غوستاف فلوبير كاتب وروائي فرنسي عاش في القرن الـ19، ويرى فيه النقاد أحد رواد مدرسة الأدب الواقعي في فرنسا وأوروبا. ولد عام 1821 وتوفي عام 1880. ترك الجامعة بدون أن يتم دراسته في القانون وتفرّغ للكتابة والأدب.
المولد والنشأة
ولد غوستاف فلوبير عام 1821 في مدينة روان، وهي مدينة تابعة لإقليم السين بمنطقة نورماندي شمال غرب فرنسا.
ينحدر من عائلة برجوازية، حيث عمل والده أشيل كليوفاس كبير الجراحين في مستشفى المدينة “أوتيل ديو”، وتنتمي والدته، وهي ابنة طبيب، إلى عائلة من القضاة المتميزين.
ويبدو أن مسقط رأسه شكّل نقطة البداية في تشكيل شخصيته وأسلوبه منذ يوم ولادته حيث ذكر في عدد من كتاباته المستشفى الذي ولد فيه، والذي كان بالقرب من منزله، حيث قضى فترة شبابه حتى بلغ 25 عاما.
ووصف المكان في كتاباته قائلا “نشأت وسط كل المآسي الإنسانية التي يفصلني عنها جدار.. أنا لا أحب الحياة ولست خائفا من الموت”.
وجاء في رسالة كتبها إلى حبيبته الشهيرة “لويز كوليت” في السابع من يوليو/تموز 1853 “يطل مدرج المستشفى على حديقتنا، كم مرة تسلقنا أنا وأختي التعريشة وتعلقنا بين الكروم، وحدقنا بفضول في الجثث المنتشرة! كانت الشمس تشرق عليها، نفس الذباب الذي حلّق فوقنا وفوق الأزهار كان ينزل هناك، ويعود يطن”.
الدراسة والتكوين
وكان الطفل فولبير قريبا من أخته كارولين التي كانت تصغره بـ3 سنوات، وتشهد مراسلاته معها على مستوى القرب بينهما، إذ كانت زميلته في اللعب وممارسة الفنون والرسم والعزف على البيانو، في حين لم يكن مقربا من أخيه الأكبر أخيل، الذي اتبع خطى والده وخلفه في منصب كبير الجراحين.
درس فلوبير المرحلة الابتدائية والثانية في مدينة روان، وأشرف على تربيته أستاذه الشاب أدولف شيرويل، الذي نقل إليه شغف التاريخ. وفي عام 1840 رحل إلى باريس لدراسة القانون.
وقد كشفت قصص فولبير التي كتبها عندما كان لا يزال طالبا عن حبه للمواضيع التاريخية المتعلقة بالعصور الوسطى وعصر النهضة.
وبسبب نوبات الصرع المتكررة، تخلى فلوبير -عن طيب خاطر- عن دراسته ليكرس نفسه جسديا وروحيا لهوايته في الكتابة.
مايسترو الواقعية
عرفت كتابات فلوبير بالتأملات الإنسانية، وكان يترك العنان لمشاعره لتتحكم في قلمه أثناء الكتابة بطريقة تجمع بين الانتقاد اللاذع وخيبة الأمل ووصف الواقع الاجتماعي بكل تجلياته.
ومن تجاربه الفكرية وبحثه المستمر لاختيار الكلمة المناسبة، ولدت روايات حققت رواجا وجدلا كبيرين إلى درجة أن الباحثين ما يزالون يواصلون حتى اليوم فك رموزها.
وتعتبر رواية “مدام بوفاري” واحدة من أبرز رواياته الواقعية، بمشاهدها غير المزخرفة والبعيدة عن الخيال الرومانسي للحياة اليومية، ما جعلها أدبا واقعيا بامتياز، حتى إن فلوبير زار بنفسه الأماكن التي ذكرها في الرواية للتأكد من دقة أوصافه.
ويرى كثيرون أن رواية “مدام بوفاري” تعبر عن التيار الواقعي بامتياز لأنها تعرض القضايا الاجتماعية والسياسية التي كان من النادر الحديث عنها في فرنسا خلال تلك الفترة.
وقد يكون ذلك السبب الرئيسي الذي عرّض كاتبها لاتهامات بالفجور والمحاكمة نظرا لتصويره الدين بشكل أثار الجدل، وتسليطه الضوء على العلاقات غير الشرعية بين الرجال والنساء.
كما تعرضت الرواية لتأثير الثورة الفرنسية على نفسية الطبقة الوسطى، وتعكس ذلك في شخصية “إيما”، التي انغمست في عالم الأدب الرومانسي أثناء إقامتها في الدير وتأثرت بقصص الحب التي لم يكن باستطاعتها تحقيقها على أرض الواقع، لتجد نفسها حزينة وتنهي حياتها بسم قاتل، تاركة لزوجها ديونا ثقيلة.
الاستشراق.. من مصر إلى فلسطين
بالتوازي مع اهتمام أوروبا الجيوسياسي بالشرق الأوسط خلال أيام الحروب الصليبية في القرن الـ11، أنتج الكتّاب الأوروبيون مجموعة كبيرة من الأدبيات يصفون فيها جغرافية المنطقة والناس واللغات والثقافات التي سهّلت ظهور الاستشراق الحديث كنظام أكاديمي وخطاب للقوة.
وفي هذا السياق اهتم فلوبير بموضوعات الاستشراق منذ بداية مسيرته في الكتابة، ويظهر ذلك جليا في مدى تأثره بشخصيات أدبية مثل فيكتور هوغو.
وفي كتابه “الغضب والعجز”، الذي نشر عام 1836 يصف فلوبير “الشرق بشمسه الحارقة وسمائه الزرقاء ومآذنه المذهبة والمعابد الحجرية، وبكل أشعاره وحب البخور”.
ومن باريس إلى مارسيليا وصولا إلى الإسكندرية، انطلق فلوبير وهو في سن الـ27 في مغامرة العمر رفقة صديقه ماكسيم دو كامب.
وفي مقتطف من كتاب سيرته الذاتية للروائي الفرنسي جيفري وول، يقول إن هذه الرحلة غيّرت حياة فلوبير إلى الأبد وقدمت الإلهام لأشهر أعماله.
اكتشف الشاب الفرنسي مدينة الإسكندرية المطلة على البحر الأبيض المتوسط وشبّهها بمرسيليا أو نابولي، وتعرف على شوارعها ودار الأوبرا والقصور التاريخية، والتقى النخبة الفرنسية المغتربة والجنود والأطباء وكثيرين من مواطنيه الذين كانوا على وشك مغادرة البلاد.
ومن الإسكندرية، سافر فلوبير ودو كامب جنوبا على متن باخرة أعلى الدلتا باتجاه القاهرة. وعند وصولهما، شقا طريقهما نحو الأزبكية، الحي الأوروبي على أطراف المدينة القديمة.
وفي رسائله العديدة، شرح فلوبير بحثه المتواصل عن آثار العصور القديمة في العادات اليومية للسكان الأصليين وزيارة المساجد والأديرة القبطية لإشباع فضوله.
وكتب دو كامب في مذكراته “لو كان ذلك ممكنا، لسافر فلوبير على أريكة مستلقيا بدون أن يتحرك، يشاهد المناظر الطبيعية والآثار والمدن التي تمر أمام عينيه مثل لوحة قماشية، كآلة بانوراما”.
وقد نشر فلوبير كتابا كلاسيكيا من أدب السفر بعنوان “فلوبير في مصر”، يروي فيه انطباعاته خلال رحلاته باستخدام المذكرات والرسائل ومذكرات السفر، وله صور فوتوغرافية كثيرة لزيارته للأهرامات في الجزيرة والمعابد في الأقصر والتماثيل الفرعونية العملاقة في أبو سمبل في أقصى الجنوب.
وقد وصل الرفيقان إلى مدينة وادي حلفا السودانية في 22 مارس/آذار 1850 بعد مغادرة مصر، ثم زارا فلسطين وسوريا ولبنان، قبل أن يعودا إلى ديارهما في 16 يونيو/حزيران 1851، مرورا باليونان وإيطاليا.
وعند وصوله إلى فرنسا، نشر كتابه “رحلة إلى الشرق” و”سفر إلى فلسطين”، الذي قدم فيه نظرة نقدية ووصفا خاصا لزيارته لمدينة القدس ومعالمها الدينية.
لكن بعض النقاد رصدوا إصرار فلوبير على تجسيد دور “المستعمر الأبيض المتفوق ثقافيا واقتصاديا”. ورغم محاولته البقاء موضوعيا في كتاباته عن الشرق، فإن اختياره للمشاهد والتفاصيل أثبت لجوءه إلى الصور النمطية السلبية الشائعة عن “عنف” العرب وربط المرأة الشرقية بالمتعة والرغبة الجنسية فقط.
وبينما كان الاهتمام الأكاديمي يميل إلى تفضيل حداثة فلوبير وتهميش أعماله الاستشراقية الأكثر إلهاما تاريخيا، يعتبر هذا الروائي الفرنسي أحد المستشرقين الأوروبيين البارزين في القرن الـ19.
كما أصبحت كتاباته عن رحلاته لمصر -والتي ظلت حتى وقت قريب غير منشورةـ مصدرا مهما في تقييم أعماله، مما حفز الدارسين للأدب على إعادة تقييم الدور الذي لعبته العصور القديمة في مسيرة الرجل.
من مؤلفات فلوبير
- رواية مدام بوفاري”، أصدرها عام 1857.
- رواية “سالامبو”، أصدرها عام 1862.
- رواية “التربية العاطفية”، بدأها عام 1864 وأكمل تأليفها عام 1869.
- مسرحية “المرشح”، كتبها عام 1874.
- رواية “بوفار وبيكوشيه”، أصدرها عام 1872.
- رواية “مذكّرات مجنون”، كتبها عام 1838.
الوفاة
توفي فلوبير في كراوسيه بسبب نزيف بالمخ في الثامن من مايو/أيار 1880، تاركا كنزا ثقافيا لا مثيل له وبعضا من أعظم روائع الأدب الفرنسي.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.