الأغوار الفلسطينية- عندما هُجّرت عائلته من بئر السبع في النقب (جنوب فلسطين)، كان إسماعيل محمد زبيدات عمره 12 عاما وأصغر أشقائه، ورغم ذلك يتذكر رحلة اللجوء التي لم تغيّر مكان عيشه فقط، بل صفته البدوية التي أعتاد عليها.
اليوم، وبعد 75 عاما، أصبح إسماعيل في الثمانينيات من عمره، وهو مختار قرية الزبيدات الواقعة شمالي مدينة أريحا، وفي قلب الأغوار الوسطى، وهي القرية الفلسطينية الوحيدة التي تتكون من لاجئين هُجروا في نكبة 1948، وينتمون لعشيرة واحدة فقط.
يقول الحاج إسماعيل للجزيرة نت “بعد تهجيرنا خرجنا من بئر السبع في رحلة استمرت طويلا، بعض أفراد العشيرة أكملوا طريقهم إلى قطاع غزة وآخرون إلى الأردن”.
وصل إسماعيل وأسرته و7 عائلات أخرى تنتمي للعشيرة نفسها إلى هذه المنطقة بعد رحلة لجوء طويلة، وكانت منطقة شمال أريحا مقطوعة ولا تسكنها سوى الضباع والحيوانات البرية المتوحشة، لكن هذه العائلات استطاعت أن تحولها إلى أكثر المناطق خصوبة، لتصبح جزءا من سلّة فلسطين الغذائية.
تمسّكوا بالأرض وبصفة اللجوء
يقول الحاج إسماعيل “عشنا حياة البداوة في هذه المنطقة 20 عاما، ومع الوقت كان لا بد من التغيير الذي لم يكن سهلا علينا”.
خلال الفترة الممتدة بين 1948 و1967، عرض الاحتلال كثيرا على أبناء قرية الزبيدات السكن في المخيمات التي تتبع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين مثل غيرهم من اللاجئين، أو التخلي عن صفتهم كلاجئين مقابل تملّك أراض في المنطقة، إلا أن العشيرة رفضت كل هذا.
ليس ذلك فحسب، كما يقول الباحث وابن البلدة حمزة الزبيدات للجزيرة نت، فقد رفض الأهالي كل محاولات الاحتلال اللاحقة لاستقطابهم للعمل في الجيش الإسرائيلي مقابل الكثير من الامتيازات، كما “تعرض أهالي الزبيدات لكثير من محاولات الاستغلال من قبل الاحتلال، ولكن الرد الدائم كان الرفض لكل العروض التي قدمت لهم”.
ذاكرة التهجير والقتل
وبالعودة إلى تهجيرهم الأول في نكبة عام 1948 من منطقة “الهزيل” التي غيّر الاحتلال اسمها إلى “رهط”، يتحدث مختار الزبيدات عن المجازر التي سمعوا بها، بل شاهدوها إبان النكبة.
وقال إن العشيرة كان تنتقل من منطقة وتستقر في أخرى، لتعود لتنتقل إلى مكان آخر وهكذا، حتى وصلت إلى منطقة الظاهرية (أقصى جنوب الضفة الغربية)، ومنها إلى مدينة الخليل ثم إلى أريحا ومنها إلى منطقة الزبيدات الحالية.
لا يزال الرجل الثمانيني يذكر كيف أوقفت إحدى العصابات الصهيونية مجموعة من الفلسطينيين في صف واحد وقامت بإطلاق النار عليهم وقتلهم، ولا ينسى الخوف الذي شعر به حينما مر على هذه الجريمة مع عائلته، ولكن التعب الشديد الذي أصابهم حتى وصلوا منطقة الزبيدات بعد الهروب الطويل كان تأثيره أكبر.
زاد صعوبة الأمر عليه وعلى عائلته وباقي عشيرة الزبيدات ارتفاع درجات الحرارة في ذلك الوقت، فكان وصولهم إلى المنطقة في منتصف مايو/أيار، حيث الصيف على الأبواب وتشتد الحرارة في المنطقة الغورية إلى درجة كبيرة.
وقتها، بقيت عائلة المختار إسماعيل وباقي عائلات الزبيدات شهورا لا يجدون ما يأكلونه سوى ما تنتجه المواشي التي استطاعوا تربيتها من حليب ولبن، “وحتى الخبز كان نادرا” كما قال.
تثبيت القرية
أجبر رفض أبناء الزبيدات للتسويات -التي كانت ستُفرض عليهم- الاحتلال على الاعتراف بمكان سكن العشيرة كقرية فلسطينية تتبع محافظة أريحا والأغوار. وفي الوقت ذاته، حافظ أهلها على صفتهم بأنهم “لاجئون يحملون بطاقات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)”.
وساعدتهم حياة البداوة التي قدموا منها على التكيف مع الواقع الجديد إلى حين اعتياد الحياة القروية والتحول إلى امتهان الزراعة.
يقول حمزة زبيدات “بالعادة هذا الانتقال يتطلب سنوات عديدة، ولكن الحاجة والإصرار على البقاء جعلا الأمر بالنسبة لأهالي الزبيدات أسرع وأكثر نجاحا”.
ولكن قرار التخلي عن حياة البداوة ورعي المواشي والتنقل من مكان إلى آخر لم يكن سهلا فعلا، غير أنه “لا بد منه” كما يقول المختار إسماعيل؛ “فبعد احتلال ما تبقى من فلسطين في حرب عام 1967، بدأت إسرائيل السيطرة على الأغوار (شرق الضفة الغربية)، فكان لا بد من الاستقرار والتمسك بالأرض خوفا من خسارتها”.
وفي حرب 1967، عاشت القرية تهجيرا ثانيا؛ إذ هرب الكثير من أهلها إلى الأردن التي لا تبعد حدودها عن القرية الكثير، “وكان يكفي أن تقطع هذا الشيك (شبك فاصل)” كما يشير المختار إسماعيل إلى الحدود الأردنية المقابلة لمنطقة بيته في الزبيدات.
وبقي الأهالي أكثر من 3 أشهر في الأردن، بعضهم استقر في مخيم حطين بالأردن قبل أن يقرر 80 من أبنائها العودة إلى بيوتهم وإعادة بناء القرية من جديد. وعندها بدأ التحول “وبدأنا تعلم طرق الزراعة من القرى المجاورة، وأصبحنا نزرع الخضراوات ونسوّقها للبلدات القريبة”.
هجرة ثالثة
وحالة الصمود والتشبث بالأرض لعدم تكرار تجربة اللجوء التي عاشها المختار إسماعيل وهو أكبر أبناء الزبيدات سنا، والتي سمعها من جده ووالده الشاب حمزة (39 عاما) لا تزال مستمرة في القرية التي تواجه خطرا جديدا على يد الاحتلال في السنوات الأخيرة، لا سيما مع مخططات الاحتلال لضم مناطق الأغوار -والزبيدات جزء منها- إلى إسرائيل.
يقول حمزة “هناك محاولات دائمة لإجبار السكان هنا على الرحيل، سواء عبر تحويل الأراضي إلى مناطق عسكرية وإغلاقها ومصادرتها في ما بعد، أو بالسيطرة على مصادر المياه، مما جعل الأهالي يغيرون نمط الزراعة المعتاد لديهم”.
وتروي ابنة القرية لينا الزبيدات (43 عاما) جانبا من تضييق الاحتلال على عائلتها ومصدر رزقها الذي اعتادت عليه بزراعة الخضراوات، مما اضطرها إلى التحول لزراعة التمور لكونها تحتمل المياه المالحة التي لم يعد متاحا لهم غيرها بعد سيطرة المستوطنات الإسرائيلية على مصادر المياه الحلوة في الأغوار.
وتقول لينا للجزيرة نت “حتى مياه الشرب التي تصل إلى المنازل نضطر لشرائها من شركة المياه الإسرائيلية”.
ليس هذا فحسب، فقد تقلصت مساحة القرية إلى أكثر من النصف، بعد مصادرة الاحتلال أراضيها لصالح بناء مستوطنة “أرجمان” وشق الطرق الاستيطانية عليها.
ورغم خطر الضم والمصادرة الذي تواجهه القرية، التي تقع أراضيها بالكامل ضمن التصنيف “ج” (أراضٍ تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة) إلا أن أهالي الزبيدات يحفظون وصية مختارهم ومن قبله أجدادهم ممن عاشوا النكبة، بعدم التخلي عن أراضيهم مهما كانت الظروف “فالنكبة لن تتكرر مرة أخرى”، كما شدد إسماعيل.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.