انهيار الصناعة العسكرية الروسية.. بكين تأكل كعكة موسكو في سوق السلاح العالمي


مقدمة الترجمة

يوما بعد يوم تقترب روسيا والصين بشكل أكبر، وهي علاقة تفيد الطرفين بشكل ما، خصوصا فيما يتعلق بهدفهما المشترك في مواجهة نفوذ الغرب والولايات المتحدة، لكن داخل العلاقة نفسها يبدو أن الصين تستفيد أكثر بكثير من روسيا، فبعد أن نجحت على مدار عقود في الحصول على أهم منتجات الصناعات العسكرية الروسية وهندستها عكسيا وتصنيع نسخ محلية منها، لم تصل الصين فقط إلى مرحلة الاستغناء محليا عن واردات السلاح الروسية، لكنها باتت اليوم تنافس روسيا في أسواق السلاح الدولية، بل تورد أيضا الأسلحة إلى الجيش الروسي نفسه في ظل احتياجاته المتزايدة بسبب حرب أوكرانيا.

نص الترجمة

ثمَّة علاقة دفاعية جديدة بين الصين وروسيا، وفي تلك العلاقة تفعل الصين ما تشاء تقريبا، وما من شيء يمكن لروسيا أن تغيِّره بشأن تلك الحقيقة.

لقد زار الرئيس الصيني “شي جين بينغ” العاصمة الروسية موسكو مؤخرا، وهي أول زيارة له إلى هناك منذ غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وقد لخَّص المؤرخ البريطاني-الروسي “سيرجي رادشِنكو” الزيارة قائلا: “يمكننا أن نوجِز القمة الروسية-الصينية بالمثل الصيني القديم: “رعد شديد ومطر قليل”، بل لم يكن الرعد شديدا في الحقيقة في تلك القمة”.

وفيما يبدو فإن الزيارة لم تؤدِّ إلى تحولات سياسية كبرى ولا حتى تصريحات لافتة للنظر تشي بدعم الصين لروسيا، بيد أن القمة برهنت على النقلة الفعلية الجارية في طبيعة العلاقة بين البلدين، وهي علاقة لا حدود لها على حد وصف بيان صادر من الكرملين، فقد باتت الصين صاحبة اليد العليا في كل جوانب العلاقة الروسية-الصينية، بما في ذلك المجال الدفاعي-الصناعي الذي هيمنت عليه روسيا يوما ما.

يوما ما.. بين ماو وستالين

تعود الصلات العسكرية بين روسيا والصين إلى عشرينيات القرن الماضي، حين دعم النظام الشيوعي في موسكو النظام القومي في الصين (المعروف بـ”الغوميندانغ”) بدلا من دعم قوات الزعيم الشيوعي “ماو زيدونغ” في أثناء الحرب الأهلية الصينية، وفي خضم حرب الصين مع الإمبراطورية اليابانية، بيد أن الزعيم السوفيتي “ستالين” سرعان ما رجَّح كفة الحزب الشيوعي الصيني، وتنازل عن مقاطعة منشوريا الشمالية وصناعاتها الثقيلة في عام 1945، ثم بدأ في منح الدعم الاقتصادي، وأسهم في تأسيس الصناعات العسكرية والمدنية الوليدة لجمهورية الصين الشعبية (التي حسمت سيطرتها على كامل الصين عام 1949)*.

الزعيم السوفيتي “ستالين” (يمين) والزعيم الشيوعي “ماو زيدونغ” (غيتي إيميجز)

في تلك الفترة نقل الاتحاد السوفيتي العديد من أشكال التكنولوجيا العسكرية إلى الصين، بما فيها أنظمة سرعان ما حوَّلتها الصين إلى طائرات مقاتلة من طراز “جيه-5” و”جيه-6″، وكذلك قاذقة القنابل “إتش-6″، ولم يكن ذلك محض إعلان لحُسن النوايا من جانب السوفييت، بل إنه اتجاه لفتح الباب أمام حليف من حلفاء موسكو لاستنساخ تصميمات الروس، وقد استطاع الاتحاد السوفيتي ليس تسليح حليفه الوثيق من دون هوس بسرية صناعاته فحسب، بل الاعتماد على ذلك الحليف أيضا لتزويد حلفاء سوفييت آخرين بالسلاح، مثلما حدث في أثناء الحرب الكورية (التي لعبت فيها الصين دورا محوريا)*.

قاذقة القنابل “إتش-6” (رويترز)

سرعان ما تفسَّخ ذلك التحالف المتين، بينما توالت فصول الحرب الباردة، ولكن بقي السواد الأعظم من الصناعات العسكرية الصينية، من الصواريخ والرادارات إلى السفن الحربية، شديد التأثر بنظيره السوفيتي ثم الروسي، وقد أُنتِج العديد من هذه الأسلحة عبر ترخيص مباشر من الشركات العسكرية الكبرى الروسية، في حين أُنتِج الباقي عن طريق سرقة تصميماته أو شرائه بشكل شرعي، ثم تفكيكه وإعادة تركيبه.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وحتى حين أبدت الشركات الروسية قلقا أكبر حيال التجسس عليها وسرقة التكنولوجيا خاصتها تزايد التعاون العسكري بين البلدين من جديد، ولم يكن ذلك تعبيرا عن العلاقات المتنامية بين بكين وموسكو فحسب، بل عن حقيقة أن التكنولوجيا العسكرية ظلت واحدة من المجالات القليلة التي استمرت فيها تنافسية المنتج الروسي عالميا، والذي ظل أكثر تفوُّقا من نظيره الصيني حتى ذلك الوقت.

غير أن موسكو وجدت نفسها في مُعضلة، وهي أن ترجيح كفة تعزيز المبيعات على المدى القصير يعني خسارة (تفوُّقها التكنولوجي)* على المدى البعيد، ولكنها لم تجد مفرا من ترجيح كفة المدى القصير طيلة العقود الثلاثة الماضية، وواصلت مبيعاتها من السلاح للصين، حتى وهي تعلم أن شريكها في أقصى الشرق سيصنع نُسخته الخاصة من تلك المنتجات الروسية، ومن ثَم سيقضي مع الوقت على أسس التفوق الروسي في سوق السلاح، وقد فاقمت الحرب الأوكرانية من تلك المعضلة نتيجة ما جرَّته الحرب على الاقتصاد الروسي الذي بات أكثر اعتمادا على الصين، ومن ثَم تضاءل نفوذ الروس في تلك العلاقة.

بكين والهندسة العكسية

تطلعت بكين إلى تطوير الطائرة “جيه-11 دي”، وقررت أن الطريقة المثلى لذلك هي شراء المقاتلة الروسية المتطورة “سوخوي-35” (غيتي)

ما من مسرح يظهر فيه ذلك بجلاء أكثر من معارض الدفاع الجوي والطيران، لقد كانت الطائرة “جيه-11″، التي أُعلِن عنها في عام 1996، أول طائرة صينية الصنع تشمل مكونات روسية رئيسة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت رسميا باعتبارها نسخة مُرخَّصة من نظيرتها الروسية المقاتلة “سوخوي-27″، وقد رحب الكرملين بتلك الصفقة في ظل حاجته الماسة إلى المال، ولكن بعد فترة قصيرة ألغت الصين الاتفاقية، وبدأت تنتج الطائرة المقاتلة بشكل منفرد، حتى فاق إنتاجها 400 طائرة من هذا الطراز، وهو قرار كبَّد روسيا خسارة بلغت حوالي 30 مليون دولار للطائرة الواحدة.

ويبدو أن هذا المسلك بات أمرا معتادا بالنسبة للصين، فقد تطلعت بكين إلى تطوير الطائرة “جيه-11 دي”، وقررت أن الطريقة المثلى لذلك هي شراء المقاتلة الروسية المتطورة “سوخوي-35″، واكتملت الصفقة بالفعل في عام 2018، وتضمَّنت عددا من قِطع الغيار الإضافية لمُحرِّكات المراوح التوربينية، وبعد ذلك قامت الصين بالهندسة العكسية للطائرة ومُحرِّكاتها، لتملأ بذلك فجوة واسعة في صناعاتها العسكرية المحلية، وقد تكرَّرت عملية مشابهة وبوتيرة أسرع مع الطائرة “سوخوي-33” المحمولة على حاملات الطائرات، حيث حصلت الصين على نسخة مبكرة منها، وبدأت إنتاج نُسختها المحلية غير المُرخَّصة “جيه-15”.

مقاتلات J-15 من حاملة الطائرات الصينية لياونينغ تجري مناورة في منطقة بحر الصين الجنوبي. (رويترز)

على المنوال نفسه اشترت الصين أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الروسية، وكيَّفتها وصنعت منها نُسخا محلية، وفيما يبدو أن ذلك تم بقبول الروس، فبعد 6 سنوات من حصولها على نظام الدفاع الصاروخي “إس-300″، بات لدى الصين نُسختها الخاصة، وهي نظام الدفاع الصاروخي “إتش كيو-9” الذي لا يزال واحدا من أهم نُظُم الدفاع الصاروخي الأرض-جو لدى جيش التحرير الشعبي الصيني، وكذلك صنعت بكين نظام الدفاع الصاروخي “إتش كيو-10” بمحاكاة نظيره الروسي “بوك-إم 1-2″، وهذه المرة بالتعاون الكامل مع شركة “ألماز-أنتَي” الروسية، واستمر هذا النهج حتى مع أكثر النُّظم العسكرية تطوُّرا، إذ اشترت الصين نظام الدفاع الصاروخي الروسي الأحدث “إس-400″، وبدأت تجريبه في عام 2018، ثم يبدو أنها الآن في طور استخدامه لتطوير نُظُم الدفاع الصاروخي الخاصة بها.

وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين الروس يبدون غير راضين عن استحواذ الصين تدريجيا على المزيد من نصيب روسيا في سوق السلاح العالمي، فإنهم لم يفصحوا عن ذلك سوى بشكل مكتوم، إن روسيا تدرك محدودية الخيارات أمامها في هذا الصدد، ومن ثَم تحاول أن تحقق الاستفادة القصوى من هذا الوضع، فتروِّج لمنح رُخَص تصنيع أسلحتها واتفاقات نقل التكنولوجيا خاصتها، وبينما تُمثِّل تلك الرخص والاتفاقات تجاوبا بشكل ما مع “سرقات” الصين للتكنولوجيا في وقت سابق، فإنها تعكس أيضا العُزلة الدولية المتزايدة لروسيا.

موسكو في مدار بكين.. أكثر وأكثر

في فبراير/شباط الماضي سلَّمت الشركة الصينية “إيه ڤي آي سي الدولية (AVIC International)” أجزاء ضرورية من الطائرة “سوخوي-35” قيمتها 1.2 مليون دولار. (رويترز)

في عام 2019 ألمح مندوب من شركة “روسْتِك” الروسية إلى أن الضغط الأميركي يضر بتجارة السلاح بين بلاده وتركيا، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقبل 4 أشهر من غزو أوكرانيا، أعلنت “روسْتِك” أنها لن تُجري أي معاملات مالية بالدولار، وستُركِّز على تعزيز روابطها التجارية مع الشرق الأقصى، وفي العام الماضي أعلنت الشركة فك الارتباط الكامل مع الدول الغربية في مجال الصناعات الجوية والفضائية، في حين أبدت الشركات الصينية حماسا كبيرا لملء ذلك الفراغ.

لقد أدت تلك الاعتمادية الروسية على آسيا إلى عزوف الشركات الروسية عن فتح أسواق جديدة، والتركيز على العتاد العسكري الروسي نفسه، وبالتزامن أدت عاصفة العقوبات الاقتصادية الغربية الشاملة والروابط التجارية والسياسية المنقطعة مع الغرب إلى تقويض خيارات روسيا في إمداد قواتها، خصوصا أن الحرب تستهلك العديد من أنواع العتاد لدى الجيش الروسي بشكل أكثر مما توقعه الروس سابقا، من جهتها فإن عادة الصين بشراء السلاح الروسي بالأساس من أجل حيازة التكنولوجيا الكامنة فيه لتصنيع نسخة منه تعني أن بكين الآن تملك احتياطيا ضخما من العتاد العسكري الذي يمكن أن تزوِّد به روسيا ومجهودها الحربي.

في فبراير/شباط الماضي سلَّمت الشركة الصينية “إيه ڤي آي سي الدولية (AVIC International)” أجزاء ضرورية من الطائرة “سوخوي-35” قيمتها 1.2 مليون دولار، وهي طائرة روسية في الأصل، كما أشرنا، شغَّلتها الصين في عام 2018، وبدأت دراستها في الوقت نفسه لتطوير طائراتها المقاتلة المحلية، وقد استخدم جيش التحرير الشعبي الصيني شركة وسيطة لتسليم موسكو أجزاء حساسة ومهمة لعمل نظام الدفاع الصاروخي “إس-400″، وشملت الشحنات الصينية معدات للمِلاحة من أجل المروحيات الروسية “ميل-71” التي تمتلك الصين الآن مركزا لصيانتها، أما في مجالات التكنولوجيا الجديدة فقد زوَّدت الصين الروس بطائرات مُسيَّرة وقِطع غيار خاصة بها بقيمة 12 مليون دولار منذ بدء الحرب الأوكرانية.

استخدم جيش التحرير الشعبي الصيني شركة وسيطة لتسليم موسكو أجزاء حساسة ومهمة لعمل نظام الدفاع الصاروخي “إس-400”. (الأناضول)

بينما تتواصل معارك الحرب يُرجَّح أن تحتاج روسيا إلى المزيد من إمكانات الصناعات العسكرية الصينية لإبقاء آلة الحرب الروسية على قدميها، وتواجه موسكو عقوبات شديدة من المجتمع الدولي، ومن ثَم فإن صناعاتها العسكرية مجبرة على جلب الأجزاء العسكرية الحساسة لها عبر ترتيبات دقيقة تشمل طرفا ثالثا، بل إنها بدأت بالفعل في استخراج الشرائح الإلكترونية من الغسالات والثلاجات، وقد عبَّرت صحيفة “كومِّرسانت” الروسية مؤخرا عن ذلك التحول في الطموحات الروسية بقولها: “إن السيادة التكنولوجية بالنسبة للاتحاد الروسي وبالنسبة للصين تعني شيئين مختلفين، فالصين وضعت صوب أعينها مهمة إنتاج كل المنتجات المهمة وحيازة كل التقنيات المهمة بالنظر لكونها قوة عالمية، أما روسيا فإنها تسعى لحيازة الحد الأدنى من التقنيات التي تتيح لها منافسة الغرب، وألا تتأخر عن الركب في تنمية (تلك الصناعات)”.

في ظل هذه الظروف تميل الكفة لصالح الصين في العلاقات الروسية-الصينية أكثر من ذي قبل، وقد كانت في طريقها للميل بالفعل (قبل الحرب)*. إن الخسارة المتسارعة لواحدة من المزايا التنافسية القليلة لدى روسيا في مواجهة الصين وفي السوق العالمية هي أحد الأثمان العديدة لحرب بوتين، فبينما تنهار الصناعات العسكرية الروسية في مجال الصادرات تتحرك الشركات الصينية إلى الواجهة، ليس في تزويد جيش التحرير الشعبي الصيني فحسب، بل في تزويد الأسواق الأجنبية التي حصلت سابقا على جزء من احتياجاتها من روسيا، بل حتى في تزويد الجيش الروسي نفسه، يبدو إذن أن العلاقة العسكرية الجديدة بين الصين وروسيا هي علاقة مفيدة للطرفين، لكن بكين ستجني منها أكثر بكثير مما ستجنيه موسكو.

_______________________________________

(*): ملاحظات المترجم

ترجمة: نور خيري

هذا التقرير مترجم عن Defense One ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post سعر الدولار اليوم الثلاثاء 25-4-2023 أمام الجنيه المصرى
Next post لها 50 حفيدا.. معمرة جزائرية لم تنل السنين من ذاكرتها ولم تجد الأمراض طريقا لجسدها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading