بلسان منى الشايب.. قصة نجاح أسرة نذرت عمرها لترجمة موسوعة “وصف مصر” | ثقافة


فجأة، ومن دون مقدمات يرحل المترجم الكبير زهير الشايب عام 1982 عن 47 عاما، ولم يترجم من موسوعة “وصف مصر” (مجموع الملاحظات والبحوث التي تمت في مصر خلال الحملة الفرنسية) التي نذر عمره من أجلها إلا 9 أجزاء من إجمالي 38 جزءا.

رحل الأديب زهير الشايب، وترك خلفه 4 أبناء، منى أكبرهم في 12 من عمرها، ولم تمر 5 سنوات حتى لملمت الأسرة أحزانها، وبدأت في استكمال ما بدأه الأب، وعلى المكتب ذاته الذي كان يجلس عليه الأب، جلست الابنة منى زهير الشايب، وبدأت في ترجمة بقية أجزاء الموسوعة.

واصطحب القائد الفرنسي نابليون بونابرت في حملته على مصر فريقا من العلماء في كل التخصصات ليسجلوا ملاحظاتهم. وبعد عودة الفريق إلى فرنسا، شكّل وزير الداخلية الفرنسي آنذاك جون أنطوان شبتال لجنة من العلماء قامت بجمع ونشر كل المواد العلمية الخاصة بالحملة، واكتملت في 10 مجلدات.

موسوعة وصف مصر المصريون المحدثون تأليف: علماء الحملة الفرنسية ترجمة: زهير الشايب
موسوعة “وصف مصر” أو مجموع الملاحظات والبحوث التي تمت في مصر خلال الحملة الفرنسية (الجزيرة)

وبعد قرابة قرنين من زمن الحملة الفرنسية، لم يصدق أصدقاء المترجم والصحفي زهير الشايب أن منى الصغيرة هي التي تترجم أجزاء موسوعة فشلت مؤسسات الدولة في ترجمتها، فتصدى لها زهير الشايب، وأكملتها ابنته من بعده.

وروت الأستاذة بكلية الآثار جامعة القاهرة الدكتورة منى زهير الشايب تفاصيل ترجمتها للموسوعة في اللقاء الذي أجرته الجزيرة نت، فإلى الحوار:

  • تصدى زهير الشايب لترجمة موسوعة “وصف مصر”، وهذا أمر أشبه بالمغامرة، ما الذي دفعه لذلك؟ وما ذكرياتك عن تلك الفترة؟

قرر والدي ترجمة موسوعة “وصف مصر” بعد المحاولة الفاشلة لترجمتها من قبل إحدى الهيئات الثقافية، وترجم أول 4 أجزاء ونشرها على نفقته الخاصة، أتذكر أنه كان يأتي بالأجزاء المطبوعة، وأقوم أنا وإخوتي بتغليفها في أكياس بلاستيك بغية الحفاظ عليها، ثم يأخذها ليوزعها على الناشرين وباعة الكتب، فكان يترجم ويشرف على الطباعة، ويراجع الأجزاء قبل طباعتها، ثم يقوم بالتوزيع، جهد خرافي لا تقوم به إلا مؤسسة كبيرة، كان يقوم به وحده.

وبعد طبع هذه الأجزاء كرّمت الدولة والدي، ومنحه الرئيس السادات وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وهنا بدأ الناشرون ينتبهون لأهمية الموسوعة.

بدأت الترجمة وعمري 17 عاما، وضاعفت الجهود وعمري 18 عاما بفضل والدتي، وهي أديبة وكاتبة قصص للأطفال، بذلت كل ما تملك من جهد ووقت ولم تبخل بشيء في سبيل إعدادي وتهيئتي لثقل اللغة الفرنسية

  • نعلم أن والدك قابلته الكثير من المشاكل والعراقيل وهو يقوم بهذا العمل الشاق، هل ما زلت تذكرينها؟

لم يكن الطريق سهلا وممهدا أمام أبي، فقد واجه الكثير من العنت والاضطهاد في حياته، وحورب من رؤسائه في العمل، حقدا وغيرة من نجاحه، وكان لا يلتفت كثيرا للصراعات والتكالب على المادة والمناصب، ولم يك مهموما إلا بأسرته وتوفير الحياة الكريمة لها، ولا يشغله سوى واجب ترجمة الموسوعة، وحدث أن أحد زملائه تسبب له في موقف صعب وقت أن سافر للعمل في دولة عربية، حزن بسببه كثيرا وأدى لإصابته بأزمة قلبية أودت بحياته وهو في ريعان شبابه.

  • بعد وفاة الوالد، متى بدأت في ترجمة الموسوعة؟ وكم كان عمرك وقتها؟

بدأت الترجمة وعمري 17 عاما، وضاعفت المجهود وعمري 18 عاما بفضل والدتي، وهي أديبة وكاتبة قصص للأطفال، بذلت كل ما تملك من جهد ووقت ولم تبخل بشيء في سبيل إعدادي وتهيئتي لثقل اللغة الفرنسية، وبعد الثانوية تقدمت بأوراقي لكلية الآثار جامعة القاهرة، حتى أستكمل ترجمة باقي الموسوعة، وأفادتني دراسة الآثار كثيرا في ترجمة الأجزاء الخاصة بعمارة ووصف وأسماء الملوك في مصر القديمة.

  • هل كانت ترجمة الموسوعة وصية من الوالد للأسرة؟

ترجمتي للموسوعة لم تكن وصية أبي، لأنه توفي فجأة في سن مبكرة وأنا عمري 12 عاما، ولكنه ميراث، نحن أسرة ورثنا “وصف مصر” مع ما ورثناه من أخلاق أبي وسمعته الطيبة، ومن البداية اعتبرنا نحن أسرة زهير الشايب “أسرة وصف مصر” كما أقول دائما، فلم يكن لدى أي منّا اعتراض، وارتضينا جميعا أن نكمل مشوار زهير الشايب في ترجمة موسوعة وصف مصر، واعتبرناها فردا من العائلة.

ولما لم تجد والدتي أي مساعدة من مؤسسات الدولة لمساندتها في استكمال الترجمة، أسست دار “الشايب” للنشر من أجل نشر الموسوعة، وشحذت همتنا لنجاح الدار، إلى أن أدركت هيئة الكتاب (حكومية) أهمية ما نقوم به لترجمة ونشر الموسوعة، ووافقت الهيئة على طباعة الموسوعة، فكنت أقوم بالترجمة، وهيئة الكتاب تقوم بالنشر والتوزيع.

  • هل قمت بترجمة ونشر الموسوعة بالكامل، أم إن هناك أجزاء لم تترجم أو لم تنشر؟

كان بالموسوعة جزء خاص بالأمراض التي أصيب بها جنود الحملة الفرنسية خلال وجودهم في مصر، وهذه الدراسة الطبية بذلت فيها جهدا كبيرا حتى انتهيت منها، ولكن هيئة الكتاب لم تنشرها، ورأت أنه لا أهمية لنشرها.

عشقي للغة العربية جعل الصياغة متسقة مع اللغة الجديدة بما يشعر القارئ أن أجزاء الموسوعة أقرب إلى التأليف منها إلى الترجمة.

  • لكن كيف تغلبت على التعامل مع اللغة الفرنسية القديمة التي كتبت بها الموسوعة منذ أكثر من مئتي عام؟

لم تكن الترجمة أمرا صعبا لما منحني الله من ملكة في الترجمة ورثتها عن أبي، فكنت أترجم بلا مشقة ولا تعب، وأجيد الصياغة ببساطة شديدة، وعشقي للغة العربية جعل الصياغة متسقة مع اللغة الجديدة بما يشعر القارئ أن أجزاء الموسوعة أقرب إلى التأليف منها إلى الترجمة.

وكنت أترجم خلال دراستي الجامعية، وأكثف الترجمة خلال الإجازات، وقبل الامتحانات بشهرين أركز كل جهدي في الدراسة، وأحضر كل المحاضرات، وأحرزت المركز الأول على دفعتي، وعينت فور تخرجي معيدة بكلية الآثار.

  • ألم تشغلك اهتماماتك بوصفك فتاة في مقتبل العمر عن الترجمة ومشاكلها؟

لم يشغلني التفكير إطلاقا أن الترجمة من الممكن أن تعطل مسيرتي كفتاة في مقتبل العمر، بل كان لدينا جميعا إحساس بأن علينا ميراثا من اللازم القيام به، وواجبا يلزم الاضطلاع به، ولهذا كنت أجد متعة في الترجمة، فكانت الترجمة، مثل كتابة أفكاري وخواطري، شيئا سهلا ويسيرا للغاية.

ولم تؤثر ترجمة الموسوعة على مستقبلي العائلي والأسري، عشت حياتي الأسرية وسط إخوتي، وتزوجت وأنجبت كأي فتاة سعيدة بحياتها وبإنجازها الذي قامت به، وعندما أرى أجزاء الموسوعة بعددها الكبير أمامي أشعر بأني أديت واجبا كان حقا عليّ، ولم أقصر في حق عائلتي وبلدي، وخلاف الموسوعة لي ترجمات كثيرة بالمركز القومي للترجمة من اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

  • ما تقييمك لموسوعة وصف مصر بعد الانتهاء من ترجمتها؟

الموسوعة لا مثيل لها في العالم كله، فلم يتم تناول أحوال أي دولة بهذا التفصيل مثلما تناول علماء الحملة الفرنسية وصف مصر في كل مناحي الحياة، بكل هذا الحب وهذا الإخلاص، ولهذا نجدها موسوعة متكاملة تشمل كل العلوم المختلفة، ولهذا عمت شهرتها العالم.

  • هل كانت ترجمة الموسوعة عائقا في سبيل التميز في تخصصك الأكاديمي؟

العكس تماما، بعد انتهائي من ترجمة الموسوعة لم أتوقف ولم أقل يكفيني هذا، بل أنجزت دراسات أثرية تعتبر من الدراسات المهمة في هذا المجال، وأنجزت 14 دراسة فيها اكتشافات علمية جديدة في مجال تخصصي “الآثار والفلك عند قدماء المصريين”.

وأثبتُ أن المصري القديم أول من استخدم المزولة الشمسية، وأول من توصل إلى رصد المذنبات، وليس الحضارة الصينية التي كانت بعد الحضارة المصرية القديمة بحوالي ألف سنة، والمصري القديم أول من رصد خسوف الشمس وكسوف القمر، وأول من تعرّف على المجموعات النجمية، وقام بوضعها في كوكبيات يسهل دراستها.

  • ما التكريمات التي مُنحت لك من الدولة نظير جهدك في الترجمة؟ وهل قامت دول أخرى مثل فرنسا بتكريمك؟

لم تأتني أي تكريمات من فرنسا أو غيرها كما يدعي البعض، ولم تكرمني الدولة، على الرغم مما قمت به من ترجمات خدمت اللغة والثقافة العربية، وإذا ما تقدمت لجوائز الدولة أواجه بمقولة “لا تنطبق الشروط عليك” بحجة أنني قمت بإنتاج غزير أكثر مما هو مطلوب، أو أن ما قمت به من إنتاج ليس في المجال المطلوب.

ومرت السنون، وأصبحت الحجة أن الإنتاج يجب ألا يمر عليه عامان و5 أعوام على الأكثر، وإذا كانت الدولة تكرم البعض على تأليف أو ترجمة كتاب، أليس من الأولى أن تكرّم من ترجم موسوعة كامة بحجم موسوعة وصف مصر؟

  • كم كان عدد علماء الحملة الفرنسية الذين شاركوا في الموسوعة؟ وكيف كانت حياتهم في مصر بعد أن عادوا إلى فرنسا؟

بلغ عدد علماء الحملة الفرنسية في المجالات والتخصصات المختلفة العلمية والفنية والأدبية 165 عالما، والبعض قال إنهم 151 عالما، مثلوا الأساس للمجمع العلمي المصري، ومن أشهر علماء الحملة الفرنسية عالم الرياضيات الشهير مونج برتوليه ديفيليه، ودو بوا إيميه جومار فورييه، وكونت دي شابرول.

وكثير من هؤلاء العلماء ماتوا نتيجة أعمال الحرب، ونتيجة الأمراض التي فتكت بهم، ونتيجة الحرارة الشديدة التي لم يتعودوا عليها في بلدهم.

وقبل خروج جنود الحملة الفرنسية من مصر، واجهتهم بريطانيا واشترطت عليهم أن يتركوا أبحاثهم مقابل السماح لهم بالخروج من مصر إلى فرنسا، ولكن العلماء الفرنسيين رفضوا أن تؤخذ الأبحاث منهم، وهددوا بإلقائها في البحر إن أجبروا على ذلك، وأمام هذا الإصرار وافقت إنجلترا، وسمحت لهم بالخروج بصحبة أبحاثهم.

  • متى صدرت أول طبعة للموسوعة في فرنسا ومصر؟

بعد عودة الحملة إلى فرنسا استغرق العمل في هذه الأبحاث 17 عاما من تصنيف وتهذيب واستخلاص الدراسات المهمة، لكي توضع في كتاب “وصف مصر” بأجزائه التي بلغت 38 جزءا كما جاء في الطبعة الثانية.

وطبعها الفرنسيون مرتين: الطبعة الأولى وتسمى طبعة الإمبراطورية، وصدرت أول أجزائها عام 1809، أما الطبعة الثانية فقد ظهرت عام 1921 في 26 مجلدا، بالإضافة إلى 11 مجلدا للوحات وأطلس جغرافي، ويطلقون عليها طبعة بانكوك.

وأما عن طبعات موسوعة “وصف مصر” باللغة العربية، فقد صدرت الأجزاء الأربعة الأولى على نفقة المترجم زهير الشايب، وصدر الجزء الأول لأول مرة في مصر عام 1976.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post ديزني تلغي خطة لحرم فلوريدا الجديد وسط عداء DeSantis
Next post تونس.. اعتقال الرئيس السابق لحركة النهضة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading