المغرب.. التكنولوجيا سبيل المكفوفين للوصول إلى المعرفة | ثقافة


الرباط – تتحرك أصابع الكفيف المغربي المهدي مدواني بانسيابية على لوحة المفاتيح وهو يكتب نصا بلغة برايل على الحاسوب، يتوقف للحظات ليلمس جهاز سطر برايل الإلكتروني ليتأكد من صحة ما كتبه ثم يمضي في عمله بتركيز شديد غير مبال بالجلبة حوله.

بين الفينة والأخرى يتبادل أطراف الحديث مع زوار رواق المنظمة العلوية للمكفوفين بالمعرض الدولي للكتاب بالرباط ليشرح لهم بعض التقنيات والأجهزة الحديثة التي يستعملها في يومياته وتسهل عليه حياته المهنية والشخصية.

تكنولوجيا تفتح الآفاق

المهدي مدواني أستاذ علوم الكمبيوتر وتقنيات برايل في المنظمة العلوية للمكفوفين، مهووس بالتكنولوجيا وينقل تجاربه ومعارفه لطلبته في المنظمة، وأيضا لكل المكفوفين عبر قناته الخاصة على يوتيوب.

لا يتوانى عن اقتناء آخر التقنيات فهي -كما يقول للجزيرة نت- عينه التي يبصر بها العالم ووسيلته للغوص في بحار المعرفة العميقة.

اقتنى المهدي جهاز سطر برايل الإلكتروني بحوالي 40 ألف درهم (حوالي 4 آلاف دولار) وهو بالنسبة له الكنز الذي فتح أمامه حياة جديدة ومكنه من الوصول إلى مصادر المعرفة دون الاعتماد على أشخاص آخرين.

يتحلق عدد من المكفوفين وضعاف البصر حول المهدي في رواق المنظمة العلوية للمكفوفين للتواصل بشأن أحدث الابتكارات والتقنيات الصادرة للمكفوفين/ مصدر الصورة: سناء القويطي
يتحلق عدد من المكفوفين حول المهدي في رواق المنظمة العلوية للمكفوفين للتواصل بشأن أحدث الابتكارات (الجزيرة)

وجهاز “سطر برايل” هو جهاز إلكتروني بمثابة شاشة يتم توصيلها بالحاسوب ويسمح للمستخدمين بتصفح الإنترنت وقراءة رسائل البريد الإلكتروني والتعامل مع الحاسوب مثل المبصرين لكن باستخدام اللمس. ويتوفر في الجهاز دبابيس بلاستيكية تظهر وتختفي مشكلة رموز برايل، تساعد الكفيف على قراءة المعلومات الظاهرة على شاشة الحاسوب.

ساعدت التكنولوجيا المهدي وغيره من المكفوفين المغاربة على التوغل في عوالم كانت إلى وقت قريب محدودة أو مغلقة أمامهم، وفتحت أمامهم آفاقا مهنية وعلمية جديدة تستجيب لإمكاناتهم وطموحاتهم.

من برايل الورقي إلى الإلكتروني

إلى وقت قريب كانت الكتب المطبوعة بطريقة برايل هي الوسيلة الوحيدة للتعلم والقراءة، لكن التطور التكنولوجي جعل حياة المكفوفين أسهل وغيّرها للأفضل، ما سمح باستثمار طاقاتهم وقدراتهم لما فيه فائدة للمجتمع.

يقول المهدي “في الماضي كنا نتواصل بطريقة برايل فقط، لذلك كانت الكتابة والقراءة محصورة بين المكفوفين، حاليا يمكننا الوصول لجميع الكتب والمراجع المكتوبة بأي لغة مثلنا مثل غيرنا، ما مكن من توسيع قائمة المصادر المعرفية التي يمكن للكفيف أن يصل إليها وجعل إمكانية تطوير ذاته وقدراته متاحة على أوسع نطاق”.

يستعمل المهدي هاتفه الذكي وحاسوبه وأجهزة أخرى لتسهيل حياته الشخصية والمهنية والولوج إلى المعرفة/ مصدر الصورة: سناء القويطي
يستعمل المهدي هاتفه الذكي وحاسوبه وأجهزة أخرى لتسهيل حياته الشخصية والمهنية والولوج إلى المعرفة (الجزيرة)

يشير إلى المصحف الموضوع على أحد الرفوف في الرواق، ويوضح أن كتابة القرآن الكريم كاملا بلغة برايل استلزمت طبع 6 مجلدات ضخمة، في حين أنه يحمل نسخة إلكترونية على جهاز السطر برايل الخاص به، ويمكنه قراءتها باللمس على حاسوبه أو اللوح الإلكتروني في أي لحظة وفي أي مكان.

“في هذا الجهاز أحمل مكتبة شاملة تضم 30 ألف كتاب من مختلف المجالات العلمية والفكرية” يقول المهدي، ويضيف “بالنسبة لنا الحصول على آخر التقنيات والابتكارات الخاصة بفئة المكفوفين حاجة ضرورية وملحة وليست مسألة تكميلية، إنها مهمة لحياتنا لذلك نحن نقتحم هذا المجال بشكل فردي لإيجاد منافذ تعيننا على الوصول إلى المعرفة”.

تكلفة مرتفعة

تراجع نظر فضيلة لزرق -الباحثة في السوسيولوجيا ورئيسة جمعية النهضة الجديدة للشباب- خلال طفولتها شيئا فشيئا إلى أن فقدته نهائيا في بداية الشباب، فوجدت نفسها تعيش أزمة نفسية وصعوبات في التأقلم مع الوضع الجديد، غير أن الحاسوب والهاتف الذكي بما يوفرانه من برامج وتقنيات كانا القشة التي أنقذتها من الغرق في بحر الاكتئاب والعزلة.

“كنت أشتغل كثيرا على الحاسوب والهاتف، أقرأ الكتب وأكتب وأدرس وأتواصل مع العالم” تحكي فضيلة للجزيرة نت عن تلك الفترة من حياتها.

المهدي يطبع أحد النصوص المكتوبة على الحاسوب بطريقة برايل/ مصدر الصورة: سناء القويطي
المهدي يطبع أحد النصوص المكتوبة على الحاسوب بطريقة برايل (الجزيرة)

تتذكر أيام الدراسة الجامعية وتقول “كانت كتابة الدروس بطريقة برايل متعبة ومنهكة، أحيانا كانت الدروس تمحى وأضطر لإعادة كتابتها، كما أن المراجع والكتب الدراسية لم تكن متوفرة بلغة برايل فكنت دائما أبحث عن شخص يقرأ لي الكتب”.

وتضيف “التطور التكنولوجي ساعدنا على الولوج إلى كل صنوف المعرفة وفتح أمامنا أبوابا كثيرة وأصبحنا نرى العالم لكن بأصابعنا، يمكننا دخول وسائط التواصل الاجتماعي، والحصول على أي كتاب بأي لغة، والكتابة على الحاسوب عوض الورق، ورؤية ما نواجهه في الطريق، ومشاهدة الأعمال الفنية وغيرها”.

وبالنسبة لنبيل المعروفي -المختص في الأنظمة المعلوماتية ومدير مشاريع النفاذ الرقمي في شركة دولية- فقد ساعدته أيضا التكنولوجيا في الولوج إلى المعلومات منذ فقدانه البصر وهو في أوائل عقده الثاني.

وتمكن بفضل تطبيق “قارئ الصور” من استكمال دراسته في فرنسا والحصول على دبلوم في علوم الكمبيوتر، وهو اليوم يعمل جاهدا لنقل خبرته لنظرائه كي لا يبقوا حبيسي أفق محدود.

يقول للجزيرة نت إنه يمكن بفضل برنامج شاشة القراءة الاستماع للكتب والمعلومات المتوفرة على الإنترنت وقراءتها باللمس، ويضيف “الوصول إلى المعلومات أصبح سهلا جدا وإمكانية تنمية الفكر والعقل متاحة أمام المكفوفين وضعاف البصر، بمجرد التوفر على هاتف ذكي أو حاسوب يمكن تشغيل العديد من البرامج المساعدة والتفاعل مع هذه الأجهزة ما سهل كثيرا عملية التعليم والتكوين الذاتي”.

وفي نظر المعروفي فالمشكلة التي يواجهها المكفوفون تكمن في كون هذه الأجهزة مثل شاشة برايل ونظارات برايل والطابعة وبعض التطبيقات والتقنيات الأخرى مكلفة وأسعارها مرتفعة، غير أنه يشير إلى وجود برامج صوتية مجانية تتيح الوصول إلى المعلومة بأيسر السبل.

ويشير إلى أن الكتب الرقمية أصبحت حاليا توفر صيغا متنوعة تتلاءم مع مختلف أنواع الإعاقات البصرية وتتوفر على معايير النفاذ الرقمي التي تجعلها سهلة التصفح، فيمكن الاستماع للكتاب الرقمي بالصوت أو قراءته عن طريق شاشة برايل كما يمكن للشخص ضعيف البصر تكبير الأحرف لقراءتها بالحجم الذي يناسبه.

المهدي مدواني في رواق المنظمة العلوية للمكفوفين بالمعرض الدولي للكتاب يكتب على الحاسوب/ مصدر الصورة: سناء القويطي
المهدي مدواني في رواق المنظمة العلوية للمكفوفين بالمعرض الدولي للكتاب (الجزيرة)

العمل المدني للتكوين والترويج

يعمل عبد العزيز الزوهري رئيس جمعية “رؤى تكنولوجيا” والخبير في التكنولوجيات الحديثة من خلال جمعيته على الترويج لأي جديد في عالم التكنولوجيا في صفوف المكفوفين.

ويشرف الزوهري بمعية فريق من ضعاف البصر والمكفوفين منذ 2016 على تنظيم فعالية سنوية، هي الأولى من نوعها في المملكة، ويتم خلالها تقديم آخر التقنيات والأجهزة وأحدث الابتكارات والتطبيقات الخاصة بفئة المكفوفين وضعاف البصر.

يقول عبد العزيز الزوهري للجزيرة نت “بفضل التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي أصبح بإمكان المكفوفين وضعاف البصر استكمال دراستهم في مجالات علمية عديدة والعمل في قطاعات كانت محصورة في الماضي على المبصرين”، مشيرا إلى أن هذا الأمر منح ضعاف البصر استقلالية في حياتهم الاجتماعية والعملية.

وبالنسبة للزوهري فإن أي تكنولوجيا تكون دائما في بداية ظهورها مرتفعة التكلفة وهو ما ينطبق حاليا على أسعار سطر برايل الإلكتروني وغيره من الأجهزة، لكنه يتوقع أن تكون في السنوات القليلة المقبلة متاحة للجميع بأسعار مناسبة.

وتساهم الجمعيات المدنية في الترويج للتقنيات الحديثة في أوساط المكفوفين وتعليمهم كيفية التعامل معها واستثمارها مثل المنظمة العلوية للمكفوفين، حيث يتضمن برنامجها التعليمي الموجه للطلبة في كافة المراحل التعليمية تكوينات في الحاسوب، وتوفر لهم آخر ما استجد من أجهزة وبرامج.

ويؤكد المهدي مدواني على ضرورة تدخل المؤسسات الحكومية المشرفة على الأشخاص في وضعية إعاقة لدعم المكفوفين وتوفير التقنيات والأجهزة الإلكترونية لهم بأثمنة مناسبة لتيسير حياتهم ومساعدتهم على تحقيق أكبر قدر من الخصوصية والاستقلالية وتمكينهم من الوصول بأسهل طريقة إلى مختلف مصادر المعرفة.


اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post يزعم العمال السود في مصنع كاليفورنيا تسلا تفشي العنصرية ، ويسعون للحصول على وضع جماعي
Next post “الجنينة جحيم حقيقي”.. أطباء غرب دارفور يناشدون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading