في فبراير/شباط 2011، وبينما كانت الثورة مشتعلة ضد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لأسباب عديدة في القلب منها سياسته التي وُصفت بأنها “منصاعة” للولايات المتحدة، أرسل “كيم يونغ إل”، رئيس كوريا الشمالية والعدو اللدود لأميركا، رسالة تحية لنظيره المصري بمناسبة عيد رأس السنة القمرية، وقد أظهرت الرسالة التي جاءت في وقت حرج -كان مبارك خلاله يودع سنوات عمره الطويلة في الحكم- عمق العلاقة بين مبارك والنظام الكوري الشمالي.
كانت كوريا الشمالية قد حجبت عن شعبها أخبار الثورة الشعبية ضد الرئيس المصري، وتقول بعض المصادر إنها اكتفت بإعلام كبار مسؤوليها بجزء من أخبار الثورة المصرية في النشرة الأسبوعية الرسمية التي ترسلها إليهم بعيدا عن الأخبار المقدمة للشعب. وذكرت هذه النشرة أن سبب الانتفاضة ضد مبارك يعود لفشل سياسته الاقتصادية وفساد نخبته الحاكمة، كما نوهت بأن سبب بقاء مبارك في السلطة طيلة الثلاثين عاما الماضية كان هو تحالفه مع الولايات المتحدة الأميركية، لكن أميركا خانته في النهاية. تطرح هذه القصة العديد من الأسئلة حول السر الذي جمع بين نظام كوريا الشمالية والرئيس مبارك، وجَعَلها تُظهر الدعم له حتى آخر أيامه في الحكم رغم يقينها بأن سبب بقائه في السلطة من الأساس هو علاقته القوية بالولايات المتحدة، الخصم الأهم للنظام في بيونغ يانغ.
إرث ناصري قديم
تشكَّلت علاقات كوريا الشمالية بجمهورية مصر العربية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وقد كان ذلك منطقيا في ضوء التوجه الاشتراكي الذي كان يسود في البلدين، ودعمت كوريا الشمالية عبد الناصر في حروبه جمعاء، بداية بالعدوان الثلاثي عام 1965، مرورا بحرب اليمن، ووصولا إلى حرب عام 1967. وبعد الهزيمة أمام إسرائيل ثم رحيل عبد الناصر وتولي الرئيس محمد أنور السادات مقاليد الحكم في البلاد، أصدر الأخير قرارا مهما عام 1972 قضى بطرد الخبراء العسكريين الروس الذين يساعدون الجيش المصري في حربه المتوقعة ضد إسرائيل لاستعادة سيناء المحتلة. تضاربت التفسيرات الرامية لترجمة قرار الرئيس المصري الجديد، فقد عدَّ فريق أن حركة السادات هذه لم تكن سوى تمويه لإسرائيل باتخاذ خطوات تؤكد عدم رغبة مصر في دخول أي حرب، فيما رأى فريق آخر أن ما حدث كان نوعا من الضغط على الاتحاد السوفيتي الذي كان مترددا في إرسال صواريخ متطورة إلى مصر.
وجد السادات نفسه بعد طرد الخبراء السوفييت في مشكلة حقيقية تتمثل في احتياج الجيش إلى خبراء أجانب لتشغيل الدفاعات الجوية السوفيتية وطيارات “ميج 21” الروسية بالكفاءة القصوى، وهي التي يتشكَّل منها كل سلاح الجو المصري تقريبا، مع تدريب الجنود المصريين على التعامل مع هذه التجهيزات العسكرية، فقد كان الروس يُشغلون نحو 30% من الطائرات المصرية، ونحو 20% من بطاريات الصواريخ أرض جو. ولم تقف مشكلات القيادة المصرية عند هذا الحد، فقد كان الجيش المصري يعاني أيضا من نقص الطيارين المدربين مقارنة بالجيش الإسرائيلي، وأمام هذه المعضلة توجَّه السادات إلى كوريا الشمالية لمحاولة سد هذا الخَصاص (يحكي رئيس أركان حرب الجيش المصري في تلك الفترة الفريق سعد الدين الشاذلي أنه هو الذي فطن إلى هذا الحل)، وقد وافقت بيونغ يانغ على طلب السادات وأرسلت 1500 خبير عسكري بالإضافة إلى 20 طيارا مقاتلا من ذوي الخبرة السابقة الذين جربوا الحرب ضد القوات الأميركية سابقا.
لم تقتصر مساعدة كوريا الشمالية لمصر على الخبراء فقط، فقد شارك الجيش الكوري الشمالي بطائراته وطياريه في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حيث كانت المهمة الأساسية المنوطة بهذه القوات هي حماية صعيد مصر من أية هجمات إسرائيلية. كما واجه المقاتلون الكوريون المقاتلات الإسرائيلية مباشرة، وذلك بعد يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1973، حسب ما حكته شهادات الجنود الإسرائيليين أنفسهم عن الحرب. أبلى الكوريون بلاء حسنا في استخدام طائرات “ميج 21” أمام “إف 4 فانتوم” التي كان يستخدمها الإسرائيليون رغم تفوق طائرات جيش الاحتلال تقنيا، حيث أظهر جنود بيونغ يانغ مهارة كبيرة في المناورة وفي استغلال كل نقاط قوة “ميج 21”.
أعجَبَ هذا الأداء المتألق للطيارين الكوريين الشماليين الطيار محمد حسني مبارك فيما يبدو، خصوصا أنهم كانوا موجودين في السلاح نفسه الذي كان الرئيس المصري الأسبق يديره أثناء الحرب. وبعيدا عن الأداء العسكري وقدرة الكوريين على سد ثغرة الخبراء السوفييت، فقد وجد السادات وتلميذه في السياسة مبارك شيئا مختلفا في كوريا الشمالية عن الاتحاد السوفيتي الذي كانت تنظر إليه الإدارة المصرية بنوع من الضجر، موجِّهة له اتهامات دائمة بالبخل في الدعم. كان الكوريون في نظر مبارك والسادات يساعدون بأكثر من المطلوب منهم ولا يطلبون الكثير في المقابل، لا يمنون بعد العطاء، فهم جادون وصامتون ولا يرهنون مساعداتهم بالكثير من التنازلات السياسية كما تفعل قوى أخرى. سينقلب السادات ومن بعده مبارك على كل مظاهر الإرث الاشتراكي الذي تركه عبد الناصر، لكنهما مع ذلك سيحتفظان بعلاقات قوية مع بيونغ يانغ، وسيعملان على تطويرها أكثر مما كانت عليه حتى في عهد عبد الناصر رغم توجهاتهما الغربية المعلنة.
ازدهرت العلاقات المصرية الكورية الشمالية في عصر مبارك تحديدا إلى درجة كبيرة، ففي عام 2007، أي بعد عام واحد من أول تجربة نووية تُجريها كوريا الشمالية، وفي ذروة غضب الحليف الرئيسي لمبارك، أي الولايات المتحدة الأميركية، من الدولة الآسيوية “المارقة”، استقبل الرئيس المصري نظيره الكوري “كيم جونغ إل”، ولم ينسَ مبارك في هذا اللقاء أن يُذكِّر بالدعم والمساندة التي قدمتها كوريا الشمالية لمصر في حرب عام 1973. كما يمكن الاطلاع على ملامح عمق العلاقة بين النظامين في المتحف الحربي بالقاهرة الذي جُدِّد عام 1990 بالتعاون مع كوريا الشمالية ليشبه متحف “حرب تحرير الوطن” في بيونغ يانغ.
علاقة سرية للغاية
تحت عبارة “سري للغاية”، وبتاريخ يوليو/تموز 1991، كتب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية تقريرا للحكومة الأميركية بعنوان “آفاق انتشار الأسلحة الخاصة ومراقبتها” يقيّم وضع الدول المختلفة مع “الأسلحة الخاصة”، حيث لم يكن استخدام كلمة أسلحة الدمار الشامل شائعا بعد، وذكرت الوثيقة التي رُفعت عنها السرية عام 2012 أن مصر ستبدأ بإنتاج صواريخ باليستية من طراز “سكود بي” بمساعدة كوريا الشمالية.
بشكل مماثل، أشار اجتماع بالكونغرس الأميركي بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 1997 إلى انخراط كوريا الشمالية في خطة لتطوير الصواريخ بالاشتراك مع مصر بناء على طلب من الرئيس مبارك في بداية الثمانينيات، حيث أشار محضر الاجتماع إلى أن كوريا أرسلت خبراء إلى مصر لنقل التكنولوجيا إلى القاهرة. وفي عام 1996، رصدت المخابرات الأميركية شحنات من إمدادات صاروخية قادمة من كوريا الشمالية إلى مصر، إذ ذكر تقرير لوكالة المخابرات الأميركية نقلته صحيفة “واشنطن تايمز” في يونيو/حزيران 1996 أن كوريا الشمالية نقلت على الأقل 7 شحنات في ذلك العام تحتوي على مكونات لصواريخ “سكود سي” التي يمكنها أن تصيب كل بقاع إسرائيل.
وكما يبدو، فقد شعر المسؤولون الأميركيون من أن مصر تقترب بشدة من تصنيع صواريخ “سكود سي” ذاتيا، لدرجة جعلت سؤال ما إن كان يمكن فرض عقوبات على مصر لهذا السبب يتردد بين صناع القرار في واشنطن، لكن ما كبح الفكرة هو العلاقات المتينة بين مصر وأميركا، إذ لم ترَ الولايات المتحدة في استعداء حليفها مبارك أية فائدة آنذاك، رغم أنها عاقبت سوريا وإيران لأسباب مشابهة متعلقة بالتعاون الصاروخي مع كوريا الشمالية عام 1992، دون نسيان أن فرض عقوبات ضد وزارة الدفاع المصرية آنذاك كان سيعني منع المُصدرين الأميركيين من إجراء تعاقدات مع المؤسسة العسكرية في القاهرة، مما سيتسبب في خسائر مهولة في وقت كانت الولايات المتحدة تُصدر فيه العديد من المعدات العسكرية والذخائر لمصر.
حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة أن تُقنع مبارك بأنها مطلعة على سره مع كوريا الشمالية، لكنها في الوقت نفسه كانت حذرة من الإفراط في الضغط عليه أو معاملته باعتباره تهديدا لمشروع “السلام العالمي” نظرا لطبيعة العلاقات الدافئة معه في بقية الملفات، وفي زيارة مبارك لواشنطن عام 2001 تطرقت الإدارة الأميركية بوضوح إلى ملف تعاونه مع كوريا الشمالية فيما يخص إنتاج الصواريخ، لكن مبارك كان ينفي دوما سعي مصر لامتلاك هذا النوع من الأسلحة، وكانت إسرائيل وصحافتها على الجانب الآخر تتهم مبارك بأنه يستغل معاهدة السلام والعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية ومساعداتها المالية ليقوي جيشه خلسة بأسلحة يمكن أن تهدد أمن إسرائيل في المستقبل، وفي عام 2000 حذرت وزارة الدفاع الإسرائيلية الولايات المتحدة الأميركية من أن مبارك ينقل التكنولوجيا الأميركية للكوريين مقابل مساعدتهم له في صناعة الصواريخ.
كانت علاقات مصر مع كوريا الشمالية في عهد مبارك أكبر من التعاون السري في مجال الصواريخ على ما يبدو. فرغم علاقته الوثيقة بالغرب، زار مبارك بيونغ يانغ 3 مرات في سنوات الثمانينيات، ومرة في عام 1990. وتُعَدُّ مصر واحدة من 24 دولة فقط على مستوى العالم تستضيف سفارة لكوريا الشمالية، كما تذكر التقارير الدولية أن بورسعيد المصرية كانت محطة مهمة لكوريا الشمالية يعقد فيها وكلاؤها صفقات الأسلحة مع الدول المختلفة في المنطقة، وكانت سفارتها في القاهرة مركزا للمبيعات العسكرية لأطراف أخرى، وهو ما أدر العملة الصعبة على هذه الدولة المعزولة. تُعَدُّ هذه المعطيات مهمة للغاية طبعا، لكن أكثر ما يثير الانتباه في هذا الملف هو معرفة تفاصيل ذلك البرنامج السري للصواريخ الذي جمع القاهرة ببيونغ يانغ في زمن مبارك وأقلق واشنطن وتل أبيب.
فك شفرة الصواريخ السوفيتية
اختلف عبد الناصر والسادات ومبارك في الكثير من الأمور التي تخص طريقة إدارة مصر داخليا وخارجيا، ولكنهم اجتمعوا في أمور أخرى شكَّلت امتدادا للنظام المصري الجديد، وتُعَدُّ مسألة تصنيع السلاح، وخصوصا الصواريخ، أحد أهم الملفات التي أجمع عليها الثلاثي كونها تُمثِّل مسألة أمن قومي بالنسبة إلى رؤساء مصر جميعا.
في البداية، حاول عبد الناصر من خلال العلماء الألمان في الستينيات الذين خدم بعضهم في نظام أدولف هتلر أن ينتج صواريخ مصرية، وأنتج بالفعل طرازين سمّاهما “الظافر” و”القاهر”، لكن قدرتهما على توجيه الضربات فضلا عن مرونتهما في الحركة كانت سيئة للغاية، ولم يُتح لعبد الناصر تطويرهما بشكل أكبر لأن الموساد استهدف العلماء الألمان بالاغتيال والتهديد حتى اضطروا لترك مصر عام 1965.
واصل جمال عبد الناصر ومن بعده أنور السادات بعد حرب 1967 السعي لامتلاك قوة صاروخية رادعة، ولعبت القاهرة ورقة التصعيد في وجه موسكو للوصول إلى هدفها العسكري، فكان ذلك تارة بطرد الخبراء السوفييت كما فعل السادات، وتارة بالتهديد بالارتماء في حضن الغرب والولايات المتحدة الأميركية إن زاد تعنت السوفييت في مسألة فتح مخازن السلاح المتطور في وجه مصر، وفي عام 1972 نجحت الضغوط في إقناع موسكو بالإفراج عن شحنة من صواريخ “فروغ – 7” قصيرة المدى التي يبلغ مداها 70 كيلومترا، وبعد طرد السادات للخبراء الروس وقبل بداية حرب 1973 أفرجت موسكو أخيرا عن 18 صاروخ “سكود بي”، ويرى محللون عسكريون أن مصر لم تكن لتتخذ قرار الحرب في 1973 لولا حصولها على هذا الطراز من الصواريخ التي منحت مصر الثقة للشروع في المعركة.
كانت القيادة المصرية تعتقد أن الصواريخ القوية وحدها مَن ستردع إسرائيل عن توجيه ضربات عميقة لمصر، ورغم أن الصواريخ لم تؤثر عسكريا بشكل واضح في مجريات المعركة، فإن مصر خرجت من حرب 1973 أشد اقتناعا بأهمية امتلاك تكنولوجيا تصنيع هذا النوع من الصواريخ، لمحاولة موازنة خطورة أسلحة الردع الإسرائيلية.
في الوقت نفسه، كانت كوريا الشمالية تعيش التحدي نفسه بمحاولة الحصول على صواريخ متطورة من الاتحاد السوفيتي لكن دون جدوى، فكان الحل هو التوجه إلى دولة حصلت بالفعل على هذا النوع من الأسلحة من الاتحاد السوفيتي، دولة يمكنها المغامرة بعلاقتها المضطربة مع السوفييت وبيع الأسلحة التي في حوزتها لبلد آخر، ولم يكن هناك أفضل من مصر للعب هذا الدور، خصوصا أن القاهرة كانت قد بدأت بعد الحرب التوجه تدريجيا نحو الغرب، بعد تعمق أزماتها مع كعبة الشيوعية في العالم.
ورغم التباين التام في التوجه، اتفقت المصالح بين مصر وكوريا الشمالية، فكلتاهما تريد بشدة تكنولوجيا الصواريخ السوفيتية المتطورة. وفي ظل قناعة مصر بافتقارها إلى القدرات الإدارية والهندسية لتصنيع صواريخها، وافق السادات عام 1976 على تسليم صاروخين من نوع “سكود بي” لكوريا الشمالية حتى تفك شفرة صنعها وتطورها، شريطة أن تشارك مصر هذه التكنولوجيا بعد الانتهاء من العمل، وهو ما حدث بالفعل، بعدما أوفت كوريا الشمالية تماما بعهدها مع مصر.
“بدر 2000”.. حلم مباركي يتحدى أميركا
بدا مبارك طيلة فترة حكمه رجلا لا يبحث عن المشكلات، وحتى بعض مَن انتموا إلى دائرة نظامه كتبوا شهاداتهم على عصره واصفين إياه بالبطء في اتخاذ القرار والميل إلى السكون والافتقار لروح المبادرة، ولكن على العكس من ذلك، كان مبارك في ملف تصنيع الصواريخ مبادرا ومتحركا بما لا يتناسب مع طبيعة شخصيته. فحين استلم مبارك الحكم كان التعاون المصري مع كوريا الشمالية يجري على قدم وساق، إذ كانت القاهرة قد عززت هذا التعاون باتفاق جديد مع بيونغ يانغ على تطوير “سكود سي” الذي يصل مداه إلى 500 كيلومتر. لكن الرئيس المصري لم يكتفِ بالاتفاق مع كوريا، فقد كان يحاول مع أطراف مختلفة للغاية نفسها، وأهمها الصين التي تواصل الرئيس المصري معها في بداية الثمانينات لكنها لم تُظهِر أي اهتمام بالرغبة المصرية.
وفي عام 1982، بدأت مصر مشروعا سريا مع العراق والأرجنتين لتصنيع صاروخ يبلغ مداه 1000 كيلومتر بحمولة تصل إلى 500 كيلوغرام، أطلقت الأرجنتين على الصاروخ اسم “كوندور 2” فيما سمته مصر “بدر 2000”. كانت فكرة المشروع تعتمد على بناء الصاروخ في الأرجنتين بعيدا عن عيون الغرب، ثم نقل التكنولوجيا فيما بعد إلى كلٍّ من العراق ومصر، وكان دور مصر هو المساعدة التقنية، ودور العراق هو التمويل بشكل أساسي. ومن جبال سييرا تشيكا في الأرجنتين وقرية أبو زعبل في القاهرة ومجمع الصواريخ في جنوب بغداد بدأ العمل، وبينما كان العمل ساريا مع الأرجنتين من جهة ومع كوريا الشمالية من جهة أخرى، كلفت مصر المهندس العسكري عبد القادر حلمي في كاليفورنيا بالحصول على المواد المحظورة على مصر لبناء صاروخ “بدر 2000”.
في نهاية الثمانينيات، استطاعت السلطات الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية اكتشاف سر عبد القادر حلمي ومحاكمته، إذ أقر حلمي بأنه حاول تسريب 420 رطلا من مادة “carbon-carbon” التي تُستخدم في تصنيع مقدمة الصواريخ ودروعه الحرارية، مما يساهم في تحسين دقة الصاروخ. ورغم ذلك، تغاضت الولايات المتحدة الأميركية عن معاقبة مبارك على مغامرته الكبيرة التي خاضها بتمويل عراقي، وتذكر بعض المصادر أنها ضغطت فقط لأجل إقالة المشير أبو غزالة الذي مَثَّل رأس الحربة المصرية في المشروع. وعلى الجانب الآخر، استطاعت الضغوط الأميركية على “بيونس آيريس” أن تُخرج الأرجنتين من المشروع عام 1990 قبل أن تصل الأطراف الثلاثة إلى التكنولوجيا الحاسمة لصناعة الصواريخ.
أظهرت إسرائيل ارتياحا كبيرا تجاه المبادرة الأميركية بعرقلة المشروع، فبحسب كتاب “ناصر وعصر الصواريخ” لـ”أوين سيرز”، وهو باحث متخصص في الشرق الأوسط، عمل في وكالة استخبارات الدفاع الأميركية، فإن المسؤولين في الاستخبارات الأميركية كانوا يرون أن خروج صاروخ “بدر 2000” للنور كان سيجعل من صاروخ “نودونغ” الكوري الشمالي مجرد لعبة أطفال، نظرا لدقة الأول ومرونته المتوقعة، ويجادل محللون أميركيون بأن نجاح المشروع الذي أجهضته بلادهم كان قادرا على تغيير الكثير من الأشياء في تاريخ الشرق الأوسط وأميركا الجنوبية.
وفي خضم هذه التعثرات للمشروعات المصرية، لم تنسَ كوريا الشمالية رد الجميل لمصر بعدما استطاعت في أواخر الثمانينيات فهم تكنولوجيا صواريخ “سكود بي” القادرة على حمل رؤوس كيميائية لمدى يصل إلى 300 كيلومتر، بل وتطويرها. وأخذ الكوريون على عاتقهم مساعدة مصر -كما وعدوا سابقا- على بناء مصنع لإنتاج “سكود بي” في القاهرة عبر إرسال خبرائهم ومهندسيهم والاستعانة بالتصاميم التي أعدّوها. وبالإضافة إلى هذه المساعدة الكبيرة، انطلقت المفاوضات بين مصر وكوريا الشمالية لاستيراد صواريخ “سكود سي” من بيونغ يانغ.
وبحلول نهاية التسعينيات، رجحت بعض المصادر الأميركية أن المواد التي تنقلها كوريا الشمالية إلى مصر والمساعدات الفنية قد تُمكِّن مصر أيضا من إنتاج صواريخ “سكود سي” بنفسها، علما أن هذه الصواريخ تتميز بدقة ومدى أعلى من “سكود بي” ويمكنها أن تستهدف كل أنحاء إسرائيل، وتُقدِّر بعض المصادر أن كوريا الشمالية قد صدَّرت 250 صاروخا لمصر وإيران وليبيا وسوريا في الفترة بين 1987-1992 بقيمة تصل إلى نحو 580 مليون دولار.
تذهب التقارير الاستخباراتية الأميركية إلى أبعد من ذلك، إذ تؤكد أن العشرات من خبراء الصواريخ الكوريين الشماليين عملوا في مصر مع بداية الألفية الجديدة، وذلك لاستكمال مهمة المشاركة في تقنيات تطوير وإنتاج الصواريخ، كما تُرجح أن مصر اشترت في تلك الفترة -التي كان ينفي فيها مبارك لأميركا اهتمامه بهذا النوع من الأسلحة- 24 صاروخا من نوع “نودونغ” الذي يصل مداه إلى 1300 كيلومتر، وهو ما أدى إلى خلاف كبير بين القاهرة وواشنطن، لكن مصر استمرت في محاولة تطوير قدراتها الإنتاجية الصاروخية بعد ذلك.
ورغم عدم قدرتنا على قياس المدى الحقيقي للقوة الصناعية الصاروخية لمصر في عهد مبارك، فإن الدلائل تقول إن هذه القوة شهدت تطورا ملحوظا بدعم من كوريا الشمالية، فبحسب تقرير نُشر في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1996 لـ”مشروع ويسكونسن للسيطرة على الأسلحة النووية”، وهي مؤسسة بحثية غير ربحية مقرها واشنطن، فإن القاهرة بعد 15 عاما من مساعدة كوريا الشمالية باتت قادرة على إنتاج نسختها الخاصة من “سكود بي”، وهي تعمل على تطوير نسخة من “سكود سي”. لم تعلن مصر نجاحها في إنتاج أي من هذه الصواريخ، ومن المحتمل أن تكون الإطاحة بمبارك عرقلت هذا المسار، لكن المؤكد أن العلاقة العسكرية بين القاهرة وبيونغ يانغ كانت أعمق مما يظن الجميع.
————————————————————————————————————–
المصادر:
- Nasser and the Missile Age in the Middle East
- Will Washington Penalize Cairo for Missile Trade with Pyongyang?
- North Korean Missile Exports
- North Korea Still Shopping for Missile-Related Technology
- National Intelligence Estimate, NIE 5-91C, ‘Prospects for Special Weapons Proliferation and Control’
- ONE HUNDRED FIFTH CONGRES FIRST SESSION
- The Egypt-North Korea Connection
- North Korea’s 50 Year Fight With Israel Began With Korean MiG-21s Guarding Syria and Egypt
- North Korea fears Egypt scenario
- Fact: North Korean Jet Fighters Fought Against Israel in the Yom Kippur War
- North Korean Defence Cooperation with Egypt; How Rodong and Hwasong Missiles Came to Comprise the Bulk of Cairo’s Ballistic Missile Forces
- Egypt’s Missile Efforts Succeed with Help from North Korea
- A History of Ballistic Missile Development in the DPRK
- North Korea and Egypt: friends with benefits
- CASE STUDY – NORTH KOREA’S SCUD STORY
- The North Korean-Israeli Shadow War
- رئيس كوريا الشمالية في مصر
- واشنطن تثير لمبارك تعاون مصر عسكريا مع كوريا الشمالية
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.