عادة ما كانت دور النشر في سوريا تُؤسَّس في العاصمة دمشق أو في حلب، ونادرا ما كانت تنطلق دار نشر في المحافظات الأخرى. وتعتبر دار “أرواد” إحدى هذه الدور التي تم تأسيسها في مدينة طرطوس الساحلية يوم 19 أبريل/نيسان 1993، وبعدها بأشهر صدر عنها أول كتاب بعنوان “ظلال الروح” للدكتور علي حسن.
وقبل أيام مرّت الذكرى الثلاثين لتأسيس هذه الدار التي نشرت أكثر من ألف كتاب. ورغم المأساة السورية الممتدة منذ عام 2011، فإن الدار مستمرة في عملها رغم شح الإمكانيات.
التقت الجزيرة نت مع صاحب الدار الكاتب والمترجم أحمد م. أحمد، وحاورته عن بدايات فكرة تأسيس دار نشر في مدينة أخرى غير العاصمة، وعن ذكريات تأسيسها، وإمكانياتها وطريقة تعاملها مع الكتّاب والمعارض، وعن الصعوبات والمشكلات التي تعرضت لها، وكذلك عن أحوالها خلال المأساة السورية، وغلاء المواد الأولية لصناعة الكتاب، وننقل في الأسطر التالية إجابات أحمد بلسانه:
ضوء النهار وضوء الكتاب
وُلدتُ عاشقاً للكتاب. في الطفولة، وقبل أن أتعلم المشي، كانت أمي تسكتني، لتعود إلى شغل البيت، إما بإزاحة المهد لكي أواجه شباك الغرفة الغربية (وهي الآن دار أرواد للنشر)، فيبهرني الضوء إذا كان الوقت نهاراً، أو تضع بين يديّ كتاباً، قد يكون قرآناً أو كتاباً لجبران خليل جبران أو للمنفلوطي أو لجرجي زيدان، فأقلّب الصفحات، وأشمّ الصفحات، وأتوقف عن البكاء ولو أصابني عطش أو جوع أو مغص.
في سنتي الجامعية الثانية، تعرفتُ إلى الصديق الكبير والكاتب الراحل وليد معماري. وبين الفينة والأخرى كنت أزوره في مكتبه في جريدة تشرين. وذات يوم وجدني متعبا ويائسا للغاية، فسألني عن الأمر، وقلت له إن راتب “مصرف التسليف الطلابي” بالكاد يكفيني العشرة الأوائل من الشهر، فسألني إذا كنتُ مستعدا للعمل مدققا لغويا في إحدى دور النشر، فقلتُ إن هذا حلمي، وهناك قدّمني إلى الراحل الكبير حسين العودات.
اشتغلتُ في دار “الأهالي” لفترة ليست طويلة، وكان عملي مراجعة النصوص المنضَّدة ضوئيا ومطابقتها مع الأصول أكثر مما اشتغلتُ عليها بالتدقيق اللغوي، لكنني كنتُ “أقبض” على بعض الأخطاء. وسمعتُ مرة الأستاذ العودات يرفع صوته على الهاتف قائلا “يا أخي، إذا الولد الفصعون (الصغير) المدقق الذي يعمل لديّ، كمش (أمسك) خطأً نحوياً لكاتب عربي معروف.. فهذا يعني أننا لا نحتاج إلى أن توصينا بالحرص”.
الأمن السياسي
كانت تجربتي في دار الأهالي مثمرة، وأكسبتني خبرة كبيرة. ومنها انتقلتُ إلى العمل في دار ناشئة، لكنني تركتُها مرغما في أوائل 1993 بسبب مزحة طفيفة بدرتْ مني أمام صاحب الدار بحق حزبه الشيوعي السوري، لأبقى بلا عمل لأشهر عديدة.
وذات يوم ألفيتُ نفسي قرب وزارة الإعلام، ففكرتُ بدخولها والسؤال عن الأوراق المطلوبة للحصول على ترخيص لدار نشر. صعدتُ إلى الطابق الثامن، وهناك ناولتني السيدة المسؤولة عن قسم النشر والمكتبات طلبا لكي أملأه. وحين وجدتُ أن موافقة “الأمن السياسي” مطلوبة، أصبت بالخيبة. ولحظة فتح باب المصعد في الطابق الأرضي، صادفتُ صديقا من أيام الجامعة، وسألني ماذا أفعل، فحكيتُ له عن الحلم الذي حاولت تحقيقه و”مات في أرضه” بسبب موافقة تلك الجهة الأمنية. لكن الصديق كان “واصلا”، فطلب من موظف الاستعلامات أن يسمح له بإجراء اتصال قصير، لم يستغرق دقيقتين اثنتين، سألني خلاله عن تاريخ ومكان الولادة والاسم المقترح للدار والمكان الذي سأمارس فيه النشر.
فريق العمل
بدأت الدار بتجمعات أصدقاء القهوة والمتّة، وبلافتة كتبها خطاط مبتدئ، وفي سقيفة ذات سقف واطئ أحني رأسي تحته رغم قصري. في تلك السقيفة، بلا حمّام ولا مغسلة ولا حنفية، تدبّرتُ أمر طاولة خشبية، ولاحقا استدنتُ ثمن حاسوب بدائي.
أتذكر أنني قلتُ في نفسي عندما تركتُ دمشق للاستقرار في طرطوس: “من هم الذين سنطبع لهم هنا، وهل يكفي عدد الكتاب الضئيل لأن تستمر الدار؟”، لكن سرعان ما أدركتُ أنني قد قللتُ من شأن محافظة أحبّها ولا أحب اسمها، فلم يطل الأمر حتى بدأ الشعراء والروائيون وكتّاب القصة بالتوافد، لتسجّل دارُنا أولَ كتاب “يصنَّع” بالكامل بين جدرانها، وذلك بعد مجيء الآلات، والتحايل لطباعة غلاف ذي لونين على الأكثر، وأما الأغلفة التي تحتاج إلى فرز ألوان و”سيلوفان” فكانت تُطبع في دمشق، وبعد وصول الغلاف يتم التجليد اليدوي على أيدي فريق العمل المؤلف من أختي وصبية أخرى وبعض الأصدقاء الذين يعملون بتجميع صفحات الكتاب مقابل قليل من المتة وكثير المرح.
بالنسبة إليّ، كان العيش مع رائحة الورق والحبر، ثم تفحُّص وتقليب وشمشمة الكتاب بعد انتهائه هو الغبطة الكبرى، ولم أجد مشكلة في تخفيض تكاليف الطباعة لبعض فقراء الحال من الشعراء. وفيما بعد، خصصتُ شيئا من أرباح المطبوعات التجارية كالفواتير والسجلات وحتى أوراق نعي الموتى لصالح ذوي التجارب العالية، ممن لم تولهم الصحف والدوريات الثقافية الحكومية الاهتمام.
أمّنت الدار استقرارا ماليا في وقت كان بإمكاني -لو أردتُ- أن أصبح ثريا من أثرياء هذه المحافظة، لكن لم يكن جنيُ المال ضمن اهتماماتي. عاش الأب والأم أياما طيبة بعد عمر من الشقاء والفقر الأسود، وكل ما كنتُ أتمناه أن تكون السنوات المتبقية من عمريهما أكثر عدلاً ووفرة. وقد رحلا مرتاحين، وهذا -بالإضافة إلى قائمة منشورات تطول كلَّ يوم- ما أدخل الراحة والسرور والتوازن إلى حياتي.
محطة وقود
لم أستطع أن أموِّل إنتاج سلسلة من الكتب تتيح لي المشاركة في معارض خارجية، لأن معظم الكتب التي تحمل شعار الدار كانت من تمويل أصحابها، الأمر الذي لم يترك لي أن أحلم بشراء سيارة هزيلة أو قطعة أرض صغيرة في الريف القريب، بل، حين سفري إلى أميركا للعمل في محطة وقود، اضطررتُ لاقتراض مبلغ من أحد المصارف لدفع ثمن تذكرة الطائرة.
بين حين وآخر، يلومني الصديقان القديمان سامي أحمد صاحب دار “التكوين”، وأيمن غزالي صاحب دار “نينوى”، لأنني لم أطلق الدار نحو فضاءات أوسع وأهم، ولأنني لم أستفد من علاقاتي بالمثقفين السوريين وغير السوريين، أو من علاقاتي بمن يعرف مَن لا أعرفهم في سبيل مشروع أكثر جدوى وربحية. سامي يقول إنه مستعد للأخذ بيد الدار. وأقول لهما باستمرار: أحلامي بسيطة للغاية، تكفيني رائحة الورق والحبر، يكفيني أني حيث حللتُ في أي محافظة سورية أجد منشورات “أرواد”. وأذكرُ أن هناك كتّاباً لم أتقاضَ منهم ليرة واحدة، وآخرين أخذتُ منهم نصف التكاليف، وأيضا: آخرين من اللصوص. ويبقى أن هذا هو الغنى الذي أريده، والحياة قصيرة وجميلة وأحيانا لئيمة.
الكوارث والخراب
أسّسَ تركُ السقائف وفتح مقرّ جديد للدار في بيت العائلة (يوم تشييع معلِّمي الكبير سعد الله ونوس) لمرحلة جديدة حفلت بالغبطة والنجاح، لكن ذلك لم يستمر طويلا، ليأتي انهيار الدار والإفلاس الكامل، بل الرزوح تحت نير الدَّين، بسبب كارثة صحية أصابت الأب والأم والأخت، الأمر الذي أضاف ندبة جديدة لن أنساها أبدا إلى سجلي المتخم بالندوب.
في سنة 2000، سافرتُ إلى الولايات المتحدة، وهناك اشتغلتُ في محطة وقود. وعدتُ في 2010. ومع بداية الحدث السوري، عرفتُ أن الأمور سوف تسوء في هذا البلد.
منذ 2011، أحاق القلقُ بكلّ شيء من حولنا، وبدأ عدد الراغبين بالنشر يتضاءل. وبسبب الخسارة الناجمة عن تدني قيمة الليرة السورية، آثرتُ عدم النشر إلا للمقربين وبدون أيّ ربح، لأتجه أكثر إلى الترجمة. ارتفعت أسعار الورق والمواد الطباعية كافةً، كما ترك انقطاع التيار الكهربائي وعودته بشكل فجائي ضرراً بالغا على الآلات، الأمر الذي كلفني في كلّ مرة ما يعادل 1100 دولار.
أمضيتُ جلَّ سنوات الحرب السورية في علاج الاكتئاب الشديد والأرق والهمود وفقدان الإرادة والرغبة في أي شيء، وما تركتْه مضادات الاكتئاب من الآثار النفسية والجسدية، وذلك ما انعكس حتى على ترجماتي في الثلث الأخير من هذه الحرب.
مقرّ الدار يشبه سوريا الآن: خرابة، غبار، آلات معطلة حزينة، أكوام من الكتب المهجورة، هاتف أرضي وحاسوب محطمان، نافذة بحرية لم تُمسح عنها الرطوبة البحرية المالحة، طاولة مكتب وكراسٍ و”صوفا” جلس عليها الكثير من الأصدقاء والأحباب.
وفي خراب الداخل، أنا أشبههما: الدار والبلد.
يذكر أن أحمد م. أحمد كاتب ومترجم وناشر، ولد في سوريا عام 1965، درس في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق. صدر له: “جمجمة الوقت” (قصص، 1993)، و”أحرق سفنه إلّا نعشًا” (نصوص، 2013)، وترجم الكثير من الروايات والدراسات والقصائد لكثير من الكتاب عن الإنجليزية، مثل بول أوستر وألبرتو مانغويل وتشارلز سيميك وروبرت بلاس وبيلي كولينز وآخرين.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.