يقول هنري ديفيد ثورو متحدثا عن أهمية الكتاب “ومن الناس من يبدأ حقبة جديدة في حياته بعد قراءة كتاب”. وقد نذهب أبعد من هذا فنقول إن بعض الناس يبدؤون حقبة جديدة في حياتهم بعد قراءة عنوان كتاب فقط؛ فقد كان هذا شعوري وأنا أقف أمام عنوان كتاب كينث وايت “العقل الجائل” (L’Esprit nomade).
شعرت حينها -وأنا طالب أريد التسجيل في جامعة السوربون- بأني وجدت في هذا العنوان ضالتي ومُبْتَغاي. كما وجدت في عبارة الجولان الفكري -المتضمنة في الورقة التعريفية الخاصة بالدروس التي يلقيها وايت- تسمية تصلني بذاتي، وتفتح أمامي حقلا معرفيا شاسعا.
فلا بأس أن أذكرك عزيزي القارئ أنني أنتمي إلى جيل محظوظ، توفرت له فرصة الترحال بلا قيود داخل أوروبا الغربية، كان يكفي اقتناء جواز السكك الحديدية (Interrail pass)، فضلا عن جواز السفر الذي لم يكن من اليسير الحصول عليه، كي ينطلق الشاب المغربي -مثله مثل الشاب الأوروبي الذي يقل عمره عن 25 سنة- بلا قيود، لاكتشاف القارة الأوروبية والمملكة المغربية عبر القطار. وقد درجْتُ -بعد انتهاء كل سنة جامعية- على حمل حقيبَتَي الظَّهر والنَّوم قاصدا الشمال، لممارسة ضرب من الجولان الفكري وفق تعبير”وايت”.
رأيت الأقدار تحملني من دون تدبير مني لملاقاة الأستاذ-الشيخ الذي كنت أبحث عنه كي يمدني بالمنهجية التي بها أستطيع أن أوفق بين شغفي بالتجوال في الفضاء الثقافي الأوروبي وبين مقتضيات البحث العلمي والدراسة الأكاديمية. أجدني اليوم -عزيزي القارئ- بعد مرور أكثر من 30 سنة أشعر بالحاجة الملحة إلى سرد قصة لقائي بالشاعر الفيلسوف المعلم وايت، وذلك لاعتبارها قصة تؤرخ لأفكار وُلِدت على الحدود بين منظومتين ثقافيتين؛ بين عالمَين مختلفين، بين أستاذ وطالب جمع بينهما الشعور بضرورة الترحال، إما بحثا عن سبل الخروج من “طريق الغرب السيار” كما هو الشأن بالنسبة للأستاذ، وإما طلبا للانزياح عما يسميه ابن خلدون “سنن الوقوف في تاريخ الأمم”، كما هو الشأن بالنسبة للطالب الذي كنته وما أزال.
تضاعف عندي الشغف بموضوع الجولان الفكري وزاد اغتباطي لِما لاقيته من وايت من ترحاب ومن سلوك يملك القلب ويملأ النفس إعجابا. سألني ممازحا منذ أول لقاء: أي ريح أتت بك؟ فأجبته: رياح الشرقي. كان السؤال والجواب كافيين لإذابة الجليد بيننا، فما أسرع ما استأنست بصاحب “العقل الجائل” الذي لا يفارقه التبسم وروح الدعابة، وما أسرع ما استحال اللقاء التعارفي بيننا إلى لقاء فكري، حيث كان “وايت” يسألني” ليس سؤال الأستاذ العارف، بل سؤال الشغوف الذي يريد أن يعرف؛ والدليل على شغفه هذا هو أنه لا يتوقف عن تدوين كل جديد في دفتر ملاحظاته الذي لا يفارقه.
جئت إلى باريس في خريف 1987، محملا ببحث إجازتي ورسالة تزكية من أستاذ “السيميولوجيا؛ أو علم الدلالات، المقتدر “جون- ألبير مارغين” (Jean-Albert Margaine). أعطيت وايت نسخة من البحث ونسخة من الرسالة. كان موضوع بحث الإجازة حول “لمشاهب: ظاهرة اجتماعية وثقافية” (Lemchaheb as a Socio-Cultural Phenomenon). سألني وايت وهو يتصفح البحث عن معنى “لمشاهب” فأجبته بأنه يحيل على اسم مجموعة غنائية كلماتها أعمق بكثير من كلمات “البيتلز”.
ضحك “وايت” من نبرة المقارنة، ثم سألني إن كان لاسم المجموعة دلالة أو معنى. أجبته بأن الاسم هو جمع “مَشْهاب” وهو المذنب (Comet)، وأن المذنب في المخيال المغربي والمخيال الإسلامي عموما هو ذلك النجم الراجم للشياطين كما ورد في القرآن الكريم: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين).
اعتاد المغاربة حين يرون مذنبا في السماء على تحريك شفاههم تعوذا، يقولون إن نجما يلاحق شيطانا في سماء هذه الليلة؛ فالمراد بالاسم هو أن المجموعة الغنائية تتوسل بالكلمة واللحن لرجم شياطين الإنس في سياق مجتمعي وثقافي. وقد استساغ المغاربة هذا الاسم فظهرت مجموعات أخرى تتسمى بأسماء مشابهة من قبيل “السهام” أو”لَرْصاد”، وكلها أسماء تفيد معنى الرصد والقذف بالقول واللحن.
لقد كان لـ”وايت” أفضال كثيرة علي؛ فأنا لا أنسى ما نسيت أنه لم يكبح جموحي وأنا أتحدث في حضرته بـ”الخاوي والعامر”، كما يقول المغاربة، بل كنت ألاقي منه ما يستحثني على الكلام؛ وكأنه يريدني أن أُخرِج كل ما في جعبتي، حتى يتمكن من توجيهي باتجاه ما يوافق مزاجي، اقتناعا منه بأن التعلُّم يسبق التعليم (Learning comes before teaching).
شعرت كأن كلامي عن الشهب والمذنب والرجم قد حرك فيه شيئا. سألني إن كنت أحفظ بعضا من أقوال هذه المجموعة التي أدعي أن كلماتها أعمق من كلمات “البيتلز”. ولست أدري كيف خَرَجت من فمي، من بين كل النصوص التي أحفظها عن ظهر قلب الكلمات التالية:
(تشتت عش النسور وهجروا جْزيرة الهم.. هم القصور ماشي الخيام صغيرة)، ثم أضفت متسائلا سؤالا استنكاريا: أَيُقارَن هذا الكلام بكلام البيتلز:
Love love me do / You know I love you
(أحبيني، أحبيني، افعلي / تعلمين أني أحبك)!
كانت علامات الرضا ترتسم على محيا “وايت”، وزاد اقتناعه بقبولي طالبا لنيل دبلوم الدراسات المعمقة بعد أن حدثته، كما طلب مني عن الشعراء والكتاب الأميركيين والبريطانيين الذين أفضلهم، وعن الإشكالات الفكرية والأدبية التي كنا نخوض فيها في سياقنا الأكاديمي والجامعي العربي والإسلامي، ومنها إشكالية التراث وعصر التدوين، والإسلام والحداثة، والتغريب والتحديث والنهضة والأسلمة.
لم يتردد “وايت في قبول طلبي بالانضمام إلى قائمة طلبته. لم يبق سوى أن نتفق على موضوع للبحث. فكل أسباب السرور والسعادة اجتمعت عندي لحظة خروجي من مكتبه، إلا أن سعادتي بانضمامي إلى دروسه وندواته التي اختار لها عنوان “شاعرية القرن العشرين” لم تكن إلا بقدر توجسي من الأستاذة الثانية مدام لافابر (Madame Lavabre) التي حصلت منها على موافقة للانضمام إلى قائمة طلبتها كذلك. كان يُخيّل إلى الناظر إليها أنها امرأة صارمة تخرج من “حقبة فكتوريا”، الحقبة التي هي مجال تخصصها؛ فسرعان ما اكتشفت أن كل شيء يأتي منها -على عكس وايت- كان يقيد حريتي ويكبح أفكاري.
قبِلَت الموضوع الذي اقترَحْت عليها، وكنت اخترت له عنوان “الميكانيزمات اللغوية والرسائل العاطفية في شعر توماس هاردي” (Linguistic Mechanisms and Emotional Messages in Thomas Hardy’s Poetry). أذكر أن الدافع وراء اختياري الموضوع كان تعريف “توماس هاردي” نفسه للشعر بوصفه “عاطفة وضعت في ميزان” (Poetry is emotion put into measure). وكنت وجدت حينها في دراسة اللساني “إيفان فوناج” (La Vive voix) مدخلا نظريا رائعا لإنجاز الدراسة. إلا أنني لم أنجز هذا البحث حتى غُفِر لي ما تقدم من ذنبي وتأخر. ليس لأن الموضوع لم يكن شيقا، ولا لأني لم أكن أعشق شعر “توماس هاردي”، ولكن لأن تأطير “مدام لافابر” كان أكاديميا أكثر من اللزوم، حتى أني صرت أشعر بالاختناق.
بينما كنت أغالب الشعور بالضجر وأنا أحضر ندوات “مدام لافابر” حول أدباء حقبة فكتوريا، كنت أنطلق كالسهم لحضور ندوات “وايت” التي كانت ندوات مفتوحة يحضرها زوار من كل حدب وصوب، ومنهم كتاب وعلماء في كل التخصصات وأساتذة، وحتى بعض السواح، من أميركا وأستراليا ودول أخرى، فضلا عن الطلبة المسجلين. وشيئا فشيئا صرت أشعر بأني فعلا وجدت ما كنت أرجو أن أجد. وزادني حبورا أنني كنت أجلس الساعات الطوال في مكتبة مركز “جورج بومبيدو”، محيطا نفسي بكل كتب “وايت”، حتى إذا انتهيت منها وضعتها أمام الرف حيث وجدتها، ليأتي من بعدي موظفون يسهرون على إعادتها إلى مكانها. وكان هذا ضربا من الخيال بالنسبة لطالب مثلي اعتاد على أن ينتظر طويلا حتى يحصل على كتاب أو كتابين من موظفي مكتبة فقيرة الفقر المدقع.
ولم تمض إلا أسابيع قليلة حتى آنست من نفسي قدرة على التفاعل مع أفكار “وايت” الجوهرية. صحيح أني كنت أنطلق في البداية -بمقتضى شعور باطني مركوز في داخلي- من الاعتقاد بأن ما يبحث عنه “وايت” موجود عندنا، في تراثنا العربي والإسلامي، شأني في ذلك شأن كثير من الباحثين العرب والمسلمين في الغرب، الذين بُرْمِجت عقولُهم على تأصيل كل جديد يرونه أو يسمعون عنه في تراثهم. وكيف لا يجد شاعر يمتهن الجولان الفكري ضالته في تاريخنا ونحن أمة شعر بامتياز! أليس الشعر ديوان العرب؟!
ولكن، ماذا لو كان للشعر عند “وايت” معنى آخر، غير المعنى الذي تقرر في سياقنا التاريخي والثقافي؟ وما علاقة الحديث عن هذا الشعر بالحديث عن أزمة الثقافة الغربية ومضايق الحضارة المعاصرة؟ … يتبع.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.