مقدمة الترجمة:
تحمل ستِبْنوغورسك، المدينة الواقعة على بُعد نحو 200 كيلومتر إلى شمال العاصمة الكازاخستانية “أستانا”، إرثا ثقيلا يعود إلى العصر السوفيتي، وذلك بفضل منشأة سرية أسسها السوفييت في المدينة لتطوير وإنتاج الأسلحة البيولوجية وعلى رأسها مادة أنثراكس 836، وهي أحد الإصدارات الأكثر فتكا للبكتيريا المسؤولة عن مرض الجمرة الخبيثة. في هذا المقال، يحدثنا أرتْيَم سوتشنيف، عن هذه المنشأة وتاريخها، وكيف يعاني شعب ستِبْنوغورسك مع إرثها إلى اليوم.
نص الترجمة:
لطالما تشكَّكت المؤرِّخة الكازاخستانية “ناتاليا تِليجينسكايا” في أن ثمَّة خطبا ما بخصوص مصنع المبيدات الزراعية الذي وقع تحت الحراسة المُشدَّدة على بُعد عشرة كيلومترات من البلدة التي سكنت فيها في زمن الاتحاد السوفيتي، وهي بلدة “ستِبْنوغورسك” (Stepnogorsk)، فقد انتابتها الشكوك مثلها مثل سكان البلدة في أن المصنع يُنتج أسلحة بيولوجية. “بيد أننا لم نعرف المزيد عن الأنثراكس الذي أُنتج في المصنع إلا حين بدأ انخراط الأميركيين في الأمر (بعد سقوط الاتحاد السوفيتي)”، كما قالت ناتاليا في حوار لها مع موقع “أوراسيا نِت”.
أُسست ستِبْنوغورسك بوصفها مدينة ذات طابع خاص في عام 1964، وهي تقع على بُعد نحو 200 كيلومتر إلى شمال العاصمة الكازاخستانية “أستانا”. وقد حملت على عاتقها عبء الإرث السوفيتي الثقيل، فلم تظهر البلدة على أي خرائط متاحة للعامة حتى عام 1995، حيث صنَّفتها السلطات السوفيتية “بلدة مُغلقة” (زاتو) نتيجة دورها المُهِم في إمداد الصناعة النووية السوفيتية باحتياجاتها، علاوة على الأنشطة الأكثر سرية وإثارة للجدل في “قاعدة إنتاج ستِبْنوغورسك التجريبية والعلمية” (SNOPB). ورغم وضعها السري، استطاع الناس الدخول إلى البلدة والخروج منها دون تعقيدات تُذكَر.
بيد أن الدور الذي لعبته ستِبْنوغورسك في تدعيم مؤسستين سريَّتيْن تابعتين للاتحاد السوفيتي، هُما وزارة بناء الآلات المتوسِّطة وقسم الصناعات الميكروبيولوجية؛ أتاح لها امتيازات لم تتوفَّر في غيرها من البلدات، إذ خضعت مباشرة للإشراف من موسكو، ومن ثمَّ حازت خطوط إمداد سِلع جيدة. “لقد توفَّرت لدينا دوما اللحوم والزبدة وغيرها، وكان بوسعنا شراء منتجات مستوردة، في حين كان وضع وفرة الغذاء في مدن أخرى أسوأ بكثير، بما في ذلك مُدن أكبر حجما”، على حد وصف ناتاليا.
الأنثراكس الأخطر في العالم
لم تكن التفاصيل الكاملة لما جرى في تلك المنشأة السرية لترى النور لولا أحد علماء الأحياء الدقيقة الذي أوكلت إليه مهمة تولِّي زمام الأمور في المنشأة من قِبَل “بايوبريبارات” (Biopreparat)، الشركة التي أشرفت على برنامج الأسلحة البيولوجية السوفيتي. فبعد أن خرج “كِن علي بِك” على رؤسائه ولجأ إلى الولايات المتحدة في عام 1992، أفصح عن الطبيعة الكاملة للمشروع لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، وكتب مذكراته في عام 1999 بعنوان “الخطر البيولوجي: القصة الكاملة المُرعِبة لأكبر برنامج أسلحة بيولوجية سري في العالم، يرويها بالكامل من الداخل الرجل الذي أدار البرنامج”.
في أحد فصول الكتاب، يشرح علي بِك كيف تحوَّلت منشأة عادية تحت سيطرة الشركة في عام 1982 إلى واحد من أهم أصولها، وذلك بعد أن أدَّى تسرُّب لمادة الأنثراكس القاتلة (المُحضرة من بكتيريا فتاكة تحمل الاسم نفسه) في مدينة “سڤيردْلوڤسك” الروسية عام 1979 إلى مقتل العشرات وإيقاف إنتاج المادة هناك. “لقد سحب ضابط بالاستخبارات (السوفيتية) القرار من مِلف أحمر مربوط بخيط رفيع، ووضعه بكل وقار على مكتب، ثم وقف خلفي بينما أخذت أقرأه، ولم يسمح لي إلا بالاطلاع على الأجزاء المرتبطة بتكليفاتي”، هكذا تذكَّر علي بِك.
وتابع علي بِك: “لقد علمت فحوى القرار، وهو تحويل منشأتنا المُهمَلة في شمال كازاخستان إلى مصنع للذخيرة (البيولوجية) يحل محل نظيره في سڤيردْلوڤسك. لقد كانت مادة أنثراكس 836، التي أنتِجَت لأول مرة في مدينة كيروف عام 1953، هي المادة المُرشحة أكثر من غيرها لتصبح ’فصيلة المعركة‘ كما أطلقنا عليها، أي المادة ذات التأثير الفتاك التي يمكن إنتاجها بكميات كبيرة ونقلها بسهولة. وكانت مهمتي الفِعلية في ستِبْنوغورسك أن أُدشِّن خط التجميع الأكفأ في العالم من أجل الإنتاج المُكثَّف لسلاح الأنثراكس”.
نجح علي بك وزملاؤه بالفعل في مهمتهم تلك نجاحا باهرا، حيث أنتجت المنشأة سنويا نحو 300 طن من الأنثراكس الجاهز لتعبئته في صورة قنابل، الذي كان أكثر فتكا ثلاث مرات من نظيره السابق الذي أنتجه السوفييت في سڤيردْلوڤسك، وكما يصفه علي بك: “احتاج الأمر إلى خمسة كيلوغرامات فقط من أنثراكس 836 الذي طوَّرناه في قاعدتنا بكازاخستان لإصابة نصف السكان في مساحة كيلومتر مُربَّع”. هذا وجرى اختبار أنثراكس 836 داخل المنشأة وكذلك في الهواء الطلق على سطح جزيرة في بحر أرال بجنوب غرب كازاخستان.
أُغلِقَت “قاعدة إنتاج ستِبْنوغورسك التجريبية والعلمية” عام 1992 بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وزار فريق تفتيش أميركي الموقعَ بعد دعوة رسمية من دولة كازاخستان المُستقلة عام 1995، وتأكَّد من أن المنشأة خاملة. وبحلول ذلك الوقت، اعتقد كثيرون أن المسؤولين السوفييت السابقين كانوا قد نقلوا بالفعل الذخائر والبنية التحتية الصناعية الحساسة من المنشأة إلى شتى أنحاء روسيا. وقد جرت مباحثات بين الولايات المتحدة وكازاخستان من أجل تفكيك الموقع بالتوازي مع مفاوضات تسليم السلاح النووي السوفيتي الموجود في البلاد، وبنهاية التسعينيات اكتمل تنفيذ تلك المهمة. ومن جانبها، حصلت الحكومة الكازاخستانية على بضعة ملايين من الدولارات، لكنها عبَّرت عن إحباطها من أن وعود الاستثمارات الأجنبية من أجل تحويل الموقع إلى النشاط التجاري السلمي لم تتحقَّق في النهاية.
اليوم، يوجد عدد من الشركات الصناعية بمخازنها في موقع القاعدة، وهو ما يجعل الوصول إلى الموقع صعبا، كما أن الوجود الأمني يظل كثيفا ومُشدَّدا على حد وصف الصحافي “ماكسيم بونوماريف” الذي زار الموقع قبل عشر سنوات أثناء عمله لإحدى الصحف: “لقد استطعنا التقاط بعض الصور لبضعة مستودعات تحيط بمهبط طائرات مروحية خارج الخدمة، وبدا جليًّا أن المشروع كان هائلا بالفعل”.
عبء ثقيل.. وسامٌّ أيضا
تسجيل لمنشآت البحوث البيولوجية السوفيتية من تصوير الصحافي ماكسيم بونوماريف. (يوتيوب)
رغم أن إنهاء نشاط منشأة الأسلحة البيولوجية نأى ببلدة ستِبْنوغورسك عن وقوع كارثة مشابهة لتلك التي جرت في مدينة سڤيردْلوڤسك، فإن الحقبة الشيوعية تركت بصمتها على البلدة بطُرق أخرى. على المستوى العُمراني، لم تشهد البلدة تغيُّرا ملحوظا منذ استقلال كازاخستان، إذ بُني فيها أول مبنى سكني جديد في عام 2019. وفي الوقت نفسه، تُمثِّل مهمة تدفئة المباني الحكومية الضخمة والمصانع، وكذلك توفير الكهرباء لها، عبئا لا يُستهان به على محطة الطاقة الوحيدة في ستِبْنوغورسك، التي بدأ بناؤها عام 1966، وبات 80% من أجزائها بحاجة ماسة إلى التجديد، ورغم أن أوجه القصور في المحطة لم تؤدِّ إلى قطع الكهرباء التام، فإن فصل الشتاء يظل باردا في البلدة بشكل لا يُحتمل.
في فبراير/شباط الماضي، زار الرئيس الكازاخستاني “قاسم-جومرت توكاييف” البلدة لأول مرة منذ توليه رئاسة البلاد عام 2019، وأمر حكومته باتخاذ التدابير اللازمة لإصلاح محطة الطاقة بعد أن اندلع فيها حريق العام السابق. وتجدر الإشارة إلى أن الموقع يحتوي اليوم على منشأة واحدة على الأقل مُخصَّصة لتعدين العُملات الرقمية. بالإضافة إلى ذلك، انزوى عن الأنظار عدد من البنى التحتية في ستِبْنوغورسك، منها مطار أتاح للسكان في السابق رحلات سريعة إلى مدينة أستانه، بينما يستضيف اليوم الطائرات المُخصَّصة لمهام مكافحة الناموس ليس إلا. وبالمثل، لم تنجُ محطة الحافلات الرئيسية من أثر جائحة “كوفيد-19”. ولا تدب الحياة إلا في قطار البلدة الكهربائي المثير للبهجة الذي بُني في دولة لاتفيا السوفيتية في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال يجذب الأنظار إلى البلدة ويشُد الزوار إليها، ويخدم أيضا سكانها الذين يعملون في المناطق الصناعية خارجها.
تُعَدُّ كازاخستان اليوم أكبر مُنتِج لعنصر اليورانيوم في العالم، وهي صناعة احتلت فيها ستِبْنوغورسك موقعا في وقت مُبكر جدا. فقد بُنيت منشأة “تسِلينّي غورنو كومبينات” (TGK) لمعالجة اليورانيوم في البلدة خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وخدمت خمسة مناجم في المنطقة المحيطة بها، وظلَّت أهم جهة توظِّف سكان البلدة طوال الحقبة السوفيتية. أما اليوم فقد تحوَّلت المنشأة إلى “شركة ستِبْنوغورسك الكيماوية والتعدينية” (SGKhK)، التي يملكها الملياردير الروسي “فاسيلي أنيسيموف” ورجل الأعمال الكازاخستاني “يعقوب كليبانوف”.
بينما يعمل الآلاف في مناجم اليورانيوم بالمنطقة، فإن مُجمَّعات النفايات الناجمة عن التعدين تظل خطرا بيئيا كبيرا. وقد نبَّه النشطاء مؤخرا إلى أن عمليات التفجير في مناجم الذهب السطحية يُمكن أن تُحدث شقوقا في تلك المُجمَّعات، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة. وقد صرَّح الناشط البيئي “غريغوري فينغِرتِر” في حوار موقع “أوراسيا نِت” أن “مُجمَّع النفايات عند منجم مانيباي لليورانيوم مُعرَّض للهزات، وأن الشروخ لو نالت منه فسيكون الدمار الاقتصادي شديدا، والدمار البيئي أشد”.
مُجمَّع “مانيباي” لنفايات اليورانيوم (تسجيل بواسطة الصحافي “ماكسيم بونوماريف”). (يوتيوب)
بعد ثلاثة عقود من سقوط الاتحاد السوفيتي، ازداد المجتمع المدني قوة في ستِبْنوغورسك، التي أصبحت مدينة يسكنها 70 ألف شخص، بما في ذلك التجمُّعات السكانية المجاورة لها. ففي عام 2021، ودون استشارة السكان المحليين، اتفقت شركات على صلة بـ”عَليا نزارباييف”، ابنة رئيس كازاخستان السابق “نورسلطان نزارباييف”، على التخلُّص من بضع مئات من أطنان المُخلفات الكيماوية السوفيتية في المدينة بعد نقلها من شواطئ بحيرة بلقاش.
غضب السكان من تحوُّل مدينتهم من جديد إلى مكب نفايات دون أي تشاور معهم، ومن ثمَّ تشكَّلت جماعة صغيرة منهم (وأحدهم كاتب هذا المقال) ونظَّمت مسيرات احتجاجية مُطالِبة بإزالة النفايات، وبناء منشأة مُخصَّصة لها في مكان بعيد عن ستِبْنوغورسك. وبعد أن بات السكان والسلطات وجها لوجه، قبلت الأخيرة المطالب المرفوعة إليها، وتعهَّدت بأن يُعاد نقل النفايات بحلول أغسطس/آب 2022. بيد أن الموعد النهائي ظل يؤجل منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.
“إنني أطلب منكم التعامل مع الوضع بقدر من التفهُّم، لأننا متأخرون بالطبع عن الجدول المُتَّفَق عليه”، هكذا تحدَّثت نائبة وزيرة البيئة الكازاخستانية “زولفيا سُلَيمانوفا” أمام سكان ستِبْنوغورسك في مؤتمر صحافي العام الماضي. بعد أن أصبحت زولفيا وزيرة البيئة بنفسها هذا العام، أعلنت في مؤتمر صحافي أُقيم في فبراير/شباط الماضي أنها تتوقع تنفيذ إزالة النفايات “قبل نهاية عام 2023”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.