برلين– كل مرة يعلن فيها مكتب الإحصاء الألماني الاتحادي أرقام النمو الجديدة، يبدأ المراقبون -سواء المحسوبين على فريق المتفائلين بقوة أكبر اقتصاد في أوروبا أو المتشائمين من قدرة هذا الاقتصاد على تجاوز الأزمات- بمناقشة أسباب قوة أو ضعف بيانات النمو وتأثيرها على أداء اقتصادات ألمانيا ومنطقة اليورو والعالم.
وعندما أعلن المكتب المختص مؤخرا انكماش الاقتصاد الألماني الربع الأول من العام الحالي بنسبة 0.3% بعد انكماش بنسبة 0.5% الربع الذي سبقه، بدأ فريق المتفائلين بتقديم أسباب مقنعة أبرزها قوة التشغيل ورزانة أسواق العمل وتدني معدلات الأجور، قائلين إن هذا “الانكماش التقني” ليس أكثر من حالة عابرة سيتم تجاوزها الأشهر المقبلة، بينما بدأ المتشائمون بالتحذير من انحدار الاقتصاد الأكبر في أوروبا والثالث في العالم.
وعزا المكتب هذا الانكماش في ربعين متتاليين لأسباب من بينها تبعات الحرب في أوكرانيا التي أربكت الشركات ودفعتها إلى خفض استثماراتها والمواطنين الذين ترددوا في الاستهلاك، الأمر الذي ساهم في خفض الطلب، يضاف إلى ذلك تردد الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات أيضا في الاستثمار ناهيك عن ارتفاع نسبة التضخم التي وصلت صيف العام الماضي إلى قرابة 10%، ولكنها عادت الأشهر الماضية إلى الانخفاض.
ورغم هذا الانكماش، يسوق الواثقون في أداء اقتصاد ألمانيا وبعض الجهات الاقتصادية -مثل البنك المركزي الألماني- أسبابا وجيهة لعودة الاقتصاد إلى تحقيق النمو. ففي آخر تقرير للمركزي الألماني، قال البنك إن الاقتصاد سيعود الربع الثاني من العام إلى التعافي.
ويعزو البنك هذا التفاؤل لأسباب أبرزها تحسن أوضاع سلاسل التوريد التي أضرت أثناء الوباء بقطاعي التصنيع والتصدير، وانخفاض أسعار الطاقة مقارنة مع الأشهر الأولى من الحرب الأوكرانية وبدء العقوبات، ولكن أيضا رفع الأجور الذي سيحفز على الاستهلاك، إضافة إلى بدء تعافي قطاع التصدير العمود الفقري للاقتصاد الألماني.
ضبابية الاقتصاد
من ناحية أخرى، تبدو أسباب المشككين في جاهزية اقتصاد ألمانيا لتخطي الأزمة الحالية أيضا مقنعة، فالتقرير الأخير الذي قدمه البنك الحكومي “بنك الائتمان لإعادة التنمية” (KfW) توقع انكماش الاقتصاد في مجمل عام 2023 بنسبة 0.3%. علما بأن توقعات البنك ذاته تشير إلى أن اقتصاد ألمانيا سيعود عام 2024 إلى النمو بنسبة 1%.
وبعيدا عن تجاذبات الفريقين، يعد اللجوء إلى واحد من المعاهد الاقتصادية الألمانية السبعة -التي تعتبر مرجعية محايدة- أمرا ضروريا من أجل إلقاء نظرة موضوعية على الأرقام الجديدة، وأحدها هو “معهد كيل للاقتصاد العالمي” (IfW) الذي يترأس قسم بحوث النمو فيه البروفيسور شتيفات كوتس.
ولم يُخف كوتس في حديث للجزيرة نت “استغرابه” من أرقام الانكماش الأخيرة، قائلا إن الخبراء في المعهد لم يتوقعوا نموا عهدوه الأعوام الماضية، ولكن على الأقل أن تبقى أرقام النمو عند حد الصفر.
وأشار إلى العقبات التي تقف في وجه نمو طموح لاقتصاد ألمانيا قائلا “سفينة الاقتصاد الألماني باتت تبحر في مياه ضحلة” وقال إن أبرز العقبات التي تقف في وجه النمو “ارتفاع أسعار الطاقة والوضع الأمني وشيخوخة المجتمع والنقص الكبير في العمالة المؤهلة وتقادم النظام التعليمي وهجرة العقول، وكلها أسباب تهدد بانتهاء النموذج الاقتصادي الألماني الذي ساد العقود الماضية”.
رجل أوروبا المريض
هذا الوضع يعيد إلى الأذهان عنوانا لمجلة “ذي إيكونوميست” (The Economist) التي اتهمت عام 1999 الاقتصاد الألماني بأنه “رجل أوروبا المريض”.
ويقول يان هِلدبراند نائب رئيس تحرير “هاندسبلات” (Handelsblatt) الصحيفة الاقتصادية الأولى بألمانيا إن ذلك العنوان “لا ينطبق بدقة على الوضع الراهن للاقتصاد الأكبر في أوروبا” ولكنه يضيف -في حديث للجزيرة نت- أن أرقام النمو الأخيرة تعد “إنذارا” لألمانيا التي تتذيل لائحة دول الاتحاد الأوروبي بخصوص معدلات النمو، وفقا لتقرير أصدرته المفوضية الأوروبية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حذر من أن الانكماش سيلحق الضرر ليس فقط بألمانيا وإنما بجميع الاقتصادات الأوروبية.
من جانبه، علق رئيس قسم بحوث النمو في “معهد كيل للاقتصاد العالمي” على العنوان بالقول إن الوصف “يناسب” حال الاقتصاد الألماني، محملا الحكومات السابقة -العقدين الماضيين- مسؤولية إهمال البلاد والفشل في معالجة الأسباب التي تم ذكرها لا سيما جعل ألمانيا جذابة للعمالة المؤهلة التي أصبحت المنافسة عليها كبيرة بالأسواق العالمية.
واعتبر هِلدبراند أن النموذج الاقتصادي الألماني الذي ساد العقود الماضية “انتهى” مشيرا إلى انقضاء الأوقات التي كانت تعتمد فيها ألمانيا على “الطاقة الروسية الرخيصة وعلى انفتاح الأسواق الصينية والأميركية وغيرها على بضائع مصنوعة في ألمانيا”.
وأضاف أن الضغوط على الاقتصاد الألماني ستكون كبيرة على المدى المتوسط، نظرا لاعتماده بشكل أساسي على الصناعة التي تحتاج لكميات كبيرة من الطاقة ولأسواق مفتوحة، في وقت تتجه فيه دول تعتبر أسواقا مهمة للبضائع الألمانية إلى الحمائية الاقتصادية.
وعن تأثير هذا الانكماش على المواطنين، يقول هِلدبراند إن المواطنين يشعرون بأن ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الطاقة بات أمرا يؤثر بشكل مباشر على جيوبهم ويفقدهم الرخاء الذي اعتادوا عليه العقود الماضية، لا سيما أن إجراءات المساعدات التي قدمتها الحكومة للمواطنين إما انتهت أو قاربت على الانتهاء.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.