يفقد رائد الفضاء الروسي بوغدانوف وعيه فجأة أثناء مهمة في الفضاء، وبعد أن يفحصه الأطباء يقررون ضرورة إجراء عملية جراحية له على متن مركبة فضائية تابعة لروسيا خارج الكوكب، ويقع الاختيار على الطبيبة الروسية زينيا بيلييفا.
تعد زينيا نفسها على عجل لتقوم برحلة غير مسبوقة نحو الفضاء لإجراء هذه الجراحة، وبعد أن تصل وجهتها يتحول كل شيء إلى التصوير البطيء بسبب انعدام الجاذبية، وعليها أن تخوض هذا التحدي الصعب في الفيلم الروسي “التحدي” للمخرج الروسي كليم شيبينكو من إنتاج عام 2023.
يعد هذا الفيلم أول عمل روائي طويل في التاريخ يتم تصويره فعلا خارج كوكب الأرض ويجد طريقه إلى شاشات السينما، فلم يتم تصوير أي أفلام في الفضاء قبله سوى فيلم وثائقي قصير.
و”التحدي هو ثمرة تعاون بين وكالة الفضاء الروسية (روسكوزموس) والقناة الأولى الرسمية الروسية بميزانية قدرها نحو مليار روبل (نحو 12 مليون دولار أميركي)، وقد بدأ عرضه بالفعل في دور العرض السينمائية قبل أيام في روسيا ودول أخرى.
لم تنقطع أخبار هذا الفيلم من وسائل الإعلام منذ نحو عامين بسبب الصبغة التنافسية التي حكمته منذ بدء الإعلان عنه في إطار التسابق بين الولايات المتحدة وروسيا وفي أتون أزمة دبلوماسية بين البلدين على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ تسعى روسيا لأن تسجل سبقا في هذا المجال لقطع الطريق على خطة المخرج الأميركي دوغ ليمان والممثل توم كروز لتصوير فيلم في الفضاء بالتعاون بين وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” (NASA) وشركة “سبيس إكس” (SpaceX) التي يملكها رجل الأعمال الشهير إيلون ماسك.
وبالفعل استطاعت روسيا تحقيق ذلك لتسجل أنها أول من أرسل طاقم تصوير سينمائي للفضاء، كما أرسلت من قبل يوري غارغارين أول رائد فضاء عام 1961.
يعد هذا الفيلم أول عمل روائي طويل في التاريخ يتم تصويره فعلا خارج كوكب الأرض ويجد طريقه إلى شاشات السينما، فلم يتم تصوير أي أفلام في الفضاء قبله سوى وثائقي قصير
يحمل هذا الفيلم عدة رسائل تتعلق إحداها بطبيعة العلاقة بين السينما والمؤسسات الروسية المختلفة، خاصة في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد، وتتعلق الأخرى بطبيعة هذا النوع الجديد من الأفلام وتأثيره على السينما بشكل عام.
أولا: السينما والمؤسسات الروسية
أول ما لفت نظري في أخبار الفيلم قبل عامين أنه يأتي تحت إشراف إنتاجي من مدير وكالة الفضاء الروسية السابق ديمتري روغوزين قبل أن يقال من منصبه منتصف العام الماضي، وربما يكون هو صاحب فكرة الفيلم، فلدى الرجل أفكار قومية متشددة تجاه الغرب، وقد جمع بين عدة خلفيات دبلوماسية وصحفية وحزبية وكان هو أول من أعلن فكرة الفيلم مع نهاية العام 2020.
وقد أتيحت لي فرصة الحديث معه أثناء إجراء حوار صحفي معه عام 2008 حين كان يشغل منصب مندوب روسيا الدائم لدى حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) في العاصمة البلجيكية بروكسل.
وكان يدافع بشراسة عن الموقف الروسي وينتقد بشكل بالغ الدول الغربية وسياساتها تجاه روسيا بشكل غير مألوف لدى ممثلي الدول في حلف الناتو، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن لا يخفي الرجل دفاعه الدائم عن روسيا وانتقاده الدول الغربية بشكل يتجاوز الأعراف الدبلوماسية.
وكان الغريب أنه احتفظ بمنصبه الذي يحتم عليه التعاون مع الدول الغربية في ظل التعاون بين روسيا وعدد من الدول الغربية في إطار المحطة الفضائية الدولية.
لكن يبدو أن روسيا معنية بهذا التعاون، ولذلك تراجعت عن خططها السابقة للخروج من المختبر المداري بحلول عام 2024، لتعلن بدلا من ذلك أنها ستستخدم محطة الفضاء الدولية الخارجية حتى عام 2028.
ولا يمكن النظر لإنتاج فيلم “التحدي” الروسي الجديد إلا كمحاولة لإحراز نصر إعلامي متعلق بالفضاء يعالج الكبرياء الروسي ويغطي على الحاجة لمثل هذا التعاون الفضائي.
ويعد فيلم “التحدي” محاولة لكسر العزلة الفنية التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا منذ العام الماضي متمثلة في منع عرض الأفلام الروسية في دور العرض الأميركية ومنعها من المشاركة في المهرجانات الفنية الأوروبية والأميركية، الأمر الذي مثل ضربة اقتصادية وفنية لروسيا وقطع الجهود على محاولات إحياء قطاع السينما هناك الذي بات على قدم وساق منذ عدة سنوات.
ثانيا: السينما في الفضاء
من الناحية الفنية، لا يمكن تجاوز هذا الفيلم أو ضمه على الأقل إلى قائمة أفلام الخيال العلمي وذلك لأنه لم يعد خيالا بل واقعا.
والفارق الجوهري الرئيسي بين أفلام الخيال العلمي والأفلام العلمية العادية أو الروائية الخيالية هو مدى انسجام القصة مع الواقع مطابقة أو من حيث المنطق.
ولهذا بقيت كل أفلام الفضاء في إطار الخيال العلمي، لأنها غير ممكنة من الناحية العملية سوى عن طريق استخدام الخدع السينمائية والمؤثرات البصرية، ومن هذا النوع الفيلم الأميركي الشهير “بين النجوم” (Interstellar) للمخرج الأميركي كريستوفر نولان الحائز على جائزة الأوسكار لاستخدام أفضل مؤثرات بصرية.
ويعد التصوير المباشر من المركبة الفضائية للأرض تجربة مغرية على صعيد التصوير السينمائي، لأنها تنقل المشاهد إلى مستوى بصري شحيح الصورة سوى ما ندر وقام به غير متخصصين في التصوير سابقا، ويتوق الناس لمشاهدة الكوكب من زوايا مختلفة من مكان غير مألوف.
يمكن أن تندرج قصة فيلم الممثل الأميركي توم كروز المنتظر في الفضاء ضمن الخيال العلمي، لكونها تعتمد على حبكة مكررة في السينما الهوليودية عن قصة الرجل الذي يجد نفسه في موقف غير مسبوق يحتم عليه إنقاذ العالم.
وسيتم تصوير معظم المشاهد على الأرض حتى تبلغ القصة ذروتها ويسافر كروز إلى الفضاء فعلا وليس عن طريق الخدع البصرية.
ومن المتوقع بالطبع أن يكتب النجاح لفيلم توم كروز، بالنظر لاسم الرجل وطبيعة الإنتاج الهوليودي واتساع رقعة التوزيع في العالم بخلاف الفيلم الروسي رغم حرمانه من لقب أول ممثل يصور في الفضاء بالتاريخ.
وقد تغري كلتا التجربتين روسيا والولايات المتحدة وربما دولا أخرى لتكرار التجربة بصيغ أخرى ليصبح الفضاء ساحة للتنافس السينمائي.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.