برحيل علي حميدة.. هل تلفظ ثورة أغنية الصحراء آخر أنفاسها؟ | فن


مطروح- في يوليو/تموز عام 1988، طرح بالأسواق ألبوم “لولاكي”، من غناء وتلحين المطرب البدوي الراحل علي حميدة وتوزيع الفنان حميد الشاعري، وكلمات عزت الجندي، ووصف المراقبون هذا الألبوم بأنه الأكثر مبيعا في تاريخ الفن العربي.

هذه الأغنية ذات الأصل البدوي غناء وتلحينا، التي لم تتعد 5 دقائق، أحدثت ثورة في الأغنية العربية، وكانت بمثابة اتجاه جديد للأغنية البدوية من جميع الأشكال، من حيث الكلمة واللحن والتوزيع الموسيقي، فكان كل شيء فيها مختلفا، وقد بيع منها أكثر من 6 ملايين نسخة في جميع أنحاء العالم، برقم قياسي لم يسبق له مثيل.

واستطاعت هذه الأغنية وحدها أن تلفت الأنظار للغناء البدوي بما يحويه من أسرار وشجن وحزن وفرح دفين، وكان من الممكن أن تكون نواة للنهوض بالأغنية البدوية في الصحراء الغربية وصعيد مصر، وهذا ما قام به الفنان الشاعري الذي انتقى عددا من الأغاني أعاد توزيعها من جديد بالاشتراك مع حميدة، ومنها “والله زينة” و”كوني لي” و”زين على زين” و”وِدِينا” و”يا موجة فرحانة” و”عني”، وهو ما فعله أيضا الفنان هشام عباس في أغنية “عيني”، وكلها أغان لاقت نجاحا جماهيريا ساحقا.

ولكن ما جرى للأغنية البدوية أنها جوبهت بانتكاسة كبيرة مع بداية الثمانينيات، مما أدى لتقويض هذه الثورة الفنية الكبرى للأغنية البدوية، وعن الأسباب والحيثيات تدور لقاءات الجزيرة نت مع بعض فناني الأغنية البدوية في مطروح والصحراء الغربية.

صوت الجبل

الفنان يحيى عبد الله، أو صوت الجبل كما يطلقون عليه في ليبيا والصحراء الغربية في مصر، والحافظ لسيرة الفن البدوي في الصحراء الغربية وإقليم برقة، اشتغل على التراث البدوي بإخلاص، واستطاع تطوير الآلات البدوية مثل المقرونة والسمسمية، وسافر ليغني في كثير من مهرجانات العالم، في جرش بالأردن، والإمارات والعراق وألمانيا، وله ألحان لكثير من المطربين المشهورين مثل عمرو دياب (1986) وفرقة الـ “فور إم”. ولحن للفنانة نيللي بعض حلقات مسلسل “فوازير حول العالم”، وغنى الفن البدوي في الأوبرا وحفلات “أضواء المدينة”.

ويقول عبد الله إن الفن لا يعترف بالحدود والتقسيمات، وإن الأغنية البدوية في الصحراء الغربية واحدة، “تمتد من الإسكندرية عبر الصحراء حتى مطروح وكل ليبيا وبعض الأقاليم في تونس، وهو ما كان يسمى قديما بإقليم برقة”.

ويضيف -في حديث للجزيرة نت- أن الغناء كان بدائيا للغاية، ولم تكن هناك سوى “المقرونة”، وهي آلة تشبه الناي، وكانت من عُقلة واحدة، ولا يوجد لها سلم موسيقي، واستمر هذا الوضع حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي عندما جاء مصراتي موسى واستطاع تطوير هذه الآلة حتى تعطي مقابلا معادلا للآلات الثابتة كالأوكارديون.

ويقول عبد الله “ثم جاء الفنان محروس حمادة واستحدث الركائز في المقرونة (الزمارة) لكي تعزف باقي النغمات على السلم الموسيقي”. وتابع “أضفت أنا للزمارة مقام الرصد والبياتي، حتى استطاعت المقرونة أن تنافس الآلات الموسيقية الحديثة، ولتصبح جنبا لجنب مع بقية الآلات الموسيقية تخضع لنفس السلم الموسيقي، وما على العازف إلا أن يجتهد حتى يأتي بالنغمة المطلوبة”.

ولحفظ التراث البدوي ألف “صوت الجبل” وسجل “أوبريت الثقافة الجماهيرية” الذي يحوي 17 لوحة تضم الأنواع السبعة من الأغاني المعروفة في البيئة البدوية، وفاز بالمركز الأول في الموسيقى والغناء وتم ترشيحه للمسرح التجريبي.

وحدة مطروح والشرق الليبي

تتشابه الفنون بين القبائل في محافظة مطروح والشرق الليبي وتشكل وحدة متكاملة، حتى إن المطربين المصريين في مطروح يقال عنهم إنهم ليبيون، والعكس، وعن ذلك يقول المؤرخ والأديب منعم العبيدي “للجزيرة نت” إن التأثير الثقافي في مطروح أو الصحراء الغربية المصرية واحد، وهذا يعود لوحدة القبائل وامتدادها ما بين البلدين.

ويضيف العبيدي أنه قبل معاهدة “سايكس/بيكو” والتقسيمات الإمبريالية للمنطقة، كان الوطن العربي عبارة عن أقاليم، منها برقة الذي يمتد من مدينة أجدابيا أقصى مدينة بنغازي حتى حدود الإسكندرية، ويتميز بثقافته وتراثه وعاداته وقبائله، وهو ما أدى إلى تشابه في الزي والفن والتقاليد، وهذا التشابه هو نفسه الذي يحكم علاقات القبائل الموجودة في شمال مصر وحتى جنوب السودان.

التأثر بالغناء الأندلسي الحزين

أما عن الحزن والشجن الذي تمتاز به الأغنية في منطقة الصحراء الغربية، فيقول العبيدي إن منطقة الشمال الأفريقي لها صلات وثيقة بشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، وبالتنقيب في التاريخ وجدنا أنه مع بداية سقوط الأندلس، نزح أثرياء المسلمين في البداية إلى المدن المأهولة في شمال أفريقيا وتركيا وكل الدول العربية، وذابوا فيها.

ولكن مع بداية المذابح التي صاحبت محاكم التفتيش في الأندلس، يضيف العبيدي، هرب الفقراء بدينهم إلى الشمال الأفريقي “ولم يجد هؤلاء مكانا مفتوحا يؤويهم إلا إقليم برقة، خاصة أنه كان مهملا من الإدارات الحاكمة لصحراويته الشديدة”.

وتابع “جاء الموريسكيون بأعداد كبيرة وبنوا مدنا مثل درنة وأعادوا بناء بنغازي، ولكثرة الأعداد التي نزحت حدث تأثير حضاري كبير، كان بمثابة نقل لحضارة الأندلس إلى إقليم برقة، وتأثرت بتلك الثقافة القبائل المحيطة بالوافدين الجدد، وتأثرت بالموسيقى الأندلسية بما فيها من شجن وجدة وتجدد، فكان الموريسكي يغني بحزن وشجن عن البيت الذي تركه والابن الذي قتل والأحباب الذين لن يراهم وضاعوا في رحلة التهجير القاسية، ومن هنا جاءت الأغاني الحزينة لأهالي برقة، حتى إن الغناء لا يخلو من بكاء وشجن”.

الفنان يحيى عبدالله
الفنان يحيى عبد الله الملقب بصوت الجبل (مواقع التواصل)

بعض الدراسات عن الفنون الموجودة على امتداد إقليم برقة تقول إن لها علاقة بالموريسكيين، ويوجد نوع من الغناء في مطروح وليبيا يعرف باسم “موريسكاوي” نسبة إلى الموريسكيين الأندلسيين.

وأهم ما يميز التراث الموسيقي والغنائي البدوي في محافظة مطروح (غرب مصر) هو “المقرونة”، وهي الآلة الأساسية في الموسيقى الشعبية للصحراء الغربية، وتمتاز بنبرة فريدة تجعلها تعزف الألحان البدوية المختلفة بحالتي الشجن القاسي، والفرح المبهج.

أنواع الغناء الصحراوي

وفي لقائنا مع مطرب فرقة الفنون الشعبية سلومة عبد الله الذي يقول إنه يوجد في مطروح 7 أنواع من الغناء وهي “غناوة العلم، الشتيوة، ضمة القشة، صوب خليل، الطق، المجرودة، لمكاسرة”، وكل نوع له مميزاته ومناسباته.

وينتشر هذا الغناء في الصحراء الغربية من أول مدينة العامرية غرب الإسكندرية وبعرض ليبيا حتى تونس، وجميع ألوان الغناء هذه موجودة بالصحراء وإن اختلفت أسماؤها من منطقة لأخرى، فمثلا: السامر عند أولاد الصحراء في مطروح يسمى “الكشك” في ليبيا، بحسب سلومة.

و”غناوة العلم” فن دارج يشتهر به إقليم برقة في مصر وليبيا، وهي مفتاح جلسات الأفراح، وتؤدي في أي وقت حسب الموقف الذي يمر به الإنسان في حياته اليومية، وتمتاز هذه الأغنية بتكوينها ذي البيت الواحد، وتؤدى بصوت مرتفع نسبيا وبنبرة مائلة إلى الحزن، مع تغطية الوجه باليدين، بطريقة تعتمد على التقديم والتأخير والتشويق.

ومن الأنواع المشهورة في الغناء البدوي بمنطقة مطروح ما يسمى “المجرودة”، وهي قصة منظومة في قصيدة، تكتمل فيها كل عناصر القصة، بداية من العنوان، مرورا بالتعريف بالشخوص، وانتهاء بالعقدة الخاتمة.

أما “الشتيوة”، ويعنى بها شغاف أو شتات القلب، فهي قصيدة من بيت واحد، أو جملة واحدة من 4 أو 7 كلمات، يصاحب بها المغني فرقة موسيقية. في النصف الأول من “الشتيوة” يغني المؤدي بصحبة بعض أفراد الفرقة، وفي النصف الثاني يردد باقي أعضاء الفرقة “الشتيوة” ويصحبها تصفيق بطريقة مميزة من الفرقة، وفقا لسلومة عبد الله.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post الإجازة الأسبوعية منعت كارثة.. حريق في مبنى وزارة الأوقاف بمصر
Next post سندعم جهود إكواس لإحباط الانقلاب في النيجر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading