الصليب المعقوف وصواريخ عبد الناصر.. قصة العلماء النازيين في مصر


في عام 2009، تداولت وسائل الإعلام الألمانية لأول مرة خبر رحيل الطبيب النمساوي “أربيرت هايم” وذلك بعد أكثر من 17 عاما على وفاته عام 1992 بعد معاناة مع سرطان القولون. لقد حظي هايم بأيام هادئة في نهاية حياته ورحل بصمت على ما يبدو، لكن سنوات عمره الأولى كانت صاخبة بشكل لا يتفق مع نهايته، كيف لا وهو الرجل الذي عُرف يوما بلقب “طبيب الموت”، لأنه كان يُجري تجارب علمية على الأحياء وعمليات جراحية بدون تخدير في معسكر ماوتهاوزن النازي إبان عهد أدولف هتلر.

عرف الموت طريقه لأربيرت خلال إقامته بجمهورية مصر العربية، فقد هرب الطبيب النازي إلى القاهرة قبل عقود واعتنق الإسلام، وأطلق على نفسه اسم طارق حسين فريد، وذاب بين المصريين في حي “باب الخلق” في العاصمة المصرية، حيث ذكر مخالطوه أنه كان رجلا قليل الكلام يحافظ على طقوس روتينية هادئة تشمل “ممارسة التمارين الرياضية في الصباح، ثم أداء الصلاة في الجامع الأزهر، واستغلال معظم الوقت في القراءة والكتابة”.

لم يكن هايم حالة فريدة على ما يبدو، ففي عام 2010، وبعد عام واحد فقط من نشر خبر وفاته، ذكرت تقارير صحافية أن السفارة الإسرائيلية في القاهرة طلبت من مصر تسليم ثلاثة ضباط نازيين سابقين هم “ولفغانغ بلومنتال” و”ألبيرات غونتار” و”هورست هيلموت”، ادعت إسرائيل أنهم موجودون داخل مصر، وكانت مجلة فرانكفورت الألمانية قد نشرت في عام 1957 تقريرا ادعت فيه أن عدد النازيين الهاربين في مصر قد يصل إلى 2000 شخص.

الطبيب النمساوي “أربيرت هايم” عُرف يوما بلقب “طبيب الموت”، لأنه كان يُجري تجارب علمية على الأحياء وعمليات جراحية بدون تخدير إبان عهد أدولف هتلر. (الأوروبية)

دفعت هذه الأخبار الباحثين إلى إعادة فتح ملف النازيين الذين هربوا إلى مصر بعد تعرضهم للملاحقة على مستوى العالم، رافق فتح هذا الملف نفض الغبار عن ملف العلماء النازيين الذين استعان بهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لبناء الصناعة العسكرية المصرية الوليدة، وهو الأمر الذي بالغت الكثير من الأقلام الغربية في تضخيمه إلى حد تصوير التجربة العسكرية المصرية في الستينيات برُمتها على أنها صناعة نازية، وهو الادعاء الذي يستند إلى دوافع أيديولوجية بالأساس أكثر من كونها علمية. وفي هذه المادة نحاول أن نقترب أكثر من قصة العلماء النازيين في مصر إبان فترة التجربة الناصرية بشيء من الاتزان، ودون الوقوع في فخ الإنكار أو التهويل.

النازيون والتجربة الناصرية

في الواقع، فإن فكرة استعانة مصر بالعلماء الألمان ومن بينهم النازيون الهاربون بدأت قبل تحول البلاد إلى النظام الجمهوري؛ تحديدا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1949. ففي العهد الملكي تلقت القنصلية المصرية في ألمانيا بعد الهزيمة العربية أمام العصابات الصهيونية عام 1948 مئات الطلبات من ضباط ألمان سابقين للعمل بالبلاد، وبدأ استقطاب الخبرات الألمانية بالفعل منذ عام 1950، حينها كان هناك توجه لبناء الجيش المصري على النمط الألماني، وإحلال الخبرات الألمانية محل الخبرات البريطانية في إطار رغبة البلاد في التحرر من قيود الاستعمار.

استمر هذا التوجه بعد سقوط الملكية على يد حركة الضباط الأحرار، فقد استعان محمد نجيب في عام 1952 بخبير الصواريخ وليام فوس الذي خدم في النظام النازي ليكون رئيسا للمستشارين في وزارة الحربية، ومن ثم لم تكن الاستعانة بهؤلاء العلماء بدعة ناصرية كما يُزعم عادة. في الواقع لم تكن فكرة الاستعانة بالعلماء الألمان مقتصرة على النازيين منهم، وإنما كان غرضها استقطاب الخبرات الألمانية عموما ومن ضمنها خبرات العلماء الذين عملوا تحت نظام أدولف هتلر. ويؤكد ذلك أن جزءا من أسباب رحيل بعض العلماء الألمان عن مصر فيما بعد يرجع إلى توتر العلاقات بين ألمانيا الغربية (الموالية للغرب) وجمهورية مصر العربية (الاشتراكية الناصرية حينئذ) بعدما حذر الألمان علماءهم من استكمال العمل في مشروعات عبد الناصر، هذا بخلاف التهديدات والاغتيالات الإسرائيلية التي كانت تلوح في الأفق كما سنرى لاحقا.

توجه النظام الناصري إلى الاستعانة الجدية بالعلماء الألمان، من ضمنهم علماء نازيون، مثل “آرنست هاينكل” المخترع ومصمم الطائرات النازي. (غيتي)

ما حدث إذن هو أن ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية أتاحت آلاف الخبراء الألمان والنمساويين العاطلين رفيعي المستوى في مجالات الصناعة العسكرية والكيمياء والهندسة، وقد وجدت بلدان نامية مثل مصر والأرجنتين في بعض هؤلاء فرصة لبناء قدراتها العسكرية ومحاولة الخروج من الدور المرسوم لها بوصفها دولة نامية مستوردة للتقنية داخل النظام العالمي، وقد بدأ اعتماد نظام ناصر جديا على العلماء الألمان في عام 1960 من أجل بناء نواة صناعة الصواريخ والطائرات في مصر، جزءا من المشروع الناصري الهادف إلى إقامة صناعة وطنية قوية تحافظ على استقلال قرار البلاد السياسي وتحقق التنمية الاقتصادية على المدى الطويل.

جاء توجه النظام الناصري إلى الاستعانة الجدية بالعلماء الألمان بعدما رفض الاتحاد السوفيتي إعطاء أسلحة حديثة لمصر في أعقاب حرب 1956، وتزامن هذا التوجه مع إنشاء هيئة التصنيع الحربي عام 1960، وكان عبد الناصر يرد على المسؤولين الغربيين بخصوص استقدام علماء ألمان بعضهم من النازيين قائلا إن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة يستقدمون علماء ألمان، “فلماذا يجب ألا يعملوا مع مصر أيضا؟”، وفق ما أورده الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه “عبد الناصر والعالم”.

عمليا، جرت الاستعانة بفريق مكون من قرابة 250 عالما ألمانيا من ضمنهم علماء نازيون أمثال “يوجين سانغر” و”فولفانغ بليز “و”هانز كروغ” الذين عملوا سابقا في تطوير القدرات العسكرية الصاروخية النازية، ومثل “آرنست هاينكل” المخترع ومصمم الطائرات النازي الشهير، وذلك للمشاركة في مشروع بناء الصواريخ. وكان الهدف من المشروع المصري هو تصنيع صواريخ بالستية مصرية وطائرات نفاثة هجومية بسرعة الصوت، وقد أنفق النظام المصري على المشروع مبالغ كبيرة، وحرص على إعطاء العلماء الألمان رواتب ضخمة كي لا يخضعوا لأي ابتزازات إسرائيلية فيما بعد، ثم بدأ النظام الناصري بإنشاء مجمعين عسكريين كبيرين في حلوان لإنجاز أعمال المشروع داخلهما، كما استورد أدوات مهمة من ألمانيا وسويسرا لتمكين العلماء من مواصلة عملهم.

وفي 21 يوليو/تموز 1961، أطلقت مصر بالفعل بحضور الرئيس جمال عبد الناصر ووسط تغطية إعلامية مكثفة أربعة صواريخ “أرض – أرض” من فئتين سمّتهما “القاهر” و”الظافر”، وهي أسماء تنتمي إلى تراث الدولة المملوكية التي حكمت مصر في العصور الوسطى، وهو التراث الذي كان جمال عبد الناصر متأثرا به. كانت الصواريخ الجديدة -بحسب الرواية المصرية آنذاك- تصل إلى عمق 300 و600 كيلومتر، لكن تبين فيما بعد أن المدى الحقيقي لها قد لا يتجاوز 8 كيلومترات، وأن الظافر والقاهر كانا يصعب نقلهما إلا على أرض مستوية، ولكن رغم نجاحها المحدود، تحركت الحكومة الإسرائيلية وجهاز الموساد بسرعة لضرب تلك التجربة الناشئة، التي كانت الثمرة الأولى للتعاون المصري مع العلماء الألمان.

وفيما يبدو، أثار استعراض الصواريخ المصرية في شوارع القاهرة دون أدنى علم مسبق عند الموساد بالمشروع الكثير من الفزع في الكيان الصهيوني الوليد، ورغم أن التقييمات الإسرائيلية التي تمت في الأسابيع التالية بعد جمع المعلومات خلصت إلى أن الصواريخ ما زالت بدائية وأن المصريين لا يمكنهم تطويرها وحدهم، خشيت دولة الاحتلال من أن تؤدي عملية التطوير اللاحقة إلى إكساب تلك الصواريخ القدرة على حمل رؤوس إشعاعية أو كيماوية، خاصة أن الوثائق التي حصل عليها عملاء الموساد بعد عرض الظافر والقاهر كانت تفيد بأن العلماء الألمان يخططون لإنتاج 900 صاروخ.

جدير بالذكر أنه في الوقت الذي كانت تردد فيه الصحافة الإسرائيلية أن النازيين يبنون الجيش المصري تحت رعاية مَن يعتبرونه “هتلر الشرق الأوسط” جمال عبد الناصر ليقوم بـ”هولوكوست” جديد ضد الشعب اليهودي، كانت إسرائيل تبني قدراتها التسليحية الفائقة ومصانعها الحربية من خلال المنح التي كانت تأخذها من ألمانيا الغربية تعويضا عن المذابح بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية، وهي تعويضات منفصلة تماما عن التعويضات التي دفعتها ألمانيا الغربية لضحايا الهولوكوست مباشرة.

حارس هتلر في خدمة إسرائيل

استعانت دولة الاحتلال (1962) بعميل نازي اسمه “أوتو سكوريني”، وهو الذي ساعد الموساد في الوصول إلى العلماء الألمان، ومن ثم تهديدهم وإرهاب عائلاتهم، بل واغتيالهم إذا لزم الأمر. (مواقع التواصل)

تقدم العديد من الروايات الغربية والإسرائيلية قصة وجود علماء نازيين في مصر في عهد عبد الناصر لغرض أيديولوجي، وهو وصم التجربة المصرية في الستينيات بأنها كانت تجربة نازية بالأساس، بُنيت على أكتاف مستشارين وعسكريين ومصممي دعاية نازيين معادين للسامية خدموا في نظام هتلر سابقا وأعادوا استنساخ تجربته مع عبد الناصر، لكن ما لا يُحكى في هذه الأثناء كثيرا أن إسرائيل نفسها قد استعانت بالخبراء النازيين لخدمة أهدافها.

حدث ذلك إبان العملية الإسرائيلية المسماة “داموكليس” التي انطلقت في أغسطس/آب 1962 بهدف استهداف العلماء الألمان الذين كانوا يعملون على بناء وتطوير الصواريخ المصرية، حينها استعانت دولة الاحتلال بعميل نازي اسمه “أوتو سكوريني”، وهو الذي ساعد الموساد في الوصول إلى العلماء الألمان ومعرفة أدق التفاصيل الشخصية عنهم، وطبيعة وحجم مسؤوليات كل واحد منهم، ومن ثم تهديدهم وإرهاب عائلاتهم، بل واغتيالهم إذا لزم الأمر باستخدام الطرود المتفجرة. فقد أصدر رئيس الموساد آنذاك إيسر هاريل قراره بتخويف وقتل أي عالم ألماني داخل مشروع الصواريخ المصري يرفض التعاون مع إسرائيل، وبحسب تعبير مجلة “نيوزويك” الأميركية، فإن إسرائيل استخدمت الاغتيالات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أكثر من أي دولة في العالم الغربي تحت مسوغات أمنها القومي.

بدأت عمليات الموساد ضد المشروع الصاروخي المصري بمكالمات تهديد هاتفية للعلماء الألمان، وبعد ذلك جاءت المرحلة التالية وهي إرسال الطرود المتفجرة، وقد كانت مسألة وصول الطرود للعلماء الألمان مسألة شديدة التعقيد، فقد كانت المخابرات المصرية هي التي تستلم الطرود قبلهم وتضعها في مكاتب شركة مصر للطيران، من ثم كان على عملاء الموساد الدخول لتلك المكاتب ووضع المتفجرات داخل أكياس البريد، عبر استخدام تكنولوجيا متطورة لفتح الأقفال، وقد تسببت إحدى هذه المتفجرات في فقدان سكرتيرة أحد العلماء الألمان لإحدى عينيها بعد الانفجار.

خلال عمليات التعقب والتصفية والاغتيال هذه، استعان الموساد بخدمات “سكوريني” الذي عمل سابقا رئيسا للعمليات الخاصة للقوات النازية، كما عمل في قوة حراسة هتلر الشخصية، وقد حصل على “صليب الشرف الحديدي” في الحقبة النازية الذي يُعَدُّ واحدا من أرفع الأوسمة التي يمكن أن يتقلدها عسكري نازي، بالإضافة إلى أن وجهه يحمل ندبة من آثار الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها تحت راية هتلر، وقد وعده الموساد بمنحه الأمان والحماية إذا ما تعاون مع الإسرائيليين بعد أن كانوا يلاحقونه. ومن المفارقات أن سكوريني حين مات في عام 1975 بإسبانيا التي كانت في عهد الديكتاتور فرانكو ملجأ للنازيين الهاربين، أقام له مناصروه النازيون جنازة مهيبة حيوا فيها جثمانه التحية النازية الشهيرة، إذ لم يكن أحد منهم ليتخيل ما ستكشف عنه الوثائق فيما بعد من أن حارس هتلر الشخصي قد تعاون مع إسرائيل لقتل علماء ألمان بعضهم عمل تحت النظام النازي حتى لا تُكمل مصر مشروعها الصاروخي.

في بادئ الأمر، لم تحقق الخطة الإسرائيلية نجاحات ملموسة أو سريعة، ولكن مع تغيير الموساد إستراتيجيته للتركيز على إيقاف التطور المصري في صناعة الصواريخ بدلا من تعقب النازيين في بقية بقاع العالم، بدأت التحركات الإسرائيلية تؤتي ثمارها، بعد أن نجحت دولة الاحتلال في محاصرة العلماء الألمان وإخراج بعضهم من المشروعات المصرية عبر التخويف والقتل تارة، وعبر تقديم إغراءات بفرص عمل مربحة تارة أخرى.

ظلت صواريخ القاهر والظافر، وهي ثمرة التعاون مع العلماء الألمان، موجودة في مخازن الأسلحة المصرية، ولم تُستخدم أبدا بسبب عيوبها. (مواقع التواصل)

وبحلول عام 1965، انسحب أحد أهم مؤسسي مشروع الصواريخ المصري وهو فولفانغ بليز وعاد للعمل في وظيفة مرموقة في صناعة الطيران في ألمانيا، في الفترة نفسها لم تكن مصر حققت بعد تقدُّما مُرضيا في مشروعها، خاصة مع استعجالها في الإعلان عن الصاروخين اللذين ضخما قدراتها العسكرية وتسببا في حشد جهود الخصوم وعلى رأسهم الاحتلال الإسرائيلي لتقويض المشروع المصري الوليد. وقد ظلت صواريخ القاهر والظافر، وهي ثمرة التعاون مع العلماء الألمان، موجودة في مخازن الأسلحة المصرية أثناء حرب 1967 (ولاحقا في حرب 1967)، لكنها لم تُستخدم أبدا بسبب عيوبها الواضحة المتعلقة بقصور أنظمة التوجيه التي تفوق مزاياها المنحصرة في قدرتها التدميرية العالية، ومن ثم لم تؤدِّ تلك الصواريخ دورا يُذكر أثناء الحرب مع إسرائيل التي انتهت في ستة أيام اكتسحت فيها إسرائيل الجيش المصري، بل ولم تضرب إسرائيل مخازن تلك الصواريخ التي كانت تعرف أنها ضئيلة القيمة بعدما توقف العلماء الألمان عن تطويرها.

____________________________________

المصادر:

  1. The Nazi influence in Egypt
  2. The Secret History of Israel’s War Against Hitler’s Scientists
  3. German Nuclear Work for Nasser Described by Engineer Who Left Egypt
  4. When Israel Hired Ex-Nazi Officers
  5. Egypt faces questions on Nazi fugitive’s past
  6. Inside the Mossad (TV Mini Series 2017) – IMDb




اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post وزير المالية: التجربة المصرية فى الإصلاح الاقتصادى تراعى البعد الاجتماعى
Next post وزير الخارجية السعودي يجرى اتصالين بالبرهان وحميدتي ويشدد على ضرورة التهدئة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading