انتفاع الميت بعمل غيره ومشكلة السلفية المُحْدثة (1) | آراء


صادفني أخيرًا مقطع فيديو لأحد المنتسبين إلى السلفية يُنكر فيه على من يقرأ القرآن ثم يُهدي ثوابه إلى الميت المسلم، وقد جزم صاحب الفيديو بأن الميت لا ينتفع بذلك، وتحدى أن يأتي أحد بدليل على ذلك!

ورغم أن الخلاف -في هذه المسألة- بأدلته يرجع إلى قرون سابقة، فإن هذا النوع من الإنكار الجذريّ مع نفي أن يكون هناك دليل، ومع تبديع كل من يفعل ذلك إنما هو حديث النشأة في رأيي؛ فقد ظهر مع التوجهات السلفية والوهابية في العصر الحديث التي تزعمت فكرة محاربة البدع وادعت التمسك بالنصوص وعمل الصدر الأول، وفصلت نفسها عن التقليد الإسلامي والعمل المتوارث لصالح سلف مُتَخَيَل؛ رغم أن مذهب أحمد بن حنبل نفسه أن قراءة القرآن وإهداءها للميت تطوعا بغير أجرة يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج. وقد أطال ابن قيم الجوزية (751هـ) النفَس في بيان ذلك وأدلته، ولكن السلفيين المُحدَثين -ومنهم رشيد رضا- يتعاملون مع تراث أحمد وابن تيمية وابن القيم بانتقائية شديدة.

بدأ هذا اللون من الإنكار الحاد لمسألة قراءة القرآن وإهدائها إلى الميت مع رشيد رضا الذي كانت تربطه صلة جيدة بأئمة الدعوة الوهابية، وأسهم في نشر كتبها في مصر في بدايات القرن العشرين، وكان له أثرٌ ملموس على بعض الجماعات السلفية الناشئة في مصر حينها، واستمر هذا المنزع التبديعي والحديّ لدى شيوخ الوهابية المعاصرين من أمثال عبد العزيز بن باز (1999) وعبد المحسن العباد وغيرهما. في حين اضطربت فتاوى “الشبكة الإسلامية” في المسألة؛ ففي بعضها تابعت ابن قيم الجوزية الذي جرى على مذهبه الحنبلي في جواز القراءة ووصول ثوابها إلى الميت (فتوى بتاريخ الرابع من رمضان 1423هـ، وفتوى بتاريخ الأول من محرم 1427هـ)، وفي بعضها الآخر تابعت ابن باز وطريقته الوهابية في التفقه (فتوى بتاريخ 11 رجب 1429هـ).

وأرى أن هذه المسألة نموذجية للدرس والتحليل؛ لأنها تشخص اختلاف مناهج التفقه من جهة، وتشرح جانبًا من تاريخ القطيعة مع التقليد الفقهي التعددي من جهة أخرى، وهو ما سعت إليه السلفية المُحدثة التي تعاونت مع الوهابية في ضرب التقليد الفقهي ومنهجيته وأشاعت نوعًا من التوترات الفكرية والاجتماعية التي افتقرت إلى عنصرين مركزيين:

  • المنهجية العلمية المتماسكة التي توفرت للتقليد الفقهي.
  • التسامح مع التعددية الدينية من حيث إنها تريد أن تعيد قولبة الممارسة الدينية الاجتماعية وفق قناعاتها المُحدثة.

ولبيان هذا سأخصص 3 مقالات:

في المقال الأول: أبين تاريخ الاستشكال الحديث لمسألة انتفاع الميت بعمل غيره من خلال إهداء الثواب إليه، وكيف أن هذا الاستشكال يختزن منهجية السلفية المحدثة التي من أبرز ملامحها أنها تَضيق بالخلاف الفقهي والتأويلات المحتملة للنص؛ لنصرة فهم وحيد على خلاف التقليد الفقهي الذي كان تعدديًّا باستمرار.

في المقال الثاني: أقدم نقدًا لمنهجية رشيد رضا في تناول المسألة، وكيف أن ميوله وقناعاته جعلته انتقائيًّا حيث وظف تقنيات خطابية؛ طلبًا للغلبة في النقاش، ولم يلتزم بما تفرضه العقلية الفقهية وتقاليدها العلمية، وإنما كان يستعمل منها ما يخدم فكرته فقط، ويتهم -مع ذلك- خصومه باتباع الهوى في سياق حملته على من يسميهم المقلدين!

أما المقال الثالث: فسأبين فيه منهجية فقهاء المذاهب في تناول المسألة ومداركهم فيها؛ لتتضح الفوارق بين المسلك السلفي المُحدث في التفقه (سواءٌ في التعامل مع النصوص أو العمل المتوارث)، وبين منهجية التقليد الفقهي التي تتسم بالصرامة والاتساق، وتوارد عليها أجيال من العلماء ممن أحكموا الأصول والفروع وتعقلوا مدارك الأحكام واستوعبوا اختلاف مدارك النظر؛ فكلما زاد العلم اتسع النظر وزادت الاحتمالات.

تاريخ الاستشكال

أما في ما يخص تاريخ استشكال انتفاع الميت بعمل غيره، فقد جرت استعادة النقاش في عشرينيات القرن العشرين على شكل استدراك أورده رشيد رضا على تفسير آية: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وأفاض في التشنيع على القراءة عن الميت وعلى القائلين بوصول الثواب إليه واتهمهم بشتى التهم.

ثم في التاسع من ذي الحجة 1347هـ، أرسل إليه محمد أحمد عبد السلام الحوامدي (مؤسس الجمعية السلفية التي رفعت شعار “إحياء السنة المحمدية” بمنطقة الحوامدية) يسأله جملة أسئلة، ومن بينها: هل قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات مشروعة أم لا؟ والملفت أن الحوامدي الشاب قد بالغ جدًّا -في خطابه- إلى رشيد رضا، فوصفه بأنه “مفتي الأنام، وشيخ مشايخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، ومحيي السنة وآثار السلف، ومميت البدعة وآراء الخلف”؛ حتى إن رضا اعتذر عن نشر مثل هذه الأوصاف في حق نفسه. ثم نشر الحوامدي -بعد ذلك- رسالة تحت عنوان “السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات”، أثنى -في مقدمتها- على رشيد رضا، ثم قرظ رشيد رضا -بدوره- هذه الرسالة في مجلة المنار في شعبان 1353هـ، وقال من ضمن ما قال “وأما الجمعية السلفية بالحوامدية؛ فهي تمتاز باشتغال رئيسها بكتب الحديث والدعوة إلى الاهتداء بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كتب السنة”، ثم آل الأمر إلى أن خصصت “الشبكة الإسلامية” ترجمة للحوامدي ضمن فتاويها، ونقلت فيها كلام رشيد رضا فيه ووصفته بالشيخ العلّامة.

تحيل هذه المعطيات إلى محاولة بناء تقليد جديد في مواجهة التقليد الفقهي المذهبي؛ يزعم البناء المباشر على الدليل وسلطة السلف. طُبع كتاب الحوامدي المشار إليه طبعات عدة خلال القرن العشرين بدءًا من مطلع الثلاثينيات، وعلق على بعض طبعاته محمد حامد الفقي (ت: 1959) مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية ومحمد خليل هراس (1975) العضو البارز فيها أيضًا.

اتسم النقاش الحديث للمسألة بسمتين مركزيتين: أولاهما أنه اتخذ موقفًا جذريًّا وحادًّا لا يتسامح مع الاختلاف أو التعددية، والثانية الافتقار إلى الاتساق المذهبي

خلص الحوامدي -في رسالته- إلى القول: “عُلم -قطعًا- أن القراءة للأموات وعليهم غير جائزة ولا تنفعهم، فصارت القراءة المتعارفة الآن بدعة … ولم يُنقل ذلك عن أحد من الصحابة … وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص، ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء. فأما الدعاء والصدقة فذاك مُجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما … وما يُروى أن الإمام أحمد قال: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين و(قل هو الله أحد) واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم، لم يصح أصلا. وكذا رواية: من مر على المقابر وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أُعطي من الأجر عدد الأموات، باطل وليس من كلام النبوة ولا من كلام أصحاب النبي قطعا. وما يُروى عن ابن عمرو أنه أوصى أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، فهذا لم يُذكر في كتاب من الكتب المعتمدة، بل هو في كتب الواهيات ككتاب تذكرة القرطبي … وحديث: من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم، لا أصل له في كتب السنة …؛ فكل هذه الأخبار والآثار شاذة منكرة مخالفة للأصول العامة المقررة في القرآن المجيد، ومخالفة أيضا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم”.

من الواضح أن الحوامدي يتجاهل هنا مذهب أحمد بن حنبل ومصادره، ويتعامل مع النصوص مباشرة تعامل الأئمة المجتهدين فيستدل ويصحح ويضعف، وفي واقع الأمر قلّد الحوامديّ رشيد رضا؛ فقد سبق للحوامدي أن قال في خاتمة استفتائه لرشيد حول هذه المسألة: “أدركني يا سيدي بالفتوى؛ لعلي أُدرك إثباتها في مؤلَّفي في موضعها، أو أُلحقها به قبل إتمام طبعه”. وقد أجابه رشيد على مسألته، وأوضح له أنه توسع فيها في تفسير المنار. وهذا يدل على أن رشيد رضا كان سبّاقًا إلى مناقشة المسألة في العصر الحديث وإدراجها ضمن البدع الحادثة، وقد شدد فيها النكير على الناس، وانتصر للقول إن المرء لا ينتفع إلا بعمل نفسه وقطع بذلك وراح يتكلف لإثبات ذلك بكل سبيل؛ للنيل من خصومه.

وإذا دققنا في كلام الحوامدي السابق، سنجد أن أحكامه جزافية في الغالب؛ فقد نقل الإمام المرُّوذي (275هـ) صاحب الإمام أحمد بن حنبل عن أحمد قوله: “إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا فيها فاتحة الكتاب والمعوذتين، و(قل هو الله أحد)، واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم”. وقد توارد أئمة المذهب الحنبلي على حكاية هذا القول عن أحمد والبناء عليه، منهم القاضي أبو يعلى الحنبلي (458هـ)، والموفق بن قدامة المقدسي (620هـ) وابن مفلح (763هـ) والمِرْداوي (885هـ) وغيرهم. وقد اعتبروا ذلك نصًّا في المذهب.

ومن الملفت أنه أُضيف هنا إلى الطبعة السعودية من كتاب الإنصاف للمِرداوي (وقد طُبعت برعاية الملك سعود) تعليقٌ نصه: “هل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه؟ وهل يجزم أحد أن الله قد قبل عمله وأثابه عليه ثوابًا يقدر أن يتصرف فيه بالبيع والهبة؟” رغم أن الصيغة التي ذكرها القاضي أبو يعلى لا تحتمل مثل ذلك التعليق المقحم، وهي: “اللهم إن كنت أَثبتَني على هذا فقد جعلتُ ثوابه أو ما تشاءُ منه لفلان”، فلم يقطع أحد بحصول ذلك.

أما حديث ابن عمر (وليس ابن عمرو كما جاء في رسالة الحوامدي)، وأنه أوصى إذا دُفن أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، فقد رُوي موقوفًا على ابن عمر وأسنده غيرُ واحد، واحتج به الإمام أحمد نفسه ورجع إليه بعد أن كان ينكر القراءة عند القبر، ولهذا اعتدّت كتب المذهب الحنبلي بهذا النص، وتوارد أئمة المذهب على القول: “صح عن ابن عمر …”، ولهذا كان الصحيح في المذهب أن القراءة عند القبر لا تُكره، وقد رُوي ذلك مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إسناده ضعيف.

سمات النقاش

اتسم النقاش الحديث للمسألة محل البحث بسمتين مركزيتين:

  • السمة الأولى: أنه اتخذ موقفًا جذريًّا وحادًّا؛ فهو لم يعزل نفسه -فقط- عن التقليد الفقهي المذهبي (خاصة الحنبليّ)، ولكنه لم يتسامح -أيضًا- مع أي اختلاف أو تعددية في المسألة، لدرجة أنه خرج على نصوصه المرجعية المعتادة (أعني نصوص ابن تيمية وابن القيم). ومن ثم رأى هذا الموقف السلفي أن قراءة القرآن عن الميت وهبته الثواب والقراءة عند القبر بدعة على سبيل القطع لا الاجتهاد، وهذا منظور اختطه رشيد رضا وتابعه عليه الآخرون. تأمل -مثلا- قول الحوامدي: “عُلم -قطعًا- أن القراءة للأموات وعليهم غير جائزة ولا تنفعهم”، وتأمل قول ابن باز: “أما ما يُروى عن ابن عمر أو غيره من الصحابة وغيرهم في العبادات فلا يُعول عليه”؛ رغم أن ابن عمر كان من المشدّدين في العبادات، وقال ابن باز أيضًا: “وما ذكره ابن القيم عن بعض العلماء لا يُعتمد عليه”، و”القراءة عند القبور بدعة ولا يجوز فعلها”. هكذا جزموا -قطعًا- في مسائل تأويلية غير عابئين لا بفعل صحابي ولا بمذهب أحمد نفسه؛ لصالح فهم واحد وحيد للنصوص هو ما وافق قناعاتهم؛ ولهذا بدأ رشيد رضا بتخطئة ابن القيم واتهمه بالغفلة؛ لمجرد أنه لم يفهم الأدلة على طريقته، وتابعه على ذلك ابن باز وغيره.

لنتأمل -في المقابل- موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المسألة؛ فقد اتخذ موقفًا متحفظًا فقال: “لم يكن من عادات السلف إذا صلوا تطوعًا أو صاموا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرؤوا القرآن: أن يُهدوا ثواب ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا لخصوصهم”، ثم مال -بناء على هذه المقدمة- إلى أنه: “لا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف؛ فإنه أفضل وأكمل”. ولكنه -مع ذلك- التزم بالتقليد الفقهي في بيانه العلمي والنزيه للمذاهب الفقهية مع إيراد أدلة كل مذهب ومداركه وتعليلاته، بل إنه فنّد -ببراعة- الاستدلالات الفاسدة التي استدل بها من نفى وصول الثواب إلى الميت، ولم يبدّع الفعل ولم ينف مشروعية القراءة للميت وهبته الثواب، وإنما اكتفى ببيان أنه خلاف الأفضل والأكمل، ومع ذلك لم يجد بُدًّا من الإقرار بأن الأحاديث النبوية تدل على أن العبادات البدنية تُفعل عن الميت كالعبادات المالية من دون فرق.

  • أما السمة الثانية لهذا النقاش: فهي أنه افتقر إلى الاتساق المنهجي، سواءٌ في تأويل النصوص أو في المشي على ظواهرها وعموماتها، أو في اتباع التعليلات العقلية التي تحفظ النظام والتماسك وتربط فروع المسألة الواحدة وتطرد المعاني في نظائرها، ولهذا وقع رشيد رضا ومن تابعه في التناقض والاجتزاء كما سنوضح في المقال اللاحق، كما أن توسعهم في الاستدلال بعدم عمل الصدر الأول على عدم مشروعية فعل ما قادهم إلى الجمود على الظواهر وأوقعهم في استدلالات وتأويلات هشة كما سنرى، منها: الاستدلال بآية (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) على أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقط؛ رغم أن الآية تتحدث عن استحقاق الجزاء (لا مطلق الانتفاع)، ومنها تأويل الأحاديث الصحيحة في الصوم والحج عن الغير بأن المراد بها فعل الولد فقط، وسنوضح لاحقًا فساد هذا الفهم، أو تأويلها أيضًا بأن المراد بها النيابة في الفرائض فقط (كالصوم والحج) دون قراءة القرآن؛ مع أن ما جاز في الفرائض فمن باب أولى أن يجوز في القربات، أو نحو ذلك مما يخالف بدهيات فقهية.

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post الثقافة الثالثة المزمنة عبر الإنترنت تعيد تعريف أمريكا الآسيوية
Next post تصنيف الاسكواش.. نوران جوهر تحافظ على الصدارة للأسبوع الـ57 على التوالى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading