بيروت- بين دفتي كتاب “طواحين الهوى”، الممهور باسم 15 امرأة من أهالي المفقودين والمخفيين قسرًا خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، نُقلب صفحات البوح عن مشاعر نساء يختبرن فعل الكتابة لأول مرة في حياة قضينا أكثر من 40 عامًا منها بالانتظار، فـ”نحن لم نعش، بل نحن ننتظر فقط”، كما تقول وداد حلواني، رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان.
في الحروب وما بعدها، غالبًا ما يُسأل ذوو الضحايا من المفقودين والمخطوفين عن أي جديد حول مصيرهم. لكن، هل ثمة من يسألهم عن أحوالهم النفسية، وحياتهم في منازلهم، وعلاقتهم مع أبنائهم ومعارفهم؟
حكايات في الذاكرة
ما نقرأه في “طواحين الهوى”، بوحٌ خالص عن جانب شخصي وعاطفي في ذاكرة الانتظار، وهو يضم 15 قصة قصيرة معنونة كالآتي:
- “هذه حكايتي”، فاطمة علي جمال.
- “ويبقى الأمل”، فردوس آغا.
- “اسألني”، سهاد كرم.
- “رحلة في ماض أليم”، سعاد أبو نكد.
- “شانايْ- من فسحة حب إلى ساحة حرب”، وداد حلواني.
- “من خلف المرايا تأتي الحكايا”، ليلى حرفوش.
- “عاصفة داخل جسد”، مريم سعيدي.
- “واقع يفوق الخيال”، نبال مطر.
- “أمي المتسولة”، سعاد الهرباوي.
- “من غير وداع”، مي السيد أحمد.
- “ماضٍ لا ينسى”، حياة ماضي.
- “سأستمر”، أنجاد المعلم.
- “لم يعد بعد”، يولّا فرحات.
- “خطوات وأثر”، سوسن كعوش.
- “وراء كل باب حكاية”، نهاد الجردي.
والكتاب المؤلف من 147 صفحة، وصدر بثلاث نسخ: عربية وفرنسية وإنجليزية، عن “دار نلسون” في بيروت، تزامن إطلاقه مع الذكرى الـ48 للحرب اللبنانية التي أسفرت عن نحو 100 ألف قتيل ونحو 17 ألف مفقود، وفق تقديرات رسمية.
وأُرفقت كل قصة تحت عنوانها باسم المفقودين للسيدة المشاركة وزمان فقدهم ومكانه، ورسمة تعبيرية من تصميم تانيا رضوان، تجسد معاني حياة الانتظار وأشكالها.
وفي غلافه الخلفي، علّقت الفنانة اللبنانية أميمة الخليل: “من سيستوعب فظيعة واقع هذه القصص التي لا يجرؤ حتى الخيال على رتق شظايا القلوب فيها؟”.
وعلى مدى عام، خضعت المشاركات لورشات عمل حول الكتابة الإبداعية، مع الكاتبة اللبنانية فاطمة شرف الدين، بتمويل من “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”، وبالتعاون مع “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان” التي تأسست منهم سنة 1982، وهدفها معرفة الحقيقة والكشف عن مصير جميع الضحايا الذين فقدوا وخطفوا خلال الحرب.
تقول اللجنة في مقدمة الكتاب: “صحيح أننا استطعنا بعد نضال طويل وشاق انتزاع قانون كرس حقنا في معرفة مصير ذوينا.. كأننا وجدنا في هذه الدنيا لنكون أهالي مفقودين، وليكون أولادنا أولاد مفقودين.. المأساة طالت، وصار لزامًا علينا أن نبوح”.
توقيع السيدات
وفي “دار الوردية” ببيروت، اجتمعت مطلع يونيو/حزيران 2023 السيدات في حفل إطلاق وتوقيع الكتاب الذي غصّ بعشرات الحاضرين ممن استمعوا لشهادات المؤلفات المؤثرة، وأحيت جروح اللبنانيين الذين عاشوا أهوال الحرب الأهلية والطائفية وتداعياتها.
وعلى الهامش، جلست السيدات لتوقيع الكتاب، وعبّرن عن فخرهن بالإنجاز رغم الآلام التي تركت أثرها على وجوههن، وأجمعن -في حديث للجزيرة نت- على أن كتابة قصصهن كانت بمثابة علاج نفسي طال أوانه.
تُخبرنا فاطمة علي التي فقدت أختها حليمة مع أطفالها الستة من بيتها في منطقة النبعة سنة 1977، كيف دخل مسلحون من إحدى المليشيات اللبنانية وخطفوا شقيقتها بعد ولادتها بثلاثة أيام. ومما تقوله في قصتها، وهي بالكاد كانت تجيد القراءة والكتابة: “سأبقى أحلم إلى أن يتحقق أصغر أحلامي، وهو معرفة مصير أختي وصغارها، مهما كان هذا المصير”.
وقبالتها، كانت تجلس حياة ماضي التي فقدت والدها محمد نجيب في منطقة عالية يوم 14 أبريل/نيسان 1982 أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتعبّر عن مرارة البحث دون جدوى. وتوثق لحظات اختطافه من منزلهم أمام أعينهم، فتقول في قصتها: “حاول أبي أن يقاوم، لكن المسلحين تجمعوا حوله وأطلقوا الرصاص بين قدميه..”، قبل أن يأخذوه عنوة، وتضيف: “من شدة الانفعال، وقعت العصا من يد جدتي، وسقطت أرضا مغمى عليها”.
ووسط السيدات، تجلس اللاجئة الفلسطينية سوسن كعوش التي فقدت شقيقها محمد كعوش أثناء تسلله مع مجموعة من جنوب لبنان إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لتنفيذ عملية يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 1980، وبقيت جثته مفقودة هناك. وتخبرنا في قصتها: “كان شقيقي في العشرين من عمره، وكنت في السابعة، جاء من عند خالنا في الأردن إلى جنوب لبنان ليجد عروسا له، لكنه أمسى شهيدًا على طريق فلسطين”.
هذا العلاج النفسي بالكتابة، لا يلغي حقيقة أن مصير المفقودين والمخطوفين بقي مجهولا، وفق سهاد كرم التي فقدت زوجها سالم جرجس كرم سنة 1983، في حرب الجبل، عند إحدى حواجز الميلشيات اللبنانية، وبقيت تعاني بالبحث عنه مع أبنائها الثلاثة. وتخاطبه في قصتها بالقول: “لا أريد أن أتخيل إلا أنك عدت. يمكن أن تكون متكئًا على عصا، أو قد فقدت أسنانك وهزلت كثيرًا، وقد أصبحت تجاعيد وجهك كثيرة”.
نضال اللجنة
كتاب “طواحين الهوى”، اختارت عنوانه رئيسة اللجنة وداد حلواني التي تروي للجزيرة نت تجربتها، حين كانت تظن أن الحرب لن تقترب منها ومن عائلتها، لكنها دخلت إلى بيتها. تسترجع سريعا: “في 24 سبتمبر/أيلول 1982 عند الواحدة ظهرا، اقتحم مسلحان من المليشيات اللبنانية بيتنا بمنطقة النبعة عند خط التماس بين ما كان يعرف ببيروت الشرقية وبيروت الغربية. سحبا زوجي عدنان حلواني، بحجة التحقيق حول حادث سيارة، لكنه لم يعد”.
وتتذكر زوجها حين كان عضوا قياديا مدنيا في منظمة العمل الشيوعي، وكان نشاطه الأساسي -وفق حديثها- هو “تأمين الطحين للأفران وفتح أبواب الثانوية لتعليم الطلاب، لمنع استغلالهم في الحرب”.
وبعد مرور نحو شهرين من اختطافه، استعملت صوتها بحكم وظيفتها في التعليم الرسمي كما تقول، ووجهت نداء إذاعيا لمن لديهم مفقودين بهدف التجمع وممارسة الضغط على الدولة، فتفاجأت بالأعداد الكبيرة للأهالي، وتأسست من حينها هذه اللجنة.
وتأسف حلواني لأن النضال الكبير للجنة تحقق منه بعد 36 عاما، في عام 2018، انتزاع قانون من البرلمان كرس حق الأسر في معرفة مصير المفقودين فقط. وعلى إثره، تشكلت هيئة وطنية مهمتها الوحيدة تقصي أثر المفقودين وتحديد مصيرهم، لكنها -وفق حلواني- لم تعط أدنى المقومات التي ينص عليه قانون تشكيلها سنة 2020.
وتجد في “طواحين الهوى” الذي روت فيه قصتها بحبكة توثيقية للأحداث التي عاشتها، أن الكتاب يُعرف الناس ومن نسي القضية بمعاني حياة الانتظار الأبدي.
وتتحدث عن أم تعرفها بقيت نحو 20 عاما ترفض الخروج من المنزل، متذرعة بانتظار ابنها المخطوف، وأنها تريد أن تفتح له الباب حين عودته.
وتقول حلواني: “الحداد لدينا حتى اليوم مجمد، وليست لدينا قبور نزورها”.
تجربة استثنائية
وخلال اللقاء، تحدثت الكاتبة فاطمة شرف الدين -للجزيرة نت- وهي مدربة على الكتابة الإبداعية، عن تجربتها مع السيدات في ورشة عمل جماعية بدأت في مايو/أيار 2022، إلى جانب ورشات عمل فردية مع كل سيدة.
ومن التحديات التي واجهتها، دفع السيدات إلى التفكير في تجربتهن الذاتية بمعزل عن هويتهن بالنسبة للمخطوف أو المفقود وقصته، لتحرير مشاعرهن. وتحكي شرف الدين عن تحدي تعليم الكتابة لسيدات لم تقرأ بعضهن كتابًا في حياتها نتيجة ظروف الحرب وما تلاها، ولأن للقصة فنونا وشروطا وحبكة وأحكاما ليس من السهل اكتسابها بورشة عمل.
وتجد شرف الدين أن أهم هدف هو توثيق قصص السيدات في قضية تواجه محاولات الطمس، والعمل على إبقائها حية ومفتوحة لتثري شهادتهن الذاكرة الجماعية.
وتبرر سبب اختيار سيدات حصرًا، باعتبار أن معظم المخطوفين رجال، ولكي يشعرن بالراحة في التعبير، لأن معظمهن يتحدرن من بيئات محافظة.
وسبق أن عملت شرف الدين في ورشة عمل شبيهة مع سيدات من الموصل في العراق، في السليمانية، حين كانت محاصرة.
وهذا النوع من الكتابة -برأيها- هو دعوة لإعادة النظر بالتعامل مع ذوي الضحايا، لأنهم ضحايا أيضا، وأصحاب هوية قائمة بذاتها. وبعيدا عن لغة التعاطف التقليدية، “من الضروري أن نمنحهم المنبر في عالم عربي يغرق بالحروب والدم، وتضج ذاكرته بالأحداث المؤلمة”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.