مقدمة الترجمة
لا تزال الولايات المتحدة في نظر الكثيرين قلعة الديمقراطية الأكثر حصانة في العالم. لكن نظرة متفحصة على ممارسات التلاعب بالانتخابات على مستوى الولايات -رغم أنها تتم غالبا وفق أطر قانونية- تجد أن لها تداعيات كبيرة على تآكل الديمقراطية الأميركية. يناقش “برايَن كلاس”، الأستاذ المساعد في السياسات العالمية في كلية لندن الجامعية، هذه المشكلة التي طالما هدَّدت الديمقراطية الأميركية، وذلك في مقاله المنشور بمجلة “الأتلانتيك” الأميركية.
نص الترجمة
في عام 1932، أشاد “لويس برانديز”، قاضي المحكمة العليا الأميركية، بدور تجريب السياسات والآليات الانتخابية الجديدة داخل الولايات، واصفا إياها بـ”مُختبرات الديمقراطية” التي قد تُلهِم إجراء إصلاحات على المستوى الوطني. أما اليوم، فقد انقلبت هذه الديناميكية، إذ أصبحت بعض الولايات الحمراء (تلك التي يُهيمن عليها الجمهوريون)* مختبرات للنزعات الاستبدادية، حيث تجري فيها تجارب مستوحاة من التقاليد والأفكار السلطوية، وبطرق قد تطول الحكومة الفيدرالية الأميركية في النهاية. إن الولايات الأميركية مُنقسمة على نفسها هذه الأيام، ليس على أساس حزبي فحسب، بل وعلى مدى التزامها بمبادئ الديمقراطية الليبرالية أيضا.
تتطلب الديمقراطية ما هو أكثر من إجراء الانتخابات. ولكن عند الحد الأدنى، هناك سِمَتان لا بد من توافرهما في أي ديمقراطية؛ إذ يتعيَّن على الديمقراطية الحقيقية السماح للناخبين بتحديد مَن يَحكُم من خلال الانتخابات، كما يتعيَّن عليها احترام نتائج تلك الانتخابات. بيد أن الكثير من الجمهوريين على مستوى الولايات يُقوِّضون هذين المبدأيْن اليوم.
الحرب الحمراء
لا يُعَدُّ تردِّي الديمقراطية مشكلة جديدة في الولايات الحمراء. لقد أجرى “جاكوب جرامباخ”، أستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن ومؤلف كتاب “مختبرات مناهضة للديمقراطية”، تقديرا لجودة الديمقراطية في الولايات الأميركية بين عامي 2000-2018، واستخدم 51 مؤشرا تتضمن التلاعب بتقسيم الدوائر الانتخابية (Gerrymandering)، وما إذا كان السياسيون متفاعلين مع الرأي العام، وطول مُدة انتظار الناخبين للإدلاء بأصواتهم (حيث تُعَدُّ إطالة المُدة عن عَمد بمنزلة إثناء لهم عن التصويت)*، وتوفُّر عمليات تدقيق بعد الانتخابات للتحقق من دقة عدِّ الأصوات. وقد وجد جرامباخ أن الولايات التي سيطر عليها الجمهوريون طيلة العقدين الماضيين أصبحت أقل ديمقراطية على نحو كبير، فيما لم تُظهِر الولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون أو الولايات المُنقسِمة بين الحزبين مثل هذا الانخفاض.
منذ نشر جرامباخ النتائج التي توصَّل إليها؛ تزايدت هجمات الجمهوريين على آليات الديمقراطية. وعندما يفوز الديمقراطيون في صناديق الاقتراع، يحاول الجمهوريون أحيانا معادلة سلطتهم. ففي ولاية أريزونا، تقدَّم نائب جمهوري مُنتخَب بمُقترح لمنح المجلس التشريعي للولاية سلطة إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، وفي ولاية ميسيسيبِّي، دشَّن الجمهوريون البِيض في مجلس نواب الولاية نظاما قضائيا موازيا لخدمة الأحياء ذات الأغلبية البيضاء بمدينة جاكسون، في انتزاع لسلطة القضاة المُنتخبين الذين اختارهم أغلبية السكان لهذه المناصب، وهُم السكان الذين تبلغ نسبة السُّود منهم في جاكسون 80%.
ومؤخرا، طرد مجلس النواب في ولاية تينيسي نائبَيْن ديمقراطيَّيْن أسودَيْن قادا تظاهرات مناهضة لحمل السلاح داخل مجلس الولاية. وكانت التظاهرات التي قاداها تخريبية بالفعل، لكنَّ الردَّ بطردهما كان غير متناسب إلى حدٍّ كبير، وحفَّزته غالبا دوافع عِرقية؛ فقد صوَّت الجمهوريون لطرد النائبَيْن الشابَيْن الأسودَيْن، بينما لم يُصوِّت لاستبعاد المرأة البيضاء الأكبر سِنًّا التي اشتركت معهما. بيد أن المحاولة لم تفلح في الأخير، إذ جرت إعادة تعيينهما سريعا، لكن ذلك لا يُغيّر من حقيقة أن الجمهوريين حاولوا إلغاء رغبة المصوتين بسبب مخالفة ثانوية.
تُعَدُّ الجهود الفاشلة في تينيسي مجرد مثال على محاولات الجمهوريين إبطال الانتخابات عن طريق التخلص من الديمقراطيين الذين يصلون إلى السلطة. ففي ولاية جورجيا، وافق مُشرِّعون جمهوريون مؤخرا على مشروع قانون يمنحهم سلطة إقالة أي مُدَّعٍ عام مُنتخب. وفي فلوريدا، تباهى حاكم الولاية الجمهوري (والمرشح الرئاسي المحتمل)* “رون دي سانتيس” بإقالته مدعيا عاما ديمقراطيا على خلفية “حجج واهية”. وقد خلص قاضٍ نظر في عملية الإقالة إلى أن هدف دي سانتيس كان “جمع معلومات لإسقاط المدعي العام، وليس الوقوف على الطريقة التي يدير بها منصبه بالفعل”.
عالم التلاعب الانتخابي
تأتي هذه التكتيكات على قمة جبل من الممارسات غير الديمقراطية المستمرة منذ أمد طويل. إن “التلاعب بتقسيم الدوائر الانتخابية” شكل قانوني من أشكال التلاعب بالانتخابات الذي يحدث على مستوى الولايات، ويتم فيه ترسيم الدوائر الانتخابية بشكل يضمن للسياسيين اختيار ناخبيهم وليس العكس كما يُفترض في أي ديمقراطية، أي أن يختار الناخبون سياسيِّيهم. والديمقراطيون مذنبون لا محالة بترسيمهم حدود الدوائر لصالحهم في بعض الولايات (إلينوي على سبيل المثال)، بيد أن الجمهوريين مُذنبون في هذا الصدد على نحو أكبر بكثير. وبحسب مُستطلِع الانتخابات المُستقِل “ديف واسرمان”، تم ترسيم 152 دائرة من دوائر الكونغرس لمساعدة الجمهوريين في الانتخابات النصفية العام الماضي، مقارنة بـ49 دائرة جرى ترسيمها لمساعدة الديمقراطيين.
حينما يشتد التلاعب بإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، تصبح معظم نتائج الانتخابات مُحدَّدة سلفا، ما يقتل المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الديمقراطية وهو مبدأ التنافسية. لقد فاز الجمهوريون منذ خمس سنوات مضت في ولاية ويسكونسِن بنسبة 44.7% فقط من الأصوات في سباق للسيطرة على المجلس التشريعي للولاية، لكنهم فازوا بنسبة 64.6% من المقاعد حينها. وفي ولاية كارولاينا الشمالية، قام الجمهوريون بترسيم منحرف للدوائر في انتخابات الكونغرس عام 2018، ما أدى إلى فوز الحزب الجمهوري بعشر دوائر في الولاية من أصل 13 دائرة، رُغم أن مرشحي الحزب حصدوا 50.3% فقط من مُجمل أصوات الناخبين. وفي جورجيا، الولاية التي صوتت لصالح جو بايدن ولديها عضوان ديمقراطيان في مجلس الشيوخ، تدل حدود الترسيم الجديدة للدوائر فيها على أنه يمكن اعتبار 57% من مقاعد مجلس الشيوخ و52% من مقاعد مجلس النواب مقاعد “جمهورية آمنة”. في حال لم يحدث تغيير سياسي كبير، سيستمر الجمهوريون في السيطرة بسهولة على المجالس التشريعية في ولايات تنافسية تميل نحو الديمقراطيين. عندما يقع مثل هذا التلاعب الصارخ بالانتخابات في بلدان أخرى، تستنكره وزارة الخارجية الأميركية، أما في داخل الولايات المتحدة، فالأمر مجرد تكتيك قانوني يُعَدُّ جزءا من النظام الأميركي.
حتى حيثما تكون الانتخابات تنافسية، يحاول المشرعون الجمهوريون تصعيب عملية التصويت. إن التفاوت في الوصول إلى صناديق الاقتراع أمر موجود منذ زمن طويل في الولايات الحمراء والزرقاء على حدٍّ سواء. وقد وجد الباحثون الذين حلَّلوا بيانات مجهولة الهوية لمواقع الهواتف المحمولة أن سكان الأحياء ذات الأغلبية السوداء ينتظرون في المتوسِّط “وقتا أطول للتصويت بنسبة 29%، كما تبيَّن أنهم مُعرَّضون بنسبة 74% للبقاء لمدة تفوق 30 دقيقة في مكان الاقتراع”. مثل هذه “الضرائب على الوقت” كما تُسمَّى لها تأثيرها غير المباشر، لأن الناخبين الذين يواجهون طوابير طويلة تقِل احتمالية إدلائهم بأصواتهم في الانتخابات اللاحقة. وعموما تُعَدُّ أوقات الانتظار أسوأ في الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون، وكانت الولايتان صاحبتا السجل الأسوأ في هذا الصدد في انتخابات عام 2020 هما كارولاينا الجنوبية وجورجيا.
يُردِّد الجمهوريون الآن بلا وعي أكاذيب ترامب عن تزوير الانتخابات لتكون ذريعة لجعل التصويت أصعب بطرق مُصمَّمة لاستبعاد المصوتين الفقراء وغير البِيض. وقد أظهرت الدراسات، واحدة تلو الأخرى، أن ادعاءات تزوير الانتخابات مشكلة متناهية الصغر، ومع ذلك تقدَّم الجمهوريون بـ51 مشروع قانون على مستوى الولايات من شأنها وضع عقبات أمام إمكانية الوصول إلى صندوق الاقتراع.
طرق مختلفة
إلى جانب مهاجمة الانتخابات، أو محاولة التدخل في نتائجها، يختبر الجمهوريون طرقا مختلفة للتسلُّط على الديمقراطية. ففي فلوريدا، يستخدم دي سانتيس سلطاته هذه الأيام لمعاقبة شركة خاصة تجرأت على انتقاده. وفي ولاية أيداهو، حظر المشرعون الجمهوريون مساعدة القاصرات في عبور حدود الولاية لإجراء عمليات الإجهاض، وذلك باستخدام سلطة الحكومة لفرض قيود على حرية الحركة.
وفي ولاية تِكساس، قال الحاكم الجمهوري “غريغ آبوت” إنه “يتطلَّع” للعفو عن رجل مُدان بقتل متظاهر في مسيرات “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter)، وكان القاتل قد أرسل رسالة نصية سابقا إلى صديق له يشكو فيها من الاحتجاجات قائلا إنه “ربما يضطر لقتل بضعة أشخاص وهو في طريقه للعمل”. تثير القلق أيضا تركيبة نجوم الجمهوريين الصاعدين، ففي ولاية أوريغون، وصل عدد من أعضاء جماعة اليمين المتطرف العنيفة “براود بويز” إلى مناصب قيادية في هيئات محلية تابعة للحزب الجمهوري.
لا تعد الديمقراطية مفهوما حديا مطلقا، إما أن تتحقَّق بالكامل أولا يتحقق منها شيء على الإطلاق، إذ يمكن قياسها وفقا لطيف مُمتَد. لكن في حال أصبح الناخبون يواجهون “ضرائب على الوقت” للإدلاء بأصواتهم في انتخابات غير تنافسية جرى التلاعب بها وترسيخ حكم الأقلية من خلالها، ثم يشهدون إقالة المسؤولين الذين انتخبوهم بعد ذلك أو انتزاع سلطاتهم من قِبَل هيئة جديدة أسسها الجمهوريون؛ فإن هذه بالتأكيد ليست ديمقراطية. إذا جمعت الولايات بين هذه التكتيكات، فإنها لن تستحق وصف ديمقراطية.
على الصعيد السياسي، رجَّح الكثيرون أن المخاوف بشأن الديمقراطية الأميركية مُقلقة بالفعل. لقد تعرَّضت محاولات سابقة للوقوف على تراجع الديمقراطية الأميركية في الولايات لانتقادات بوصفها مُبالغا فيها، حيث نتج عن أحد تلك الجهود في تقدير جودة انتخابات الولايات تسجيل عدد من الولايات الأميركية نقاطا أقل من رواندا، الدولة الاستبدادية التي أُعيد فيها انتخاب الدكتاتور “بول كاغامي” عام 2017 بعد حصوله على 98.8% من الأصوات. يبدو التقدير الأخير عبثيا بطبيعة الحال، لأن كارولاينا الشمالية بالتأكيد ليست كوريا الشمالية. بيد أن الواقع هو أن الملايين ممن يعيشون في الولايات الحمراء اليوم أصبحوا فئران تجارب للجمهوريين الذين يُجرِّبون فيهم ممارسات سلطوية.
________________________________
ترجمة: هدير عبد العظيم
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.