دخلت تركيا الأسابيع الثلاثة الأخيرة المتبقية لانتخابات 14 مايو/ أيار 2023، ورغم أن الاهتمام يتركز بشكل أكبر على الانتخابات الرئاسية كونها ستُحدد المصير السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان، فإن الانتخابات التشريعية لا تقل أهمية عن الرئاسية.
فمن جانب، سيجد أي رئيس يُنتخب صعوبة في ممارسة السلطة في حال لم يحظ التحالف الذي يدعمه بالغالبية البرلمانية لتمرير القوانين والتشريعات وتجنب الصراع مع المؤسسة التشريعية. ومن جانب آخر، قد يكون لنتائج الانتخابات البرلمانية تأثير على الانتخابات الرئاسية في حال ذهبت الأخيرة إلى جولة إعادة. فالتحالف، الذي سيحصل على غالبية أو أكثرية برلمانية، سيكون مرشحه الرئاسي، الذي يعبر لجولة الإعادة، أكثر قدرة على استقطاب الأصوات المترددة والحاسمة وإقناعها بأنه قادر على إحداث استقرار سياسي وتجنب صراع بين الرئاسة والبرلمان من شأنه أن يؤدي إلى شلل سياسي.
قد لا تُحسم الانتخابات الرئاسية في 14 مايو/أيار، لكن نتائج السباق البرلماني سترسم على الفور نصف الصورة عن مستقبل تركيا بعد هذه الانتخابات.
مقعد الرئاسة أولا
يلاحظ أيضا أن جانبا أساسيا من دوافع أردوغان ومنافسه الرئيسي كمال كليجدار أوغلو في تشكيل قوائم المرشحين البرلمانيين ارتكز على حسابات الانتخابات الرئاسية. فمن جهته، أدخل أردوغان مرشحي أحزاب الرفاه المحافظ والدعوة الحرة الكردي واليسار الديمقراطي في قوائم حزب العدالة والتنمية من أجل جذب أصوات الأحزاب الثلاثة لصالحه في الانتخابات الرئاسية. وبالمثل فعل كليجدار أوغلو الذي أدرج مرشحي 4 أحزاب صغيرة هي السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم والديمقراطي على قوائم حزب الشعب الجمهوري للانتخابات البرلمانية لكسب أصواتهم في السباق الرئاسي.
ما يُثير الاهتمام أن كلا من أردوغان وكليجدار أوغلو سعيا للضغط على أكبر عدد من الأزرار دفعة واحدة لضمان الفوز في الرئاسة من الجولة الأولى أو على الأقل في جولة إعادة محتملة، أردوغان على سبيل المثال، يواصل الإنفاق بسخاء على حزم التحفيز الاقتصادي ورفع معدلات الأجور ووعد بإعادة إعمار المناطق التي دمرها زلزال السادس من فبراير/شباط في غضون عام، وسعى لاستقطاب أكبر عدد من الأحزاب الصغيرة إلى التحالف الحاكم.
في المقابل، كان كليجدار أوغلو أكثر اندفاعا في لعبة الضغط على الأزرار. فقد دخل في تعاون انتخابي مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من دون أن يُهدد شراكته مع حزب الجيد القومي. كما أدرج مرشحين من 4 أحزاب صغيرة بينها أحزاب محافظة على قوائم حزب الشعب الجمهوري للانتخابات البرلمانية رغم أن الشخصيات التي تتزعم هذه الأحزاب كانت في الماضي على عداء شديد مع كليجدار أوغلو.
مع أن التناقض داخل تحالف الأمة المعارض يبرز بشكل أكبر مقارنة بتحالف الجمهور الحاكم، الذي تبدو مكوناته أكثر انسجاما من الناحية الأيديولوجية، إلا أن كليجدار أوغلو أظهر حنكة في الجمع بين المتناقضات عندما أدرك أن الطريق الوعر إلى السلطة لا يُمكن سلوكه من دون تبني هوية جديدة لحزب الشعب الجمهوري تُعطي الأولوية للخطاب التصالحي مع المكونات الأخرى على حساب الأيديولوجية التقليدية المنفرة للأكراد والمحافظين.
وبغض النظر عما إذا كان هذا التحول تكتيكيا وظرفيا فرضته الحاجة الانتخابية، فإنه ساعد كليجدار أوغلو في دفع معظم أحزاب المعارضة إلى الوقوف خلفه والاتفاق على هدف رئيسي واحد وهو إنهاء حكم أردوغان. لا يزال من الصعب الجزم بما إذا كان هذا التكتيك مفيدا لكليجدار أوغلو والتحالف السداسي عموما في ضوء أن ارتداداته السلبية المحتملة لم تتضح بشكل كامل بعد ولا يُمكن معرفتها سوى بعد فرز صناديق الاقتراع.
دوافع أردوغان وكليجدار أوغلو في تشكيل قوائم المرشحين البرلمانيين ارتكزت على حسابات الانتخابات الرئاسية، وسعى الرجلان إلى الضغط على أكبر عدد من الأزرار لحسمها لصالحه
مع ذلك، يُمكن ملاحظة بعض الارتدادات السلبية، منها الارتفاع اللافت في نسب التأييد المحتملة لزعيم حزب البلد المعارض مُحرم إينجه من 1% إلى ما يقرب من 7%، وفق استطلاعات الرأي الأخيرة، علامة أولية على تحول السلوك الانتخابي لجزء من الكتلة التصويتية لحزب الجيد القومي التي تُعارض التعاون الانتخابي بين كليجدار أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي. كما أن هذه الاستطلاعات تُرجح أن يتمكن إينجه من استقطاب الأصوات الممتعضة من كليجدار أوغلو داخل حزب الشعب الجمهوري نتيجة تحالفه مع حزب الشعوب والأحزاب المحافظة الصغيرة.
ولكن، لا يُمكن التعامل مع التحركات التي طرأت على نسب التصويت بين الأحزاب على أنها ثابتة. فمع اقتراب الانتخابات، من المرجح أن تحسم الأصوات المتحركة موقفها بشكل أوضح. لكن في حال استمرت معدلات التصويت المحتملة لمحرم إينجه فوق 6%، فإن ذلك سيُعزز احتمالية ذهاب الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية.
نقاط ضعف كليجدار أوغلو
تكمن نقاط ضعف كليجدار أوغلو أولا في أنه، ورغم قدرته في حشد أكبر قدر من أحزاب المعارضة، لم يستطع تشكيل إستراتيجية سياسية واضحة لتحالف الأمة تتجاوز الحسابات الانتخابية، وثانيا في عجزه عن زيادة ثقة الأصوات المترددة بقدرته على إحداث استقرار سياسي في البلاد في حال وصلت المعارضة إلى السلطة، وثالثا الصعوبة التي يواجهها في إخراج المنافسة الرئاسية عن سياق “مع أو ضد أردوغان”، ورابعا فشله في إقناع مُحرم إينجه بالانسحاب من السباق الرئاسي. من الواضح أن هذه النقاط الأربع تعمل جميعها على تقليص فرصه في حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، كما تقوض قدرته على الفوز في جولة إعادة محتملة.
قد لا تكون الهندسة السياسية الحالية بشأن جولة الإعادة مناسبة لكل من أردوغان وكليجدار أوغلو في حال لم يتمكن تحالف أي منهما في الحصول على أكثرية برلمانية، والحد من معضلة تسرب الأصوات من تحالفيهما لصالح المرشحين الرئاسيين الآخرين مُحرم إينجه وسنان أوغان.
علاوة على المخاطر التي يُشكلها إينجه على كليجدار أوغلو، فإن سنان أوغان قد يستطيع بهويته القومية الحصول على بعض الأصوات من حزب الحركة القومية حليف أردوغان، وعلى أصوات قومية من كل من حزب الجيد وحزب الشعب الجمهوري. لكن التأثير السلبي الأكبر في هذه المعادلة سيكون على كليجدار أوغلو أكثر من أردوغان، لأن الأصوات القومية التي ذهبت لمحرم إينجه بعد أزمة الطاولة السداسية، ذهبت كرد فعل على التعاون بين كليجدار أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي والأحزاب المحافظة، ومن غير المرجح أن تعود جميعها له في جولة إعادة محتملة بينه وبين أردوغان، لأن السبب الرئيسي لتغير سلوكها الانتخابي سيبقى قائما.
الافتراض السائد بأن كليجدار أوغلو سيتمكن من حسم جولة ثانية قد لا يكون دقيقا لأن الاستقرار السياسي سيكون العامل الأساسي في تحديد الأصوات المترددة وسيخدم أردوغان أكثر
تعقيدات جولة الإعادة
من الواضح أن التعقيدات الانتخابية في جولة الإعادة المحتملة للانتخابات الرئاسية ستكون أكبر مما هي عليه في جولة أولى، وتتداخل بين نتائج الانتخابات البرلمانية من جهة وبين السلوك الانتخابي للأصوات القومية التي تسربت من التحالف السداسي المعارض (يُمكن وصفه بالتحالف السباعي بحكم الأمر الواقع بعد الدعم الضمني لحزب الشعوب الديمقراطي لكليجدار أوغلو).
انطلاقا من ذلك، فإن الافتراض السائد بأن كليجدار أوغلو سيتمكن من حسم جولة ثانية محتملة قد لا يكون دقيقا تماما، لأن الاستقرار السياسي سيكون العامل الأساسي في تحديد الأصوات المترددة، وسيخدم أردوغان أكثر من كليجدار أوغلو، لأنه أولا أثبت قدرته على مدى عقدين في إحداث هذا الاستقرار، وثانيا لأن الخلافات التي عصفت في جبهة المعارضة بعد أزمة تحديد مرشحها الرئاسي والصيغة غير الواضحة التي تُقدمها لتكوين ائتلاف حكومي لن تكون جذابة للأصوات المترددة التي تتخوف من عودة تركيا إلى زمن الحكومات الائتلافية غير المستقرة.
ورغم أن كليجدار أوغلو يستفيد جزئيا من كون المنافسة الرئاسية استفتاء على أردوغان شخصيا، فإنه ليس الخيار الوحيد لدى الناخبيين الذي يُريدون تركيا من دون أردوغان. في غضون ذلك، يواجه كليجدار أوغلو مأزقا داخل حزبه على وجه الخصوص، فهناك قوميون غاضبون من تعاون كليجدار أوغلو مع حزب الشعب الديمقراطي الكردي، وهناك أتاتوركيون غاضبون من التحالف مع أحزاب المستقبل والديمقراطية والتقدم والسعادة.
لمن يصوت الشباب؟
سيكون تصويت الشباب أيضا مؤثرا في هذه الانتخابات، فهناك أكثر من 6 ملايين شاب سينتخبون للمرة الأولى. كان الافتراض السائد أن التصويت الشبابي لن يخدم أردوغان، لأن هذا الجيل الجديد يُريد أن يرى رئيسا مختلفا. مع ذلك، فإن كليجدار أوغلو لا يُعد عنصرا جذابا للشباب لأنه جزء من السياسة التركية وإن كان في جبهة المعارضة لعقدين.
انطلاقا من ذلك، فإن إينجه وسنان أوغان قد يحظيان بقدر أكبر من الحصة التصويتية للشباب. مثل هذا التوقع سيبقى يخدم أردوغان أكثر من كليجدار أوغلو، لأنه كلما تقلصت قدرة الأخير على الفوز بأكبر عدد من الأصوات المعارضة لأردوغان كلما تمكن أردوغان من تعزيز فرص إعادة انتخابه. مع ذلك، فإن الخيارات التي سيتخذها محرم إينجه في السباق الرئاسي لا تزال تلعب دورا مهما في تحديد كفة من سيفوز برئاسة تركيا سواء في جولة أولى أو جولة إعادة، لأن إينجه لم يُغلق الباب تماما على إمكانية التفاوض مع كليجدار أوغلو، وذلك يترك هامشا للأخير لإيجاد تسوية في اللحظات الأخيرة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.