باتت الأضحية مؤخرًا مثار جدل من مداخل مختلفة، كاستهجان فكرة الذبح نفسها، والخلاف حول نوع المُضحَّى به، ورعاية البيئة والاستعاضة عن أكل الحيوانات بأطعمة بديلة كما نجد في بعض التوجهات المعاصرة خاصة ممن يريد إيجاد أساس إسلامي لهذه الفكرة من مدخل مقاصد الشريعة. ويختلط في هذا الجدل -كما هو واضح- جملة دوافع شعائرية تعبدية وأخرى أخلاقية كالرفق بالحيوان واستقباح ذبحه، ورعاية البيئة، وثالثة سياسية واقتصادية.
وقبل أيام، عاد الجدل مجددًا حول جواز التضحية بالدجاج والطير لهذا العام بعد أن صدرت فتوى (أو دعوة؟) إلى ذلك من قبل سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه في جامعة الأزهر، وكان قد تحدث في الموضوع نفسه سنة 2015. ويبدو أن الجدل هذه المرة أشد؛ لأنه يلتبس فيه مقصد التوسعة على الناس بمقصد التوسعة على النظام السياسي الغارق في الديون والتضخم والذي تواصل عملته التراجع أمام الدولار، ولا سيما أن الهلالي دأب على تأييد النظام، ومن ثم بات التمييز بين النقاش العلمي للمسألة والصراع السياسي مطلبًا مهمًّا هنا، ولذلك سأخصص هذا المقال لمناقشة المسألة من الناحية العلمية بمعزل عن مقاصد المتحدثين فيها اليوم.
ذهب ابن عباس وبلال من الصحابة رضي الله عنهم إلى جواز الأضحية من غير بهيمة الأنعام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يكفي في الأضحية إراقة الدم ولو من دجاجة وأوز”.
الأُضحية هي ما يُذكى تَقَربًا إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة يذكرها الفقهاء في كتبهم، ومن ثم كان القُربان أعمَّ من الأضحية فليس كل قربان أضحيةً، والنقاش الدائر حاليًّا يختص بإيقاع شعيرة الأضحية تحديدًا وليس مطلق التقرب إلى الله، والأضحية كانت شريعةً مستمرةً في جميع الملل والأديان بحسب ما يذكر الشيخ محمد الأمين بن عبد الله الهَرَري الشافعي.
الأصل في الأضحية قوله تعالى: “فصلّ لربك وانحر” [الكوثر:2]، أي صلّ صلاة العيد وانحر البُدْن بحسب الرأي الأشهر. وقد “ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبّر” (رواه مسلم)، وجاءت أحاديث تبين فضل الأضحية والترغيب فيها والتنفير من تركها، ولذلك اختلف الفقهاء في حكمها بين الندب وهو مذهب الجمهور، والوجوب على كل موسر وهو مذهب أبي حنيفة، وبه قال ربيعة والليث بن سعد والأوزاعي والثوري ومالك في أحد قوليه، خاصة مع وجود حديث: “من كان له سَعة ولم يضحِّ فلا يقربنّ مصلانا” (رواه ابن ماجه والحاكم والدراقطني).
والنقاش الدائر اليوم حول ما يُضحَّى به، يتصل بشروط الأضحية في ذاتها. فالذي اتفقت عليه المذاهب الفقهية الأربعة هو أن الأضحية يُشترط فيها أن تكون من “بهيمة الأنعام”، وتشمل ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم؛ لقوله تعالى: “ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام”. وعليه، فمن ضحى بحيوان مأكول من غير بهيمة الأنعام لم تصح تضحيته به، ولأنه لم تُنقل التضحية بغير الأنعام عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.
وفي المقابل، ذهب ابن عباس وبلال من الصحابة رضي الله عنهم إلى جواز الأضحية من غير بهيمة الأنعام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يكفي في الأضحية إراقة الدم ولو من دجاجة وأوز” (رواه عبد الرزاق، وابن حزم بإسناده، والبيهقي)، وقال سُوَيد بن غَفَلة: سمعت بلالًا يقول: “ما أبالي لو ضحيت بديك. ولأَن أتصدق بثمنها على يتيم أو مُغْبرّ أحبُّ إليّ من أن أضحي بها” (رواه عبد الرزاق وابن حزم بإسناده)، ويُحتمل أن الجزء الثاني من هذا الحديث، أي الجزء الخاص بالتصدق بدل الأضحية، مُدرج من الراوي وليس من قول بلال رضي الله عنه.
وإلى هذا الرأي الموسّع ذهب ابن حزم الأندلسي فقال: “والأضحية جائزة بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو طائر، كالفرس، والإبل، وبقر الوحش، والديك، وسائر الطير والحيوان الحلالِ أكلُه”. وتابعه على هذا يوسف بن حسن المقدسي الدمشقي الحنبلي المعروف بابن المِبْرَد (ت909هـ) وكتب رسالة عنوانها: “الرد على من شدَّد وعسّر في جواز الأضحية بما تيسر”. وقد عزا فيها ابن المبرد إلى “جماعة من العلماء” قولهم: إن “الأضحية يجزئ فيها كل ما يَحل أكله من طائر وذي أربعٍ مباحٍ” ثم قال: “وهذا الذي أختاره وأقول به”. وقال الشيخ إبراهيم الباجوري (ت1860م) في إحدى حواشيه: “كان شيخنا يأمر الفقير بتقليد ابن عباس، ويقيس على الأضحية العقيقةَ، ويقول لمن وُلد له مولود: عُقّ بالديكة على مذهب ابن عباس”.
وفي 2001 استعاد زكريا بياز عميد كلية الفقه بجامعة مرمرة بإسطنبول هذا الرأي فقال: إن التضحية بالدجاج يمكن أن تجزئ في ظل الأزمة الاقتصادية التي كان يمر بها الاقتصاد التركي حينئذ، وإنه لا يمكن إلزام أصحاب الحد الأدنى للأجور وموظفي الخدمة المدنية بالأضحية، أما الموسر فيمكن أن يضحي. وقد نشرت ذلك صحيفة “ميليت” (Milliyet) التركية بتاريخ 1/3/2001.
وقد سُئل الشيخ يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى- عن هذه الفتوى التركية، وجاء في السؤال: “أفتى بعض المشايخ هنا في تركيا بجواز التضحية بالدجاج بدل الخراف؛ نظرًا للأزمة الاقتصادية الخانقة…”. ويبدو لي أن المقصود في السؤال هو بياز نفسه الذي ظهر أيضًا على بعض الفضائيات التركية مفصحًا عن رأيه. ويبدو أن هذا النقاش سرى إلى العالم العربي؛ ففي الثالث من مارس/آذار 2001 نشرت صحيفة الشرق الأوسط أن “جبهة علماء الأزهر” في مصر أيّدت الفتوى التركية، ونقلت عن رئيس الجبهة محمد عبد المنعم البري قوله: إنه يجوز ذلك في حالة الضيق والاضطرار لأن المقصود من الأضحية تحقيق إراقة الدم بأي صورة. ونقلت الصحيفة أيضًا عن الشيخ القرضاوي أنه قال “للشرق الأوسط”: “إن من يعجز عن شراء الأضحية يُجزيه أن يشتري لحما بدرهم كما فعل بعض الصحابة”.
ثم نشر القرضاوي فتواه في كتاب “مئة سؤال وجواب عن الحج والعمرة والأضحية والعيدين” سنة 2004. وبعد أن قرر فيه الشيخُ الأصلَ المعروف في الأضحية، قال: تسقط سنّة الأضحية “عن العاجز عنها ولا لوم عليه، وفي هذه الحالة ليس عليه أضحية على الإطلاق، ويمكن أن نعبر عن ذلك مجازًا بأن أضحيته ما قَدَر عليه وكان في وُسعه من دجاج أو بط أو إوز أو أرانب أو حمام أو غير ذلك مما يعرفه الناس من الدواجن والطيور”، ثم ساق قول ابن عباس السابق وقال: “فهي أضحية مجازًا”. ثم بيّن مأخذه العام على “الفتوى التركية” وهو “تعميمها على جميع الأتراك بإجازة التضحية بالدجاج لعمومهم، وهذا التعميم غير صحيح ولا مقبول؛ إذ في الأتراك كثيرون موسرون، فهؤلاء لا يُفتى لهم بأن يضحوا بالدجاج”.
لم يوضح السائل للقرضاوي تفاصيل الفتوى التركية ولا من قال بها، كما أن إجابة الشيخ لم تستحضر السياق التركي أيضًا الذي لا يزال يستصحب مواريث المذهب الحنفي الذي يرى أن الأضحية واجبٌ، وهو -باصطلاح الحنفية- مرتبة بين الفرض والمندوب، وأن الأضحية تثقل -اجتماعيًّا- كاهل الأتراك؛ بسبب مواريث المذهب والأعراف الاجتماعية السائدة؛ فقد نقلت الصحيفة التركية نفسها عن نائب مفتي غازي عنتاب رضا نرجيز أنه وفقًا لتقديرات مستوى الدخل في 2001، فإن 70% من الأتراك يضحون “تجنبًا للإحراج الاجتماعي”، ومن الواضح أن بياز كان يتحدث عن الفقراء لا عن عموم الأتراك.
أما حجج من أجازوا التضحية بكل حيوان مأكول مباح فتشمل القرآن والحديث وحجية قول الصحابي، والعمل بالأصل الذي تندرج تحته الأضحية وهو أنها قربة قُصد بها إراقة الدم.
فالآية: “ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام” [الحج:34] لا تدل على الحصر في “بهيمة الأنعام”، ثم ليس فيها المنع من التضحية بغير بهيمة الأنعام من الحيوان المباح، وإنما خص القرآن بالذكر “بهيمة الأنعام” لكونها الأغلب أو الأفضل، ولهذا المسلك في التعبير نظائر في القرآن. كما أن آية “فصلّ لربك وانحر” تضمنت “النحر”، وهو لفظ عام ظاهره نحر أي شيء كان حيث حصل النحر، ولو ميّزنا هنا بين النحر “الذي يكون عادة للإبل” والذبح لأشكل ذلك على إباحة التضحية بالبقر والغنم.
أما من جهة الاستدلال بالحديث النبوي، فالواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ بغير بهيمة الأنعام “ضحى صلى الله عليه وسلم بكبشين، وروي عنه أنه ضحى عن نسائه بالبقر في حجة الوداع”؛ لأنه لا يفعل إلا الأفضل ويحافظ عليه، وذلك لا يعني أن التضحية بغير بهيمة الأنعام لا تُجزئ.
وقد استدل ابن حزم وغيره بحديث الصحيحين: “من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر”، وفي رواية أخرى: “مثل المُهجِّر إلى الجمعة كالمُهْدي بَدَنة، ثم كالمهدي بقرة حتى بلغ إلى الدجاجة والبيضة، أو نحو هذا”.
ففي هذا الحديث -كما قال ابن حزم- “هدي دجاجة وعصفور، وتقريبهما وتقريب بيضة، والأضحية تقريب بلا شك. وفيهما أيضا فضل الأكبر؛ فالأكبر جسمًا فيه منفعة للمساكين”. وفي رأيي أن هذا استدلال قويٌّ؛ لا يمنع منه أن الحديث وارد على سبيل التمثيل؛ خصوصًا أن بعض فقهاء المذاهب الأربعة استدلوا بالحديث نفسه على أن الإبل أفضل من غيرها في الأضحية، فأن يُستدل به كذلك على أن غير بهيمة الأنعام تجزئ استدلال صحيح، فالتقرب هنا يحيل إلى الأضحية، ويوم الجمعة يوم عيد فأشبه التقربُ فيه التقربَ في العيد.
ولكن يبقى أن إيراد التقرب ببيضة يُشكل على استدلال ابن حزم وغيره بهذا الحديث لأنه لا قائل به، ولكن قد يُجاب عنه بأن القرآن والسنة قد حصرت التقرب بالحيوان وإراقة الدم؛ فالأضحية هي عبادة تتعلق بالحيوان وما يُنحر بالمعنى العام ومن لا يدخل فيها غيره، أي أن البيضة استثنيت بالنص على الأضحية بالحيوان، بخلاف المنع من الأضحية بغير بهيمة الأنعام التي لم يرد النص على منعها أو استثنائها وهو محل الخلاف هنا.
أما من جهة الاستدلال بفعل الصحابة، فقد تنوعت مسالكهم في الأضحية، فقد كان بعضهم يترك الأضحية مخافة أن يُرى أنها واجبة، كما جاء عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وجاء من فعل ابن عباس وبلال ما سبق ذكره في التضحية بما هو دون بهيمة الأنعام، ولم نر مخالفًا لهما أو معترضًا عليهما فكان قولهما حجة.
وبوجود الخلاف حول ما يُضحى به من قِبل ابن عباس وبلال من الصحابة، والخلاف بين فقهاء المذاهب في الأضحية بالبقرة الوحشية وبالظبي والغزال وبما حملت به البقرة الإنسية من الثور الوحشي، وبما حملت به العنز من الوعل، يَصعب ادعاء الإجماع على أنه لا يجوز التضحية بغير بهيمة الأنعام، وقد فعل النووي ذلك إذ قال: “وأجمع العلماء على أنه لا تجزئ الضحية بغير الإبل والبقر والغنم إلا ما حكاه بن المنذر عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن واحد، وبه قال داود في بقرة الوحش والله أعلم”، وقد ساق ابن حزم الخلاف في هذه المسألة في مسائل الإجماع، وحكى ابن مفلح الحنبلي بدقة الوفاق لا الإجماع، ثم جاء ابن المِبْرد فقال: إن التضحية بما تيسّر من الحيوان المباح أكلُه “ليس بمخالف للإجماع؛ فإني لم أرَ أحدًا ذكر هذه المسألة بالإجماع ولا ذكر فيها إجماعًا، بل أكثر ما ذُكر فيه أنه محل وفاق”. قلت: يبدو أنه لم يطلع على كلام النووي.
محصول هذه الحجج والاستدلالات: أن الأضحية تندرج تحت أصل عامّ هو أنها قُربة إلى الله تعالى، ولكنها قربة مخصوصة من حيث الزمان أولًا وهو عيد الأضحى، ومن حيث الجنس وهو أنها عبادة تتعلق بالحيوان، ومن ثم فلا يُمنع التقرب إليه عز وجل بما لم يَمنع من التقرب إليه به، ولم يَرد نص بالمنع من غير “بهيمة الأنعام”. ومع ذلك لا بد أن نحرر المسألة هنا حتى لا يساء فهمها، وذلك بالتمييز بين مستويين:
الأول: الإجزاء في الأضحية والنقاش بالنسبة للطير والدجاج هذا محله حصرًا.
والثاني: تحرّي الأفضل والأكمل ما دمنا نتحدث عن القربة وأنها سنة. ولا شك أن الأضحية بغير بهيمة الأنعام لا تدخل هنا في الحديث عن الأفضل والأكمل، ولا سيما أن فقهاء المذاهب قد خاضوا في المفاضلة بين الأنواع الثلاثة التي يَصدق عليها اسم بهيمة الأنعام، فمذهب الجمهور أن الترتيب هو: الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، وخالف في ذلك المالكية.
وابن حزم كان واعيًا بهذا التمييز؛ فمع أنه أجاز الأضحية بكل حيوان يؤكل لحمه، إلا أنه نص بوضوح على أن “الأفضل في كل ذلك ما طاب لحمه، وكثر، وغلا ثمنه”؛ لأن الحكمة فيه هو التوسعة على النفس وأهل البيت، وإكرام الجار والضيف، والتصدق على الفقير. فهذا هو المعيار هنا في الأضحية ولا سيما للموسر. وبناء على هذه المفاضلة بين أنواع ما يُضحى به انتهى ابن حزم نفسه إلى أن التضحية بالغنم ضأنها وماعزها إنما جاء رفقًا بالناس، “لقلة أثمانها وتفاهة أمرها”، وأنه “تخفيف لهم بذلك عن الأفضل الذي هو أشق في النفقة لله عز وجل”. ويمكن القول: إن التوسع في التضحية بما هو دون ذلك للمعسر أو محدودي الدخل إنما هو من هذا الباب، ولتوسيع دائرة التقرب إلى الله واستشعار عبادته بالميسور إذا تعذر المعسور أو أرهق كاهل المضحّي في زمن الغلاء الفاحش والتضخم الاقتصادي، خصوصًا في المجتمعات التي صيّر العرف فيها الأضحية أقرب إلى الواجب كما هو الحال في المغرب وتركيا مثلًا، والله أعلم.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.