بأنفسهم؟”.

وأضاف الفنان العالمي “صوفي شول بطلة تستحق بسبب نضالها السلمي ضد النازية التبجيل مع رفاقها في حركة الوردة البيضاء”.

الحفل “لا يجرح كرامة اليهود”

وبدأت قصة المغني مع هذه الاتهامات والمحاكم الألمانية بعد إعلان إدارة أعماله في بداية العام خطته لإحياء 5 حفلات في 5 مدن ألمانية هي كولونيا وهامبورغ وبرلين وميونخ وفرانكفورت على التوالي.

وفور الإعلان، قررت حكومتا مدينة فرانكفورت وولاية هِسن حظر حفلته المقررة في 28 مايو/أيار بتهم العداء للسامية.

وبعد اتخاذ قرار الحظر، لجأ الفنان إلى القضاء الذي اتخذ في 24 أبريل/نيسان الماضي قرارا يجيز له إقامة حفلته في موعدها ومكانها المقررين، عازيا ذلك إلى ضرورة “ضمان حرية الفن”.

وفي هذا الصدد، يقول المحامي عابد إن حكومات الولايات والحكومة الاتحادية “تواصل محاولات التضييق على الناشطين رغم كسبهم في السنوات الماضية معظم القضايا، وهذا لا ينطبق فقط على روجر ووترز بل على فنانين آخرين يحاولون إنصاف الفلسطينيين وانتقاد ممارسات إسرائيل بحقهم”.

وعما إذا كانت هذه القرارات تثبت نزاهة القضاء في ألمانيا، أكد عابد استقلال القضاء الألماني ونزاهته لكنه أضاف أن ذلك يشير أيضا إلى “الوضع السيئ لحقوق الإنسان في ألمانيا”، مشيرا إلى إشكالية عدم قدرة جميع الناشطين على التوجه إلى القضاء لأسباب مالية أو معرفية أو أخرى تتعلق بأن سلوك هذا الطريق يتطلب جهدا كبيرا.

وعن أسباب إصرار الحكومات في ألمانيا على حظر الفعاليات المؤيدة لحقوق الفلسطينيين رغم الهزائم التي تمنى بها أمام القضاء، قال عابد إن ذلك يعدّ إشارة إلى أن هذه الحكومات “تعمل ضد المحاكم وضد القوانين ومن ثم ضد الدستور”، مؤكدا أنه كسب وحده 10 قضايا على الأقل تتعلق بتهم العداء للسامية.

وأضافت المحكمة الإدارية في فرانكفورت أن إقامة الحفلة في هذه الصالة “لا تجرح كرامة اليهود”، ولا تعدّ “إخلالا جسيما” بمكانة اليهود وحقوقهم في ألمانيا.

ووفق عابد، فإن حكومة فرانكفورت عرفت من قبل أنها “ستخاطر بخرق الدستور وبتحمل تكاليف المحكمة التي تقدر ببضع مئات آلاف اليوروهات”، لأنها تناصر إسرائيل من موقف أيديولوجي، حسب قوله.

حكومة ميونخ تعلمت الدرس

أما مدينة ميونخ التي سبق لها أن لجأت في عام 2018 إلى القضاء من أجل حظر حفل للفنان ذاته، وفشلت في ذلك، فقد فضلت عدم تكرار الخطأ وقررت في 23 مارس/آذار عدم الوقوف قضائيا في وجه الشركة التي تدير الصالة الأولمبية والسماح لها بتنظيم الحفل، مقابل الدعوة إلى مقاطعة حفل الفنان.

واستندت حكومة المدينة في قرارها هذا إلى قرار قضائي آخر سبق أن اتخذته محكمتان إدارايتان في ميونخ ولايبزيغ بداية العام الجاري وتم بموجبه السماح لحركة المقاطعة (BDS) بتنظيم فعالية أخرى منفصلة، وهو ما يعني وفقا لحكومة ميونخ “عدم القدرة من الناحية القانونية على إجبار شركة إدارة الصالة الأولمبية (OMG) على إلغاء الحفل”، لذلك لجأت إلى التشويش على حفل ووترز كبديل عن خسارتها أمام المحاكم.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post تعرف على إنتاج المشروعات القومية من الأسماك عام 2021
Next post بيراميدز يهزم الحرس بهدف قاتل ويحافظ على وصافة الدورى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading