بيروت- طوى رياض سلامة، صاحب أطول ولاية لبنك مركزي بالعالم، في 31 تموز/يوليو 2023 عهد 30 عاما من توليه منصب حاكم مصرف لبنان، تاركا لنوابه الأربعة إرثا مثقلا، بالانهيار المالي وسياسات وتعاميم ومنصة صيرفة تغيب عن جميعها الشفافية، وفق خبراء.
وخرج سلامة -الملاحق بمذكرة دولية أمام الشرطة الدولية (الإنتربول) وبعشرات الدعاوى من دول أوروبية ومن القضاء اللبناني- من المصرف المركزي مبتسما بهيئة المنتصر، وأحاطه عشرات الموظفين المقربين منه، وقال في تصريح صحفي “صمدنا، مصرف لبنان صمد وسيصمد بجهودكم”.
وبحسب قانون النقد والتسليف استلم النائب الأول للحاكم، وهو وسيم منصوري، مهام الحاكم، لحين تعيين حاكم أصيل، وهو استحقاق دستوري لم يُنجز بفعل غياب التوافق السياسي عليه، وبظل حالة الشغور الرئاسي الذي تعيشه البلاد منذ نحو 9 أشهر.
واستنادا لنظام المحاصصة الطائفية، يكون حاكم المركزي مارونيا، والنائب الأول شيعيا (منصوري) والثاني درزيا هو بشير يقظان، والثالث سنيا هو سليم شاهين، والرابع من الأرمن الكاثوليك هو ألكسندر موراديان. وجاء تعيين النواب الأربعة للحاكم في يونيو/حزيران 2020، وكان منصوري مدعوما من زعيم حركة أمل نبيه بري (حليف حزب الله).
في سيرته الذاتية، يحمل منصوري شهادة دكتوراه في القانون العام من إحدى جامعات فرنسا، ودكتوراه أخرى من الجامعة اللبنانية، إضافة لإجازة (بكالوريوس) في الحقوق، كما كان يدير مكتب محاماة قبل تعيينه نائبا أول. وعمل سابقا مستشارا قانونيا لوزارة المالية بعهد الوزير الأسبق علي حسن خليل، ومستشارا قانونيا للبرلمان.
ولعل أبرز ما جاء في المؤتمر الصحفي -الذي عقده وسط النواب الثلاثة- أن منصوري حدد نظريا النهج الذي سيتبعه بالمرحلة المقبلة، ويتناقض عمليا مع نهج سلامة، وتحديدا بقوله “لا بد من الانتقال لسياسة أخرى، وهي وقف تمويل الدولة بالكامل، ولن يتم التوقيع على أي صرف لتمويل الحكومة خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني”.
وقال أيضا “نحن أمام مفترق طرق، إما الاستمرار بنهج السياسات السابقة، وقد عايشنا النتائج، وإما الانتقال لسياسة أخرى… بمرحلة انتقال تدريجية”. وكان لافتا تشديده على اعتراضه وبراءته مع النواب الثلاثة من أداء سلامة خلال سنوات الأزمة.
وتحدث منصوري عن ضرورة عدم المس بالاحتياطي الإلزامي الذي تراجع إلى 10 مليارات دولار مقابل 36 مليارا عام 2017. وأكد العمل على تعويم وتحرير سعر صرف الليرة، ودعا البرلمان لإقرار القوانين التي تجسد مطلب صندوق النقد الدولي، كقانون “الكابيتول كونترول” المتعلق بالودائع، وموازنة 2023، وإعادة هيكلة المصارف وإعادة الانتظام المالي.. وجميعها كانت وما زالت محط صراع سياسي بالبرلمان بعد اندلاع الأزمة خريف 2019.
الجزيرة نت طرحت أسئلة لاستشراف تحديات مرحلة ما بعد سلامة، على كل من الخبير الاقتصادي منير يونس، الصحفية المتخصصة بالشأن الاقتصادي عزة الحاج حسن، رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في “بنك بيبلوس” نسيب غبريل، وكانت الخلاصات التالية:
ما رمزية خروج سلامة من المركزي؟
يرى يونس أن خروج سلامة جسد نهاية مرحلة كان فيها احتياطي المركزي متاحا للاستنزاف، كما أنه “خروج لمهندس السياسات المالية التي تسببت بانهيار لبنان بالتواطؤ مع أقطاب السلطة، التي شكلت غطاء لسلامة وظهرا لحمايته من الملاحقات القضائية”. ويقول أيضا إن سلامة “كرس قراءة منحرفة للقانون، وما صرح به منصوري أثبت ذلك”.
ويرفض غبريل هذه المقاربة، معتبرا أن سلامة “خرج قانونيا بانتهاء ولايته”، وأن مجيء منصوري تطبيق طبيعي للقانون، و”سيكون أداؤه رهن الاختبار بمعزل عن تصريحاته”.
في حين تجد عزة الحاج أن خروج سلامة “نكسة جديدة للعدالة، حيث غادر المركزي قبل محاسبته بما حصل طوال عهده، ولم يبادر أي جهاز أمني بتوقيفه أثناء خروجه، رغم مذكرات التوقيف بحقه”.
ما العناوين الأساسية لمرحلة وسيم ومنصوري؟
يعتبر غبريل أن العنوان الأساسي الذي طرحه منصوري هو وقف إقراض الحكومة إلا بتغطية تشريعية من البرلمان، وبسقف مالي ومدة زمنية محددة. أما واقعيا، ففي رأيه أن “الحكومة لديها احتياجات، رغم موارد المركزي المحدودة. وعليها أن تعتمد على مصادر دخلها والضرائب الجديدة التي فرضتها بزيادة التعرفة على الكهرباء والاتصالات وفرض الدولار الجمركي، كما أن مشروع موازنة 2023 يتضمن جبلا من الضرائب والرسوم. وعلى الدولة وقف اعتمادها على المركزي مقابل مكافحة التهرب الجمركي والضريبي”.
من جانبه، يضيف يونس عنوان حث غير مباشر لوزير المالية على إعداد موازنة بلا عجز حتى تتمكن الحكومة من تمويل نفسها. وقال “الدولارات المتبقية باحتياطي المركزي من أموال المودعين، أي يريد منصوري من الحكومة وقف شراء الوقت من أموال الناس وتحمل مسؤولياتها، وهو ما قد يفتح الأزمات على مصراعيها”.
وترى عزة الحاج أن منصوري أقر ضمنا بأن جوهر الأزمة، في عهد سلامة، يكمن بعملية إقراض الدولة العاجزة عن تسديد ديونها. وتقول “ثمة صعوبة ستواجه منصوري بموقف تمويل الدولة، التي تؤدي من الاقتراض رواتب القطاع العام والكهرباء واستيراد الأدوية وغيرها. ولن تكون مهمة سهلة تزامنا مع مهلة الأشهر الستة التي وضعها لتنفيذ الإصلاحات”.
طالب منصوري البرلمان بتشريع قوانين أساسية كـ”الكابيتل كونترول” وموازنة 2023 وغيرها. فهل سيوفر البرلمان النصاب لإقرارها؟
يعتقد يونس أنه من شبه المستحيل في الظروف الراهنة توفير النصاب لإقرار قوانين خلافية، “في ظل معارضة مبدأ تشريع الضرورة، ومعارضة معظم القوى المسيحية لعقد جلسات تشريعية باعتبار أن البرلمان حاليا هيئة ناخبة وعليه أولا انتخاب رئيس للجمهورية”.
في حين يرى غبريل أن قول منصوري ليس جديدا بهذا الإطار، كونه يتحدث عن مطالب صندوق النقد، و”ربما أراد تحميل السلطتين التشريعية والتنفيذية مسؤولياتهما القانونية أمام الناس بدل المركزي”.
من جانبها، ترى عزة الحاج أن ما تهرب البرلمان من إنجازه على مدار نحو 3 سنوات، لن ينجزه في 6 أشهر، و”لم تحدد بعد المسؤوليات بالفجوة المالية البالغة نحو 70 مليار دولار، ولا كيفية توزيع الخسائر التي يتحمل المودعون حتى الآن الجزء الأكبر منها، ما يجعل فرص تحقق مطلب منصوري صعبة”.
ماذا قصد منصوري بالعمل على تعويم وتوحيد وتحرير سعر صرف الليرة؟ وما مصير منصة صيرفة؟
يعد توحيد وتحرير سعر صرف الليرة مطلبا رئيسيا لصندوق النقد، الذي دخلت مفاوضاته مع لبنان في ثلاجة الانتظار. وفيما خسرت الليرة تدريجيا نحو 98% من قيمتها، ابتدع سلامة بدءا من مايو/أيار 2021 منصة “صيرفة” حالة استثنائية، كانت مهمتها ضبط سعر صرف الدولار ووقف السوق السوداء، لكنها لم تؤد وظيفتها، حيث بدأت بسعر صرف 12 ألف ليرة للدولار، وتناهز 85 ألفا حاليا، بينما سعر صرف الدولار بالسوق السوداء يتقلب راهنا عند 89 ألفا.
ويعتقد يونس أن طرح منصوري تمهيد للحد من تدخل المركزي بسوق القطع، والتخلي تدريجيا عن منصة “صيرفة”، مقابل العمل على إطلاق منصة جديدة تتسم بالشفافية في العرض والطلب خارج منطق المضاربة.
لكن عزة الحاج تجد أن طرحه، على أهميته، مطلب أساسا لصندوق النقد، ولكن تحقيقه يحتاج لمقدمات، بدءا من توحيد سعر الصرف، وصولا إلى تحريره. وأنه “يحتاج إلى خطة متكاملة لم يطرح منصوري تفاصيلها بعد”.
أما غبريل، فيجد أن منصة صيرفة ما زالت صامدة رغم التحذيرات من سقوطها، و”أي تحول بدورها أو استبدالها بمنصة أخرى سيكون تدريجيا، ويحتاج لموافقة الحكومة”.
ويختم يونس بالقول “نحن بمرحلة انتقالية صعبة مع عدم تعيين حاكم أصيل، وثمة تساؤلات عن كيفية تعاطي السلطة مع النواب الأربعة وعلى رأسهم منصوري، ومدى قابلية طروحاته للتطبيق. والخطر أن تطول ولايته لأجل غير مسمى، وأن يجدوا أنفسهم مضطرين لتنفيذ سياسات سلامة المتأصلة بالمركزي”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.