بغداد- لم يكن علي الغزي يعلم أن مشاركته في “العراضة” المسلحة لقبيلته ستكتب لحظات حياته الأخيرة، بعدما أصابته في مقتل بأعيرة نارية طائشة. ومن المفارقات أن تشييع الرجل شهد إطلاق نار كثيف، وفق ما رواه جاره الحقوقي أحمد الوائلي.
باتت “العراضات” العشائرية المسلحة إحدى الظواهر الشائعة في العراق، إذ تشهد المناسبات الاجتماعية وحفلات الأعراس وجنائز التشييع مسيرات مسلحة يتخللها إطلاق أعيرة نارية في الهواء.
ويؤكد الوائلي للجزيرة نت استمرار العراضات المسلحة رغم رفض غالبية شيوخ العشائر ظاهرة تفشي السلاح وإطلاق النار في المناسبات.
ما العراضة؟
“العراضة” مصطلح مأخوذ من العرض والاستعراض، وهي عبارة عن حركة دائرية انفعالية تتميز بدبكة قوية على الأرض تقوم بها مجموعة عشائرية ترفع الأعلام والرايات وتتغنى بالأهازيج لإيصال صوتها إلى المقابل، سواء شخصية أو مجموعة أو عشيرة، بحسب المؤرخ صباح الحمداني.
ويوضح الحمداني للجزيرة نت أن العراضة تلازمت مع الأهزوجة (شعر شعبي منشود)، حيث يستذكر فيها المهوال (شاعر يمتدح بالأهازيج) كبار العشيرة ومفاخرها وحروبها وكرمها.
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة تعد موروثا شعبيا له ميزته الخاصة، فإنها استخدمت في بعض الأحيان سلبا ليكون مضمونها لإرسال رسالة تخويف للآخر، بحسب الحمداني، مما أعطى تصورا بأن كثيرا من التجمعات العشائرية استخدمتها كعامل ضغط وترهيب. وأدت هذه العراضات إلى وقوع حوادث كثيرة أسفرت عن سقوط ضحايا بسبب إطلاق النار.
تاريخ العراضة
يعود تاريخ “العراضات” المسلحة إلى عقود طويلة، وازدهرت بشكل كبير إبان “ثورة العشرين” في العراق، حيث ارتبطت بـ”الهوسات” (الفلكلورية الشعبية) العشائرية التي تحفز الثوار آنذاك.
يقول الباحث والمؤرخ في شؤون العشائر العراقية هاتف فيصل الحولاوي إن “الهوسة”، التي تعد أبرز فعاليات “العراضة”، هي خليفة الحداء، أحد ألوان الشعر الشعبي البدوي.
وبرز هذا اللون الشائع من ألوان الشعر الشعبي العراقي في أيام “ثورة العشرين” عندما ثارت العشائر العراقية ضد الاحتلال البريطاني.
ويضيف الحولاوي للجزيرة نت أن هناك من يصوغها من 3 أشطر، ثم يقفل بالشطر الرابع ويسمى “رباط الهوسة”. ومنهم من يجعل بدايتها بيتا من الأبوذية (نوع من الشعر العامي أو شعر البادية)، ويجعل قفل البيت “رباط هوسة”. وهناك شواهد قديمة تدل على أن هذه العراضات والهوسات كان يرافقها إطلاق أعيرة نارية، كحالة من التأهب والاستعداد.
ويستمر إطلاق النار في حالات الحروب والعزاء، وقليلا ما يكون في الأعراس. ويكون للشاعر “المهوال” دور كبير في استنهاض الهمم وبث روح التفاخر في القبيلة.
ويلفت الحولاوي إلى أن هذه “العراضات” تصاعدت خلال السنوات الأخيرة، رغم من أن كثيرا من العشائر العراقية لا تزال ملتزمة بعدم إطلاق النار، وتخرج بين فترة وأخرى وثيقة وتعهد من هذه العشيرة أو تلك، خصوصا بعد صدور فتوى تحرم إطلاق النار.
ضعف السلطة
يؤكد أحمد شاكر، وهو ناشط من محافظة ذي قار ذات الطابع العشائري، أن “العراضات” العشائرية موجودة منذ عشرات السنين، لكنها تقل في بعض السنوات بسبب قوة القانون والسلطة، وتتصاعد عند ضعف السلطة.
ويوضح شاكر، في حديثه للجزيرة نت، أن طبيعة المجتمع العراقي تغلب عليه القبلية ولا يزال يتمسك بالعادات العشائرية وإطلاق النار في المناسبات الحزينة والسعيدة للتعبير عن مشاعره، بطريقة قد تهدد حياة الأبرياء.
ويروي شاكر كيف كاد يفقد حياته عندما سقط الرصاص الحي العشوائي أمام منزله في إحدى تلك العراضات القريبة.
وكانت وزارة الداخلية العراقية حذرت على لسان مدير شؤون العشائر في الوزارة اللواء ناصر النوري، من أخطار “العراضات” المسلحة وتهديدها المباشر لحياة المواطنين.
ولفت النوري، في حديث لوكالة الأنباء العراقية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، إلى أن هناك توجيهات من الوزارة بضرورة تهذيب العراضات العشائرية من خلال الاكتفاء بإطلاق “الهوسات” والأهازيج والأعلام ورفع السيوف والتلويح بالأسلحة، من دون إطلاق الأعيرة النارية.
وبحسب النوري، فإن القانون العراقي يعاقب كل من يطلق الأعيرة النارية في المناسبات أو “العراضات” العشائرية المسلحة بالحبس مدة تصل إلى 3 سنوات.
ويصف أستاذ علم الاجتماع الدكتور حميد الهاشمي “العراضات” المسلحة بأنها “إرث تم بعثه من جديد، بسبب غياب القانون وضعف الدولة وهشاشة الوضع الأمني”.
ويقول الهاشمي للجزيرة نت إن العراضات المسلحة تعطي صورة سلبية من خلال تهديد الأرواح وترويع الآمنين وبث القلق والرعب في نفوس الناس، كما تعكس مظاهر حمل السلاح مدى ضعف هيبة الدولة وخرق القانون، وبالتالي يعني إضعاف ثقة الناس بالدولة وبالقانون والقائمين عليه.
ويدعو الهاشمي إلى فرض سلطة القانون وتكاتف الجميع لمنع إقامة هذه الفعاليات، ونشر التوعية في المجتمع بشأن أخطار هذه التصرفات ونتائجها الوخيمة.
أخطار وخسائر
أدى انتشار السلاح بعد عام 2003 إلى تفاقم ظاهرة “العراضات” المسلحة ودخول الأسلحة الثقيلة والمتوسطة ضمن عمليات إطلاق الرصاص العشوائي في المناسبات العشائرية المختلفة.
ويقول المحامي والخبير القضائي واثق كاظم العابدي للجزيرة نت إن أعداد ضحايا رصاص العراضات العشائرية يصل إلى 55 قتيلا سنويا في أرجاء العراق، بالإضافة إلى عشرات المصابين والمعوقين، والأعداد في ازدياد واضح خلال السنوات الأخيرة.
كما يُحدث الرصاص الطائش أضرارا مادية كبيرة في سيارات المواطنين، بالإضافة إلى خزانات المياه وواجهات الأبنية الحديثة وأنظمة الكهرباء وخطوط نقل الطاقة، وخسائر مادية فادحة تنتج عن حرق المحاصيل الزراعية جراء سقوط الأعيرة النارية في الحقول والمزارع.
وتخسر القبيلة، وفق العابدي، مبالغ مالية كبيرة تصل إلى نحو 350 مليون دينار عراقي (267 ألف دولار)، وهي تكلفة العتاد المستخدم في “العراضة” العشائرية الواحدة إذا كانت خلال عزاء شيخ عشيرة أو أمير قبيلة.
ودعا العابدي إلى إيجاد تشريع خاص لمعالجة هذه الظاهرة، أو تعديل النصوص الموجودة، بما يضمن تشديد العقوبة على مرتكبي “العراضات” المسلحة، وتحقيق الردع العام والخاص.
نظرة المجتمع
تعرب شرائح واسعة من المجتمع العراقي عن رفضها لـ “العراضات” المدججة بمختلف أنواع الأسلحة، خصوصا بعد تسببها بسقوط ضحايا كُثُر خلال السنوات الماضية.
ويقول الشيخ خلف ناصر الصجيري السراي، شيخ عموم عشيرة الصجيرات، إن عشيرته والكثير من العشائر العراقية الأخرى منعت استخدام السلاح وإطلاق الأعيرة النارية في المناسبات.
وفي حديثه للجزيرة نت، يلفت الصجيري إلى وجود بعض المتهورين ممن لا يستجيبون لنداءات الشيوخ والمرجعية الدينية، ويطلقون النار خلال “العراضات” العشائرية والمناسبات الأخرى.
وقد وقعت أخطاء كثيرة من هذا القبيل، كان آخرها الحادث المأساوي الذي حصل قبل نحو شهر، عندما أسفر إطلاق الأعيرة النارية عن سقوط أكثر من 8 ضحايا خلال تشييع أحد شيوخ العشائر.
ويشدد الصجيري على أن ممارسي هذه الأعمال تتسلمهم الجهات الحكومية المختصة للتحقيق معهم و”أخذ جزائهم العادل، ولا يتم التستر على مثل هؤلاء المتورطين بدماء الأبرياء”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.