“الوضع هنا أسهل مما يجب على تنشئة أطفال قادرين على تحمّل المسؤولية، فالحال في الولايات المتحدة أقل شقاء وتحديا، والمتطلّبات المعيشية متوافرة حتى لأصحاب الدخول المتدنية، لكنّ التحدي الرئيسي الذي نواجهه هنا بوصفنا مسلمين هو تحدي الهوية والتربية”
وردت هذه العبارة على لسان طبيب يُدعى “ثائر ضيف الله”، يعيش مع أسرته في الولايات المتحدة منذ 24 عاما. ولربما تحوي الجملة الفائتة، والعديد من العبارات المماثلة التي طرقت مسامعنا في أثناء المقابلات التي أجريناها في “ميدان” مع عدد من المسلمين القاطنين في أميركا، وجهةَ نظرٍ مغايرة تماما عن تلك الصورة “المثالية” الشائعة حول العيش في أميركا. وسهولة العيش في الولايات المتحدة هنا لا تعني أن السماء تُمطر ذهبا وفضّة، بل تشير بحسب وصف “ثائر” إلى أن التحديات الدنيوية للحصول على مستوى معيشيّ لحياة كريمة أمر ميسور. كما أن منطق الحياة القيميّ ليس معبّئا بتكليفات اجتماعية ودينية ضمن الثقافة السائدة، بل هي حياة اقتصادية بامتياز، يهيمن عليها غالبا الاتجاه الفرداني والاستهلاكي.
لا يخلو الأمر من مفارقة ربما تدفعك للتأمل لساعات مستدعيا مشاهد تلك الوجوه التي هتفت يوما بنبرة مبحوحة: “خلونا نعيش” للمطالبة بأبسط حقوقهم، ومُتذكرا كم الأحلام المبتورة، والفرص التعليمية المجهضة، والأوقات التي تحتضر على عقارب الساعة المثقلة بالهموم والمعاملات الحكومية؛ لتموت في مختبرات أوطاننا. فاعتبار “سهولة العيش” مشكلة رئيسية أمرٌ قد لا تسمعه في قُطر عربيّ، سوى مناطق محدودة، بالإضافة لاستثناء أبناء الباشوات وأبنائهم الذين “لا يحتكرون خيرات البلد، حاشاهم!”، بل هي أمنية وغاية لأبناء غالب بلداننا المأزومة، وربما الخرِبة. لكنّ سهولة العيش تتشابك معها تحديات أخرى تجعل فاتورة البقاء بالنسبة لعدد من العائلات المسلمة في الولايات المتحدة باهظة، رغم كمّ الفرص المتاحة على المستوى التعليمي والاقتصادي والمهني، وأهمها ربما الحصول على الجنسية الأميركية.
هذه الأسباب عينها هي التي تداعب مخيلة جحافل الراغبين في الهجرة، سواء لأميركا أو لدول أوروبا أو حتى لأميركا اللاتينية، التي توفّر فرصا شبيهة وتفتح أبوابا أوسع لحياة كريمة وعادلة، أو على الأقل توفر ملاذا آخر آمنا، وهو مطلب بات عزيزا بالنسبة إلى كثيرين. فغالبية المهاجرين العرب والمسلمين قادمون من دول غير مستقرة، وبعضها غير آمن للعيش لأسباب مختلفة، يشمل ذلك فلسطين وسوريا والعراق والصومال وباكستان وغيرها. لكنّ هذا الوعي القائم على الفرص يصحبه وعي آخر تنامى في السنوات الأخيرة تجاه التحديات الدينية والقيمية والأخلاقية التي تواجه المسلمين هناك، خاصة على الأجيال الناشئة.
تطرح هذه الثنائية تعقيدات تتجاوز “الحلم الأميركي” من جهة، ونوستالجيا “العودة للديار” من جهة أخرى، نحو القضايا الجوهرية المتصلة بخيارات البقاء أو العودة. ورغم أن هذا التقرير يناقش حالة المهاجرين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة حصرا نظرا لوجود الكاتب هناك، فإن بإمكاننا بسهولة أن نتوقع أن التحديات بعينها تواجه المهاجرين المسلمين في كندا وأوروبا وسائر الدول الغربية نظرا للتشابه الكبير في منظومات القيم السائدة في هذه البلدان. وقد اعتمدنا في هذا التقرير على مجموعة من المقابلات الميدانية والمناقشات البينية مع عدد من المسلمين الذين يقطنون في 6 ولايات مختلفة، بعضهم عازم نيته على العودة للشرق الأوسط، وبعضهم عاد بالفعل في المدة الواقعة بين إجراء المقابلة ونشر التقرير، بينما لا يزال آخرون يضعون الإيجابيات والسلبيات في ميزان التقييم، قبيل اتخاذ قرار حاسم يدركون أنه سيغير مجرى حياتهم، بل وحياة أبنائهم وذرياتهم، ربما إلى الأبد.
المسلمون في الولايات المتحدة
قبل الغوص في التحليل، دعونا نلقي نظرة سريعة على تاريخ حضور المسلمين في أميركا، فالمسلمون هم ثالث أكبر ديانة في الولايات المتحدة، بعد المسيحية واليهودية، وقد أظهرت دراسة لمركز “بيو (Pew)” أن عددهم في عام 2017 بلغ ما يناهز 3.5 ملايين مسلم في مختلف الولايات، بنسبة حوالي 1.1% من مجمل سكان بلاد العم سام الذي يُقارب اليوم 332 مليون نسمة، وقد توقع المركز ذاته أن يصبح المسلمون في عام 2040 هم ثاني ديانة من حيث العدد في أميركا.
تختلف هجرة المسلمين إلى الولايات المتحدة عن الهجرات إلى أوروبا في أمر رئيسي، هو أن غالبية المهاجرين يأتون إلى الولايات المتحدة بشكل نظامي وقانوني، وبعد تلبية شروط ومتطلبات معقدة، وليس عبر عمليات تهريب “غير نظامية” كما يحدث عادة مع المهاجرين إلى أوروبا من المناطق المأزومة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والسبب الرئيسي في ذلك هو الجغرافيا البعيدة نسبيا للولايات المتحدة التي تتصل برّا بدولتين فقط هما المكسيك (التي تشكل الشريحة الأكبر من أعداد المهاجرين غير النظاميين) وكندا، كما تفصلها عن الدول الطاردة للمهاجرين محيطات شاسعة لا تصلها قوارب الموت المعتادة. ونتيجة لذلك، فإن غالبية العرب والمسلمين هناك هم من الكفاءات الماهرة، باستثناءات قليلة لا مجال لتناولها في هذا التقرير.
وبحسب الدكتور “طارق أبو غزالة”، طبيب القلب المقيم في واشنطن، الذي تحدث لنا في “ميدان“، فإن هذا المعطى يُشكِّل عنصرا مهما في فهم طبيعة المهاجرين المسلمين إلى الولايات المتحدة الذين ينتمي غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى. ويعني ذلك أن هؤلاء المهاجرين غالبا ما يحصلون على فرص وظيفية واقتصادية يصعب الحصول عليها في بلدانهم، ولكنه يعني من ناحية أخرى أن مهاراتهم تؤهلهم لإيجاد فرص أخرى في مناطق مختلفة من العالم، ما يُسهّل نسبيا اتخاذ قرار العودة.
تحدّي الهوية.. ومعضلة التربية
“لا بد أن يعي الطفل المسلم المولود في أميركا أن هناك بلدانا أخرى ننتمي إليها، وثقافة أخرى نعود لها، وأن هناك تحديات في هذا العالم تتجاوز السهولة التي قد يظنّها الطفل في بلاد الغربة”
غالبا ما يرتبط قرار الهجرة العكسية أو العودة بالنسبة لهذه الفئة بما يمكن أن نطلق عليه “تحدي الهوية”، أما مفهوم “الهوية” فيبدو من الصعب الاتفاق على تعريف محدد له في ظل تعدد الزوايا المرتبطة بهذا المفهوم، لكن لحسن الحظ، وعلى مستوى ممارسة الإنسان اليومية، تبدو مسألة الهوية أقل تعقيدا حتى وإن أخذت أطوارا من البحث والتساؤل عن الذات والآخر والمجتمع والكون. فالفرد منا لا يستدعي -بالعادة- مفاهيمه الفلسفية مع كل سلوك، بل يستند إلى مخزون ثقافيّ يجمع الدين والعادات وما تعلَّمه خلال نشأته، وهذا المخزون هو الذي يحدد هويته إلى حد بعيد. وما إن تُهدَّد هذه الهوية التي يعتنقها الفرد، ويؤمن بها بوصفها مُشكِّلا أساسيا لذاته، سواء كان ذلك التهديد حقيقيا أو متخيلا، فإن الإنسان يجد نفسه مضطرا لاتخاذ موقف دفاعي، وربما هجومي، تجاه مصدر التهديد المحتمل.
وفي المجتمعات المهاجرة، غالبا ما يرتبط سؤال الهوية مع تحدي تربية الأبناء بشكل رئيسي، خاصة إن كانت هناك فوارق دينية وثقافية وقيمية كبيرة بين البلدان الأصلية للمهاجرين وبلدان المهجر. وقد كان هذا التحدي هو العنوان الأساسي للمقابلات الميدانية التي شملت 3 عائلات بدأت في تصفية ممتلكاتها في الولايات المتحدة للعودة لإحدى دول الشرق الأوسط، وغيرهم ممن خضنا معهم النقاش حول الموضوع ذاته، حيث أبدت هذه العائلات قلقا مشتركا إزاء مستقبل الأبناء والتهديد الثقافيّ والاجتماعي الذي يواجهونه، خاصة مع تزايد التركيز على مسألة “الهويات الجنسية” التي لم تعد منحصرة في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، بل وصلت لمدارس الأطفال، وتلبّسها أطفال يجاورون أطفال المسلمين، إلى درجة أنني وأثناء إعدادي التقرير، دخلت اثنين من أكبر محلات بيع التجزئة في الولايات المتحدة التي يقصدها الجميع، وقد أفردَا قِسما للأطفال يدعم ويشجّع ما يتصل بمسائل الهويات الجنسية، والشواهد أكثر من أن تُحصى، وهو أمر يشير إلى اتّساع رقعة المؤثرات، ومن ثم إمكانية التأثُّر.
يتغلب هذا النوع من المخاوف والتحديات اليوم على الإسلاموفوبيا التي طالما نُظر إليها على أنها التهديد الأكثر إلحاحا للحضور المسلم في الغرب عموما، وفي أميركا تحديدا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، رغم استمرار رصد بعض حالات التمييز والعنصرية باختلاف الولايات والمناطق. فخلال السنوات الأخيرة، ومع صعود سياسات الهوية في العالم، والولايات المتحدة بالأخص، بات المسلمون فئة مُضمنة داخل سياسات التنوع (diversity)، وبات التيار السائد يميل إلى قبولهم باعتبارهم مكونا من مكونات النسيج الاجتماعي، حتى إن مجلّة التايمز البريطانية أشارت إلى دخول الشخصيات المسلمة -بصورة إيجابية- إلى عوالم هوليوود السينمائية في الأعوام الأخيرة، وهي التي كانت ممتلئة بعد أحداث 11 سبتمبر بمشاهد المسلم “الإرهابي” أو الثري “الشهواني”. ونتيجة لذلك، لم تعد الإسلاموفوبيا في أميركا، كما في فرنسا مثلا، هي العامل الرئيس في هجرة المسلمين المعاكسة.
لكن وللمفارقة، فإن سياسات الهوية ذاتها التي ضمّت المسلمين في النسيج الاجتماعي وخففت القلق تجاههم، سرعان ما تحولت إلى التحدي الرئيس الذي يواجههم، مع ما نتج عنها من صعود لسياسات الهويات الجنسية، باعتبارها شكلا من أشكال التنوع. يقول “محمد الجيوسي”، وهو تاجر وصاحب محل بيع سيارات في الولايات المتحدة في حديثه لـ”ميدان“، إنه قرّر العودة نهائيا لبلاده فلسطين دون نية للعودة إلى الولايات المتحدة، وأحد الأسباب الرئيسية هي تربية أبنائه، مؤكدا أنه حتى لو تأزمت به الأحوال في فلسطين فسيسعى للهجرة إلى بلد مسلم، يقول: “بتنا نسمع أن القضايا الجنسية طرقت أبواب المدارس، وباتت التحديات التربوية اليوم معقّدة، وفي النهاية بلاد الغربة ليست موطنا نهائيا، ومردّ الإنسان أن يعود لأهله”. يتفق مع “الجيوسي” في هذا الموقف شخص آخر -فضّل عدم ذكر اسمه- ترك الولايات المتحدة عائدا للإقامة في إحدى الدول الخليجية، رغم أن الدخل الذي يتحصّل عليه في البلد الذي انتقل إليه أقل بثُلثين مقارنة بدخله في أميركا، ورغم التحديات والعوائق التي تتصل بتقدّمه المهني والعلمي، لكنها “مسؤولية التربية” تماما كما جاء على لسانه.
بشكل مماثل، قرر “محمود عطا” الهجرة المؤقتة للأردن مع وصول أكبر أبنائه لمشارف المرحلة الإعدادية، وذلك حتى يُتم أبناؤه المرحلة الإعدادية (المتوسّطة) والثانوية هناك، أي مرحلة المراهقة التي يراها مرحلة حرجة في ظل تزايد التحديات التربوية في الولايات المتحدة. ويتشارك مع محمود عدد من العائلات التي قررت أو ما زالت تفكر بالهجرة العكسية المؤقتة، إن صحّت التسمية، خاصة في مرحلة الدراسة الإعدادية والثانوية. يقول “محمود” لميدان: “لا بد أن يعي الطفل المسلم المولود في أميركا أن هناك بلدانا أخرى ننتمي إليها، وثقافة أخرى نعود لها، وأن هناك تحديات في هذا العالم تتجاوز السهولة التي قد يظنّها الطفل في بلاد الغربة، وهذا سبب رئيسي لعودتي الآن رغم أن التفضيلات الاقتصادية ترجّح كفّة البقاء في أميركا”.
لكنّ خطوة كهذه لا تتلاءم مع مهاجرين كثر في الولايات المتحدة، إما تحت وطأة عدم توافر خيارات بديلة، وإما عدم واقعية الفكرة من الأساس، وإما لإيمان عدد من مسلمي الولايات المتحدة بأن ثمة بدائل يمكن القيام بها داخل أميركا نفسها، وأن الأمور لم تصل للسوء الذي يحتّم الهجرة العكسية، فأميركا، كما يرون، توفّر مساحات للحركة، والعمل المجتمعيّ الذي يخدم مجتمعات المسلمين هناك، ويمكّنهم من العمل على قضاياهم في ظل انسداد الأفق السياسي في بلدانهم الأصلية، إذ إن المجتمع المدني والعمل من خلاله يشكلان ركيزة أساسية من ركائز الحياة السياسية والاجتماعية في أميركا بصيغة لا تتوافر في غالبية -إن لم يكن كل- البلدان العربية، الأمر الذي قادنا إلى طرح التساؤل البديهي: هل بلداننا العربية أفضل حقا من الناحية الأخلاقية؟
أي عودة للشرق الأوسط؟
“الفارق في بلداننا أن المجتمعات المساندة، كالعائلة، تسهم في عملية التربية، عكس الحال في بلاد الغرب، حيث الجهد مضاعف على الأبوين”
يظهر هذا السؤال في خلفية كل تفكير أو حديث حول العودة إلى الشرق الأوسط، إذ عن أي شرق أوسط نتحدث؟ يقول الطبيب “طارق أبو غزالة” في حديثه لميدان إن غالبية الأفكار التي تتبنى مشروع العودة للشرق الأوسط تُعَدّ غير واقعية إلى حدّ بعيد، فبلده سوريا مثلا لا يمكن العودة إليه في ظل النظام القائم، وكذلك الحال لغالبية الفلسطينيين. وبمدّ الخط إلى أقصاه، يمكن تطبيق الإشكال ذاته على عدد من الدول العربية والمسلمة. يضيف أبو غزالة: “البلاد الوحيدة التي يمكن أن يجد فيها الفرد مكانا قريبا من الولايات المتحدة من الناحية الاقتصادية والتعليمية لأبنائه هي بعض بلدان الخليج، مع الأخذ بالاعتبار أن الخليج لم يعد كسابق عهده من حيث المزايا الاقتصادية، ولا من حيث البيئات التربوية الحاضنة”. لذلك فهو يشير إلى خيارات محدودة جدا، ولقرارات قد تكون حالمة ولا تقود بالضرورة إلى حلّ جذري للتحديات التي يخوضها الأبناء في بلاد الغرب والمهجر.
يتقاطع ما أشار إليه “أبو غزالة” مع ما رواه أحد العرب الذين تحدثنا معهم في نقاش جانبيّ، وفضّل عدم ذكر اسمه، قائلا إن تجربة تربية الأبناء في الولايات المتحدة كانت إيجابية بالنسبة له، على عكس تجربته القريبة في أحد البلاد العربية، فالتحديات في الولايات المتحدة واضحة وجليَّة، الأمر الذي يشكّل حافزا إضافيا للتمسك بالهوية، حتى في أدق تفاصيلها، كما أن فاعلية المجتمع المسلم والتضامن فيما بينه يخلق حالة من المسؤولية الاجتماعية المشتركة، وذلك بخلاف ما يجري في البلدان العربية والمسلمة على حد وصفه، من اقتصار الأنشطة التطوعية على القضايا الثانوية التي لا تُسهم بشكل مباشر في قضايا المجتمع الأكثر إلحاحا.
تستند هذه النظرة إلى معطيات تحمل قدرا لا بأس به من الوجاهة، ففي ظل العولمة واتساع الرقمنة، يصعب الحديث عن “ثقافة محلية” ذات خصوصية بمعزل عن الثقافات العالمية، خاصة في ظل هيمنة الثقافة الليبرالية الغربية على الفضاء العام، وهي التي باتت ترسم حدود القبول والرفض الثقافي، إذ تبرز في الدول العربية والمسلمة تحديات تتشابه وتتقاطع، وإن كانت لا تتطابق بالضرورة، مع تلك التي يمكن مواجهتها في البلاد الغربية. لكن من جانب آخر، حينما طرحنا السؤال ذاته: “هل حقا بلداننا أفضل من الناحية القيمية والأخلاقية؟”، علّق “الجيوسي” قائلا: “ربما من ناحية التأثير المباشر لا، فالتحديات في هذا الزمن مضاعفة، وسواء هنا أو في بلداننا، لا تزال مسؤولية الوالدين مركزية في التربية”.
يضيف “الجيوسي” أن “الاختلاف الجوهري هو أن الطفل حينما يرتكب مخالفة للدين في بلداننا، فهو يعلم أن ما يقوم به محرّم، بمعنى أنه ليس هناك تطبيع مع الحرام، بخلاف الدول الغربية التي يمكن أن يجد معها الطفل مجتمعا كاملا يرى أن الخطأ هو العادي، بل يجد مجتمعات تدعمه في ذلك باعتباره الصواب، وهذه عوامل تؤثر على المدى البعيد. كما أن الفارق في بلداننا أن المجتمعات المساندة، كالعائلة، على الأقل في حالتي، تسهم في عملية التربية، عكس الحال في بلاد الغرب حيث الجهد مضاعف على الأبوين، لكن على أي حال، فالمسؤولية في هذا الزمن من الناحية التربوية مضاعفة، سواء في بلاد الغرب أو حتى في بلداننا، أما القرار الذي أخذته بالعودة إلى بلدي الأصلي فأشعر على الأقل معه بأنني قمت بما يجب عليّ القيام به تجاه أبنائي وتربيتي لهم”.
في النهاية، ثمة عوامل عدّة ومؤثرات تتشابك في هذه القضية التي تختلف الآراء حول التعامل الأمثل معها، سواء عبر البقاء في الولايات المتحدة أو العودة إلى أحد بلدان الشرق الأوسط، لكنها تتفق على جسامة التحديات رغم وفرة الفرص، وشعور بالمسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل. والمؤكد أن قضايا كهذه تفتح بابا للنظر تجاه التحديات المتزايدة التي يواجهها المسلمون في الولايات المتحدة، وبلاد المهجر عموما، التي تستدعي النظر في مسارات عدّة، سواء على مستوى السياسات ومواقف قادة الجاليات هناك وممثليهم، أو على مستوى الحواضن التربوية والاجتماعية، كما تفتح نوافذَ للنظر لأولئك الساعين للهجرة، وتهيئتهم نفسيا وفكريا تجاه ما سيواجهونه في مسعاهم نحو حياة جديدة.
__________________________________
هوامش:
- بالنسبة للحصول على جنسية أجنبية، بما فيها الأميركية، فهي تعد إحدى أهم الأولويات لكثير من مواطني الشرق الأوسط، فالحصول عليها يحوّل الإنسان فورا من إنسان “غير معترف به” حتى في بلاده، إلى “مواطن” تُفتح له الحدود وتتاح له ولأبنائه من بعده فرص أوسع. وإذا استعرنا توصيفات الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبين”، فهي حالة من انتقال الإنسان من كونه إنسانا مستباحا إلى مواطن له هوية قانونية داخل نظام سياسي وقانوني “عقلاني”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.