باريس – رغم أنه يحلق في سماء الكتابة والأدب بأكثر من جناح، فإن الشاعر والقاص والروائي والمترجم والناشر والأكاديمي العراقي عبد الهادي سعدون، استطاع أن يثبت جدارته ويتميز في أغلب هذه الأنماط والأجناس الإبداعية.
ولد سعدون في بغداد عام 1968، وانتقل للعيش والإقامة في إسبانيا منذ عام 1993، وهناك حصل على الدكتوراه في الآداب والفلسفة من جامعة مدريد.
سعدون أستاذ اللغة العربية والأدب بجامعة مدريد المركزية (كومبلتنسه)، وباحث وكاتب مختص بالأدب واللغة والثقافة الإسبانية، ويُشرف على منشورات “آلفالفا” الإسبانية المختصة بترجمة ونشر الأدب العربي منذ عام 2006.
أصدر الكثير من الروايات والمجموعات القصصية والشعرية نذكر منها “مذكرات كلب عراقي”، و”انتحالات عائلة” و”عصفور الفم” و”منتزه الحريم” و”كنوز غرناطة” و”تأطير الضحك”، و”اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر” و”ليس سوى ريح” و”الكتابة بالمسمارية”. كما كتب وأخرج فيلما قصيرا بعنوان “مقبرة” عام 2006.
وتُرجمت نصوص سعدون وكتبه إلى الكثير من اللغات العالمية كالإسبانية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والكاتلانية والإيطالية.
وترجم سعدون إلى اللغة الإسبانية عيون الأدب العربي الكلاسيكي والحديث، وأصدر أكثر من 15 كتابا مترجما إلى لغة سرفانتس ضمن سلسلة آداب عربية التي تصدرها دار نشر “بيربوم” الإسبانية، وكان من ضمنها كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي حصل على جائزة الترجمة الوطنية عام 2017.
كما ترجم من الإسبانية إلى العربية أكثر من 30 كتابا لأهم أدباء إسبانيا وأميركا اللاتينية مثل سرفانتس وبورخس وأنطونيو ماتشادو ورامون خمينث ولوركا وغيريهم، ويدير مهرجان شباط الشعري العالمي في مدريد منذ عام 2016.
نال عدة جوائز أدبية مهمة مثل جائزة أدب الطفل العربي 1997، وجائزة أنطونيو ماتشادو العالمية للشعر 2009، وجائزة مدينة سلمانكا الإسبانية للتميز الأدبي 2016، وجائزة الترجمة الأدبية باللغة الإسبانية (مارثيلو ريس) 2018.
صدر لسعدون أخيرا ترجمة كتابين شعريين هما “قصائد للشاعر كارلوس بيتالي” و”الرحلة وقصائد أخرى” للشاعر ألفريدو بيريث النكارت، كما صدر له منذ شهر تقريبا ترجمة كتاب “الكوندي لوكارنو.. كتاب الحكايات والمسامرات والأمثال المفيدة” للكاتب الإسباني دون خوان مانويل المتأثر والعاشق للحضارة العربية الإسلامية وأدبها في الأندلس، ويتقاطع هذا الكتاب الحكمي في أكثر من مفصل مع كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع.
وعن “دار جسور” وضمن الدورة التاسعة من مهرجان أفلام السعودية، نشر أخيرا كتاب “سينما بيدرو ألمودوبار” الذي يعد أول كتاب باللغة العربية عن هذا المخرج الإسباني العبقري العالمي الحاصل على أعلى التكريمات وأرفع الجوائز السينمائية، والذي يتناول فيه سعدون المشروع الفني الفريد لألمودوبار (73 عاما) ومسار حياته المتقلب وأفلامه وشخصياته.
وعن مجموعة هذه الإصدارات والترجمات الأخيرة، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الكاتب عبد الهادي سعدون، والذي تطرق أيضا إلى مساره الإبداعي المتنوع والمتميز، وتأثيراث تجربة المنفى الاختياري في إسبانيا في كتاباته وحياته، كما انفتح الحوار أيضا على قضايا أخرى أدبية وثقافية عربية وإنسانية، تكتشفونها تباعا في الحوار:
-
ما أهم إضافات كتاب “سينما بيدرو ألمودوبار” للمكتبة السينمائية العربية كأول كتاب يكتب مباشرة بالعربية عن سينما هذا المخرج الإسباني العالمي المعروف؟
رغم أنها سينما معروفة في الأوساط العربية فإنه لا يوجد أي كتاب عن خصوصية هذا السينمائي الإسباني الذي لا تمر مناسبة تعريف بالسينما العالمية الجديدة إلا ويكون هو في مقدمة المذكورين. لذا من الإنصاف وبعد هذه الحصيلة من النتاج السينمائي أن يقرأ المتتبع العربي كتابا عنه من مصادره الأساسية وباللغة العربية للمرة الأولى.
-
رغم شهرته العالمية وحصوله على أعلى التكريمات وأكبر الجوائز الدولية، ما زال بيدرو ألمودوبار مخرجا إشكاليا يقسم الجمهور والنقاد، وما زالت أفلامه المنفلتة من كل عقال تلقى ردودا مختلفة لحد اليوم، فما السر في كل هذا الانقسام؟
معضلة سينما ألمودوبار، هي معضلة جيل كامل وحركة فنية غيرت من نصف قرن الذائقة والتصور السينمائي الإسباني الذي عاش في ظل دكتاتورية ورقابة وممنوعات. أي تجديد سيصاحب بالقبول من جهة ورفض من جهة أخرى وهذا له وقعه في كل العالم. أعتقد أن ما عمله بيدرو مع قلة من الأسماء هو إزالة كل ذلك الركام ووضعه أمام العين للمرة الأولى، بطرق قد نتفق معها أو نرفضها، لكنها وسائل مهمة وواعية في تقديمها.
-
ما دور الحركة الثقافية والفنية “لاموبيدا” التي ظهرت في مدريد في نهاية المرحلة الدكتاتورية لحكم الجنرال فرانكو، في تفجر موهبة المخرج بيدرو ألمودوبار وتبلور مشروعه السينمائي المتفرد الثوري السابح عكس التيار؟
“الموبيدا” أو الحركة الثقافية المدريدية لم تُثر العاصمة فقط بل جرت تأثيراتها الفنية والجمالية والتغييرية على كل إسبانيا. أعتقد لو أن الحركة لم تظهر في وقتها، لكان من الصعب فهم التغيير المجتمعي الإسباني خلال فترة الديمقراطية نهاية السبعينيات. بيدرو ألمودوبار فرد من مجاميع مختلفة متشابكة ومتفرقة أثرت على الحدث الثقافي بكل ما جاءت به إسبانيا فيما بعد.
-
ذكرت في الكتاب أن الإسبان يذكرون أن بيدرو ألمودوبار هو ثاني أشهر إسباني من مقاطعة “المانشا” بعد عبقري الرواية الإسبانية المعاصرة ميغيل دي سرفانتس مؤلف رواية “دون كيخوته” ذائعة الصيت، فما أهم الصفات الإبداعية العبقرية التي تشترك فيها هاتان الشخصيتان المؤثرتان والتي جعلت منهما أيقونتين عالميتين؟
ما قصدته أن ألمودوبار من الشهرة بحيث يقارن بالشهير الآخر سرفانتس صاحب رائعة “دون كيخوته”، وكلاهما من المنطقة نفسها، وهي التي أنجبت العديد من المثقفين والفنانين. ما صنعته سينما ألمودوبارعالميا بجعل إسبانيا اسما شهيرا سينمائيا يكاد لا يقل عن أثر “دون كيخوته” في تأسيس آداب العالم الحديثة.
-
ترتكز أغلب أفلام بيدرو ألمودوبار وخاصة فيلميه الناجحين “كل شيء عن أمي” و”ألم ومجد” على النهل من طفولته المعقدة وحياته المضطربة، في لعبة فنية تستحضر الذاكرة وتعزف على أوتار الحنين، فما هي الخلطة الفنية السحرية السينمائية التي استعملها ألمودوبار ليحقق معادلة التوازن الصعبة بين الذاتي والموضوعي؟
بيدرو نفسه يقول في أكثر من مناسبة إن الطفولة والذكريات هي المادة المكررة في كل نتاجه السينمائي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وأضيف أن خصوصية ألمودوبار تكمن قبل كل شيء في محليته اللصيقة بكل تراث إسبانيا والمدن التي عاش فيها، بحيث أننا لو انتزعنا هاتين الصفتين من أفلامه، فلا قيمة لها وستكون مجرد أفلام أخرى في سينما أي بلد. ألمودوبار بكل فنية وسحرية سينمائية استطاع أن يجمع كل هذه الخيوط الخاصة ليصنع سينماه العالمية المتفردة.
النص الأدبي قائم بذاته وبتركيبته ولغته ومناخه وتقنياته الخاصة، وكلها يمكن أن يستفيد منها أي مخرج في فيلم، لكنه لا يمكنه بكل الأحوال مسك روحية النص ونقله بصورة سينمائية
-
هل يمكن أن نضع سينما بيدرو ألمودوبار ضمن أفلام “الموجة الجديدة” التي ظهرت في فرنسا وامتدت لأوروبا وكانت تمثل الرافض الواعي للشكل السينمائي الكلاسيكي والروح الشبابية المتمردة مع رواد مثل فرنسوا تروفو وجان لوك غودار وإريك رومير وكلود شابرول، أم هو يعد تيارا بحد ذاته؟
يمكن وضعها بالطبع ضمن موجة السينما الأوروبية الجديدة التي تسيدت الثمانينيات، بتأثير كبير من السينما الأميركية، لكن بدون الوقوع بمطباتها وتهويلاتها المعروفة. سينما بيدرو يمكن عدها سينما مجددة في أوروبا والبحر المتوسط، وكل تجربة من مخرج آخر هي إضافة ومؤثر كبيران في ذائقته واختياراته. لعله أشار للسينما الشعبية وفنون البوب وكل المؤثرات المعاصرة التي أدخلها بدون أي موانع محددة في تركيبة أفلامه كلها.
-
نجح الكثير من المخرجين العالميين في اقتباس روايات عالمية ناجحة وتحويلها إلى أفلام سينمائية، كما فشلت تجارب أخرى، برأيك ما الآليات والتقنيات الفنية الناجحة في اقتباس النص الأدبي من الرواية إلى السينما؟ وما الإضافات التي يمكن أن تقدمها السينما إلى الأدب والرواية عبر لعبة وغواية الاقتباس؟
النص الأدبي قائم بذاته وبتركيبته ولغته ومناخه وتقنياته الخاصة، وكلها يمكن أن يستفيد منها أي مخرج في فيلم، لكنه لا يمكنه بكل الأحوال مسك روحية النص ونقله بصورة سينمائية. هنا واحد من الطرفين يجب أن يتنازل ويفقد شيئا ما، النص في النهاية من كتابة مؤلفه والفيلم من صنع مخرجه، وهما دوران مختلفان تماما، لهذا نادرا ما نرى توافقا كبيرا بين الاثنين.
ما ينقصنا حقا هو وقت طويل للقراءة والتأمل، وقت لقراءة حقيقية للتواصل والانتقاء والتعرف على العالم من حولنا. ما نقوم به مؤخرا هو “القراءة الإنترنيتية” وهي قراءات سريعة تنتهي بانتهاء ومضتها، مثلها مثل وجبات الأكل السريعة. التعمق بكل شيء مدعاة تفتح ووعي لكل البشر، وبالأخص الكاتب والمثقف.
-
صدر لك أخيرا ترجمة “قصائد للشاعر كارلوس بيتالي” وكذلك “الرحلة وقصائد أخرى” للشاعر ألفريدو بيريث النكارت، ما الآليات الفنية التي تعتمدها لتحقيق التوازن بين الممكن والمستحيل في ترجمة الشعر؟
كل ترجمة تتعكز على الحرفية وليس على الإبداعية، نهايتها الموت وعدم الجدوى. باختصار كل ترجمة إن لم تنهل من كل معرفة إبداعية فلا داعي لها ولا ضرورة لمعاينتها. الروح الحقيقية من كل ترجمة (ليس الشعر فحسب) هي التوازن ما بين لغتها الأصل وروحية اللغة المنقولة إليها. كل ترجمة تعتمد على الرغبة القصوى بالتواجد قبل أي شيء آخر.
-
هل شكلت الترجمة عامل ثراء لتجربتك الكتابية أم هددت خصوصيتها وفرادتها؟
القراءة قبل كل شيء هي مصدر ثرائي وحياتي المعرفية كلها. القراءة قبل كل شيء هي الحياة نفسها، ومن ثم تمارين الكتابة هي من الخيوط المساعدة التي تأتي لتكملها. بعد ذلك يأتي كل شيء: الكتابة بأنواعها، الترجمة، الملتقيات.. وغير ذلك. ما ينقصنا حقا هو وقت طويل للقراءة والتأمل، وقت لقراءة حقيقية للتواصل والانتقاء والتعرف على العالم من حولنا.
ما نقوم به مؤخرا هو “القراءة الإنترنيتية” وهي قراءات سريعة تنتهي بانتهاء ومضتها، مثلها مثل وجبات الأكل السريعة. التعمق بكل شيء مدعاة تفتح ووعي لكل البشر، وبالأخص الكاتب والمثقف.
كل مشاريع الترجمة العربية فردية اعتباطية واختيارية خالصة. وهنا دور كل الجهات ومن كل الأطراف، وإن كان الواقع العربي أكبر لأنه خبزنا الذي نرغب ببيعه.
-
هل ما زلت تتعامل مع الترجمة بروح المغامر الشغوف أم تعتبر نفسك مترجما محترفا بعد هذه التجربة الطويلة؟
لو وقعت بمطب الاحتراف، عليّ أن أجد طريقا آخر. الترجمة عملية منتقاة ورغبة للتواصل مع الآخر عن طريق لغتك وذائقتك، غير ذلك يمكننا اعتبارها نوعا من المران التقني الضروري ولكنه ليس المنشود على الأقل بالنسبة لي. الترجمة مغامرة حقيقية مع النفس ومع النص ومع القارئ.
-
تشرف على منشورات “آفالفا” الإسبانية المختصة بترجمة ونشر الأدب العربي باللغة الإسبانية، وفي نفس الوقت ترجمت العشرات من الكتب الإسبانية إلى اللغة العربية، كيف تنظر إلى حركة الترجمة من وإلى اللغة الإسبانية؟ وهل هناك تقصير وغياب لإستراتيجية عربية موحدة في الترجمة في هذه الحركة؟
هناك تقصير كبير من كل الجهات، بمعنى أنه ليس هناك حركة ترجمة منظمة ومنسق لها، فكل مشاريع الترجمة العربية فردية اعتباطية واختيارية خالصة. وهنا دور كل الجهات ومن كل الأطراف، وإن كان الواقع العربي أكبر لأنه خبزنا الذي نرغب ببيعه. ما زلنا ننظر للترجمة كونها آخر الأمور أهمية ولا ندفع لها الكثير، مقابل الملايين التي تصرف لتبييض الوجوه في كرة القدم وغيرها، نقف مكتوفي الأيدي عندما يتعلق الأمر بالثقافة والترجمة والتواصل مع الآخر. حلها بسيط جدا لكن نحتاج لوعي وإدراك وعيون مفتوحة للنظر بشكل حقيقي.
-
كيف استفدت إبداعيا من المنفى الاختياري الذي عشته على مدى أكثر من 3 عقود في إسبانيا؟ أيهما أشد قسوة بالنسبة للمبدع المنفى المكاني الخارجي أم المنفى الروحي الداخلي؟
المنفى (داخليا أو خارجيا) وقعه كبير ومغير شرس وقاسٍ كجلاد، لذا عليك أن تتدرب بشكل متواصل منذ يومك الأول على إيجاد لعبة تعامل وتعايش مستمرة كي تصبر على تمارينه اليومية. بعد ذلك لا يبقى أمامك سوى أن تجد فيه طريقك المناسب، بعضنا ينام في عتبته الأول والبعض لا يرضى لنفسه سوى البحث عن مخارج أخرى. مهما كانت النتيجة من نجاح أو فشل، لا يمكن أن يكون المنفى عابرا بحياتك، لأنه قد شكلك بطريقة لا يمكن أن تكون أخرى لو لم تجرب الخوض فيها. مع ذلك لا بد من القول إنني بدون سنين المنفى التي وصلت الـ30 سنة تقريبا، لا يمكنني القول إنني سأكون ذلك الـ”عبد الهادي” نفسه لو بقيت في بغداد حتى اليوم.
-
ما الشعر في النهاية بالنسبة إليك وكيف تعرّفه؟
الكفة الموازنة لهشاشة الحياة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.