البحر الأسود أكبر مسطح مائي داخلي في العالم، يقع في منطقة أوراسيا، وهو بحر شبه مغلق تحيط به سهول أوروبا الشرقية من الشمال والبلقان من الغرب، بينما تحدّه جبال القوقاز شرقًا وشبه جزيرة الأناضول جنوبًا، ويمثّل مضيق البوسفور المنفذ الوحيد له على المحيطات المفتوحة جنوبًا.
ويحتلّ البحر الأسود موقعًا إستراتيجيا مهمًا، حيث يقع على مفترق الطرق بين جنوب شرق أوروبا وغرب آسيا، وتطلّ عليه ست دول، ويمثّل منطقة عبور تجاري وطاقوي، ومجال حيوي تتنافس فيه القوى الكبرى: روسيا والولايات المتحدة الأميركية، مع انخراط القوى الإقليمية الأوروبية والآسيوية في صراع النفوذ عليه.
الموقع والجغرافيا
يقع البحر الأسود في أوراسيا، ويفصل بين جنوب شرق أوروبا وغرب آسيا، وتحدّه أوكرانيا من الشمال، وروسيا من الشمال الشرقي، وجورجيا من الشرق، وتركيا من الجنوب، وبلغاريا ورومانيا من الغرب.
وهو بحر داخلي بيضاوي الشكل شبه مغلق، ويُعدّ الأكثر انعزالًا عن المحيطات في العالم، كما أن مضيق البوسفور هو المنفذ الوحيد له على المياه المفتوحة جنوبًا، فيتصل بالبحر الأبيض المتوسط عبره مرورًا ببحر مرمرة ثم بحر إيجة عبر مضيق الدردنيل، كما يتصل ببحر آزوف (بحر داخلي متفرع من البحر الأسود في جزئه الشمالي)، عبر مضيق كيرتش (القرم).
وهو أكبر مسطح مائي داخلي في العالم، إذ تبلغ مساحة مسطحه حوالي 461 ألف كيلومتر مربع، وأقصى امتداد له من الشرق إلى الغرب حوالي 1175 كيلومترًا، أما أقصر مسافة فتقع بين رأس ساريتش في القرم ورأس كريمبي في الجنوب، وتبلغ 260 كيلومترًا، وتقدّر أعمق نقطة فيه بحوالي 2210 أمتار.
والشواطئ الشمالية والشمالية الغربية للبحر مغطاة بالوديان والأنهار، في حين تشكّل سلاسل القوقاز الكبرى والصغرى الشاطئ الشرقي، بينما تصطفّ جبال بونتيك التركية في الجنوب بالقرب من مضيق البوسفور، حيث تأتي تضاريس الشاطئ معتدلة رغم أنها لا تزال تسير بانحدار، ويوازي الساحل بين ميناءي مدينتي سينوب وسامسون في تركيا مجموعة وعرة من الجبال تحت الماء، تمتد لنحو 160 كيلومترًا.
وإلى أقصى الشمال في منطقة خليج بورغاسكي، تظهر الجبال المنخفضة، حيث تمتد جبال البلقان في بلغاريا شرقًا، وتفسح منطقة الهضبة المنبسطة على طول الشاطئ الشمالي الغربي الطريق إلى دلتا نهر الدانوب، الذي يصبّ في البحر الأسود.
الروافد والتيارات المائية
يصبّ في البحر الأسود نحو 25 نهرًا، تتدفّق من 24 دولة، ومعظمها من أوروبا وآسيا الوسطى وتركيا، وتتدفق الأنهار الأوروبية الكبيرة إليه؛ مثل: نهر الدانوب في الشمال الغربي، والذي يشكّل أكبر رافد للبحر، وكذلك نهري دنيبر والدون.
كما ترفده -أيضًا- أنهار رئيسة؛ منها: رايوني وكودوري وإنغوري وكيزيل إرماك وإيشيل إرماك وسكاريا وبوك الجنوبي ودنيستر.
ومستوى مياه البحر الأسود مرتفع نسبيًا، ويستقبل مياهه العذبة من الأنهار والأمطار، ولا يتبادل المياه إلا مع البحر الأبيض المتوسط، وتحدث جميع تدفقات التيارات المائية الداخلة إليه والخارجة منه في مضيقي البوسفور والدردنيل.
ويتميز التدفق القادم من البحر الأبيض المتوسط بدرجة ملوحة وكثافة أعلى من التدفق الخارج من البحر الأسود، ويتم في قاع الحوض، بينما يحدث تدفق المياه العذبة للبحر الأسود إلى بحر مرمرة في الطبقات العليا قريبًا من السطح، لذلك وُصف البحر الأسود بأنه أكبر مسطح مائي به حوض ميروميكتي.
ولا تختلط المياه العميقة مع الطبقات العليا للمياه، وهذا يُحدث فرقًا كبيرًا في درجة الحرارة بين هذه الطبقات، كما يجعل أكثر من 90٪ من حجم الطبقات السفلية في البحر الأسود مياها ناقصة الأكسجين وغير نشطة، بينما تتميز مياهه السطحية بغناها بالأكسجين.
ويتراوح معدل ملوحة المياه السطحية بين 17 و18 جزءًا في الألف، أي ما يقرب من نصف درجة ملوحة المحيطات، وتحدث زيادة ملحوظة في الملوحة تصل إلى 21 جزءًا في الألف على أعماق تتراوح من 50 إلى 150 مترًا، وتزيد تدريجيًا حتى تبلغ في أعمق أجزاء البحر من 28 إلى 30 جزءًا في الألف.
الجُزر
ترتفع داخل البحر الأسود مساحات من اليابسة، أهمها شبه جزيرة القرم بالشمال، بالإضافة إلى جزر صغيرة، تصل إلى عشر جزر تقريبًا، تنتمي إلى الدول المحيطة بالبحر الأسود، وهي عبارة عن مستودع للحيوانات والنباتات التي تجعل هذا البحر أكثر تميزًا، وقد أصبحت هذه الجزر مناطق جذب سياحي مهمة، وكانت سببًا أساسيًا في اقتصاد المنطقة.
وأكبر الجزر: جزيرة الأفعى (Zmiinyi) وتقع شرق دلتا الدانوب، وتتبع أوكرانيا، ومن الجزر البارزة: جزيرة سانت توماس في بلغاريا، التي تشتهر بوجود ثعابين المياه الرمادية التي تأكل الأسماك، وجزيرتا: سانت سيريكوس وسانت أناستاسيا التابعتان لبلغاريا، وجزيرة جيرسون التركية، وجزيرة بيريزان الأوكرانية.
المناخ
يعدّ مناخ البحر الأسود غير الساحلي قاريًّا بشكل عام، حيث يخضع لتقلبات موسمية واضحة في درجات الحرارة، ويتّصف الجزء الشمالي الغربي منه بشتاء بارد وصيف حار جاف، ويتعرض لمنخفضات قاريّة قطبية، مصحوبة برياح شمالية شرقية قوية، وانخفاض سريع في درجات الحرارة، وهطول متكرر للأمطار.
ويتميز الجزء الجنوبي الشرقي المحمي بالجبال العالية بمناخ شبه استوائي رطب، مع هطول كبير للأمطار وشتاء دافئ.
ويبلغ متوسط درجة الحرارة في شهر يناير/كانون الثاني فوق الجزء المركزي من البحر حوالي 8 درجات مئوية، وينخفض إلى ما بين 2 و3 درجات مئوية في الغرب، بينما تقترب درجة الحرارة في الربيع من 16 درجة مئوية، وترتفع إلى حوالي 24 درجة مئوية في الصيف.
وتُسجَّل درجات الحرارة الدنيا في الشمال الغربي، بحيث إنها تصل إلى 30 درجة مئوية تحت الصفر خلال فترات البرد الشتوي، بينما تبلغ درجات الحرارة القصوى 37 درجة مئوية في القرم في فصل الصيف.
التسمية
أُطلق على البحر الأسود في العصور القديمة -غالبًا- اسم “هو بنطوس”، ويعني “البحر”، أما الإغريق فقد سموه “بنطس آكسينوس” (Pontus Axeinus)، أي البحر غير المضياف، وذلك لصعوبة الملاحة فيه، وربما ساعد في ذلك وجود قبائل “متوحشة” على شواطئه.
إضافة إلى الطبيعة غير المؤكسدة لمياهه، التي بسببها تكون عملية التحلل بطيئة في طبقات المياه السفلية، مما أدى إلى العديد من الشائعات المخيفة، وجعل البحر سيئ السمعة.
ومع إنشاء المستعمرات اليونانية على طول شواطئه، وتحوّل المنطقة لمكان نشط ومألوف، غُيّر اسمه على عكس التسمية السابقة، فأصبح يُعرف باسم “بونتوس أوكسينوس” (Pontus Euxinu) أي: البحر المضياف.
وفي فترات سيطرة الأتراك على الأراضي الواقعة خارج الشواطئ الجنوبية للبحر، واجهوا العواصف المفاجئة التي تضرب مياهه، والتي تبدو معها المياه مظلمة للغاية وسوداء، وتؤدي إلى صعوبة الإبحار فيه، فأطلقوا عليه اسم البحر الأسود (Karadenız) ليعكس من جديد الجانب غير المضياف لهذا البحر.
ويُذكر في وجه تسميته بالبحر الأسود كذلك، أن الأجسام المعدنية من السفن والنباتات الميتة والمواد الحيوانية التي غرقت على عمق أكثر من 150 مترًا، واستقرت لفترة طويلة من الزمن، أصبحت مغطّاة بطبقة من الحمأة السوداء، الناتجة عن التركيز العالي لكبريتيد الهيدروجين، مما يجعل لون المياه داكنًا، فأُطلق عليه البحر الأسود.
التاريخ الجيولوجي
لا يُعرف على وجه الدقة التاريخ الجيولوجي للبحر الأسود، ويُعتقد أنه حوض متبقٍّ من بحر تيثس القديم، الذي يرجع تاريخه إلى ما يقرب من 250 إلى 500 مليون سنة مضت، كما يُعتقد أن الشكل الحالي للبحر ظهر في نهاية حقبة الباليوسين (منذ حوالي 55 مليون سنة)، حيث أدّت التحركات واسعة النطاق لقشرة الأرض إلى رفع سلاسل الجبال، التي قسّمت محيط تيثيس القديم إلى أحواض مائية عدة، وتشكّلت بحيرة عظيمة، تشمل بقاياها البحر الأسود وبحر آزوف وبحر قزوين وبحر آرال.
وفي وقت مبكر من العصر الميوسيني (قبل حوالي 20 مليون سنة)، انفصل البحر الأسود تدريجيًا عن منطقة قزوين، مع ارتفاع جبال البونتيك والقوقاز والقرم والكاربات حوله، وحدثت بعد ذلك حركات أرضية، وتغيرات أخرى في مستوى سطح البحر مرتبطة بالأنهار الجليدية في العصر البليستوسيني، أدّت إلى اتصالات متقطعة مع البحر الأبيض المتوسط.
وخلال العصر الجليدي الأخير، أصبح البحر الأسود بحيرة كبيرة للمياه العذبة، ويُعتقد أن اتصاله بالبحر الأبيض المتوسط وبالمياه المالحة عبر مضيق البوسفور نشأ منذ حوالي 6500 إلى 7500 عام.
الحياة البيولوجية
لا تساعد طبقات المياه العميقة على الحياة البيولوجية، نظرًا لكثافتها العالية، وتشبعها بكبريتيد الهيدروجين، نتيجة تراكم المواد العضوية المتحلّلة على مدى آلاف السنين، وتستطيع الكائنات الحية من فئة: البروتوزوا والبكتيريا وبعض اللافقاريات متعددة الخلايا فقط، أن تعيش في مياه البحر العميقة.
بينما توفر الطبقة العليا الرقيقة من المياه البحرية (حتى 150 مترًا) بيئة مناسبة للحياة البيولوجية الفريدة في النظام البيئي للبحر الأسود، حيث يعيش ما يقارب 168 نوعًا من الأسماك، و4 أنواع من الثدييات البحرية.
وتتبع معظم الحياة النباتية والحيوانية في البحر الأسود للحياة البيولوجية للبحر الأبيض المتوسط، بينما توجد عناصر من بحر قزوين في مصبّات المياه العذبة ومصبات الأنهار.
ويتأثر النظام البيئي بالتأثيرات الخارجية، سواء بالأحداث الطبيعية؛ مثل: تقلبات العوامل البيئية، أو التأثيرات البشرية، كمصايد الأسماك والتلوث والتصنيع في المنطقة المحيطة، لذا وقّعت الدول الست المطلة على البحر الأسود اتفاقية “بوخارست” عام 1992، الهادفة لحماية البحر الأسود من التلوث، وحماية الحياة البحرية.
المواني
يعدّ البحر الأسود شريانًا مهمًا للنقل على مدار العام، ويربط الدول المشاطئة له بالأسواق العالمية، وتحظى كل دولة من الدول المطلّة على العديد من المواني المهمة على ساحله.
ففي أوكرانيا تشكّل أوديسا المدينة التاريخية الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي، الميناء البحري الرئيس والأكبر للبلاد، وهو عبارة عن مركز نقل بحري يتكوّن من 3 مواني: مجمع ميناء أوديسا، وميناء تشيرنومورسك (إيليتشيفسك سابقًا)، وميناء يوجني.
ويختصّ ميناء أوديسا بالنفط والمعادن، ويعدّ نقطة عبور رئيسة لصادرات الحبوب (الشعير والذرة)، بينما يختص ميناء إيليتشيفسك بالمعادن وحركة الحاويات، وميناء يوجني بالمواد الكيميائية، وفي الميناء الأخير ينتهي خط أنابيب الأمونيا الوحيد في العالم “تولياتي”، حيث يقع مجمع معالجة هذه المادة.
وتتم في هذه المواني معظم عمليات الشحن البحري، التي تبلغ حوالي 60٪ من إجمالي حركة البضائع عبر المواني البحرية الأوكرانية.
وترتبط الصناعات البترولية والكيميائية بخطوط أنابيب إستراتيجية تتجه إلى روسيا والاتحاد الأوروبي، كما يوفر الميناء عبّارات ركاب منتظمة إلى موانئ البحر الأسود وغيرها؛ مثل: إسطنبول وفارنا وحيفا.
وتعدّ مدينة خيرسون الموطن الرئيس لبناء السفن، ومركزًا أساسيًا للشحن البحري، وتحظى بأهمية ومكانة إستراتيجية كبيرة، كونها ميناء مهمًا يطلّ على البحر الأسود وبحر آزوف ونهر دنيبرو، ما يسمح بالاتصال جغرافيًّا بمناطق حيوية ومهمة.
وقد كانت منذ تأسيسها حصنًا لحماية الواجهة الروسية، وأول قاعدة بحرية روسية لبناء السفن على البحر الأسود، وبعد إعلان موسكو احتلالها في 2022 تحوّلت قاعدة “تشرنوبايفكا” الجوية في المدينة إلى نقطة تمركز للقوات الروسية.
ويُعد ميناء ماريوبول الذي يقع جنوب شرقي أوكرانيا أكبر مواني بحر آزوف، وكان قبل الأزمة الأوكرانية معبرًا رئيسًا لصادرات الدولة إلى مختلف دول العالم، بعد ميناء مدينة أوديسا، كما تشكّل المدينة مصدرًا رئيسًا لاستخراج وتصدير الحديد والفولاذ، وفيها مصنع “آزوف ستال”، أحد أكبر مصانع التعدين في أوروبا والعالم.
كما تتوافر روسيا على العديد من المواني على البحر الأسود، ويُعدّ ميناء نوفوروسيسك أكبرها، وهو الميناء الرئيس الذي يُصدَّر عبره النفط والحبوب الروسية وغيرها من المنتجات إلى البلدان في جميع أنحاء العالم، ويضم حوضًا لبناء السفن ومحطة لخطوط أنابيب النفط، وقاعدة بحرية روسية مهمة.
ومن المواني الروسية المهمة على البحر الأسود ميناء أنابا، الذي يوصف بأنه إحدى “جواهر البحر الأسود”، ويمتد بالقرب منه خط “تورك ستريم” لنقل الغاز الطبيعي إلى تركيا.
ويمتاز ميناء تامان بأهمية خاصة، حيث تُصدَّر عبره شحنات الغاز المُسال بطاقة تبلغ 20 مليون طن سنويًا، بالإضافة إلى ناقلات النفط الخام.
وتمثّل مدينة سوتشي أحد المواني المهمة على البحر الأسود، وهي أكبر مدينة سياحية في المنطقة، ويُطلق عليها اسم “الريفييرا الروسية”، وقد اشتهرت باستضافتها لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2014.
أما ميناء توابسي الذي يقع بالقرب من القاعدة البحرية الروسية في نوفوروسيسك، فيعرف بأهميته في نقل النفط.
وفي شبه جزيرة القرم التي تسيطر عليها روسيا منذ 2014، يُعدّ ميناء سيفاستوبول أهم المواني، وتغلب عليه النشاطات العسكرية، فهو مقر لأكبر أسطول روسي، وهو ميناء -كذلك- لنقل الركاب، حيث يستقبل حوالي مليون سائح كل عام، هذا بالإضافة إلى كونه مركزًا لتصدير البضائع المختلفة، بما فيها المعادن السائبة والأخشاب.
وعلى الساحل الغربي توجد مدينة كونستانتا الساحلية، أكبر ميناء في رومانيا، وأكبر ميناء بحري على البحر الأسود، ويربط المناطق المنتجة للنفط بالأسواق الخارجية، ويمثّل الشحن البحري القصير النشاط البحري الأسرع نموًا في رومانيا، ويتركّز في ميناء كونستانتا.
وتضم جورجيا كذلك العديد من المواني البحرية على طول ساحل البحر الأسود، أكبرها ميناء باتومي على الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الأسود، وهو أكبر ميناء للحاويات والشحن والعبّارات في جورجيا، ويتخصّص بنقل البترول.
وتُعدّ فارنا الواقعة في شرق بلغاريا (ثالث أكبر مدينة في البلاد) من المواني الرئيسة في بلغاريا، وتطورت من مستوطنة لصيد الأسماك على الساحل الغربي للبحر الأسود، إلى أكبر مجمع ميناء بحري، وأكبر منتجع في بلغاريا.
وفي تركيا فإن مدينة سامسون التي كانت مستعمرة يونانية سابقة، قد أصبحت أكبر ميناء تركي على البحر الأسود، وهو الميناء الوحيد -على هذا البحر- الذي يوجد به خط سكة حديد، كما يمثّل نقطة توقف الشحن القادم من وإلى الأناضول.
أما مدينة طرابزون فهي ميناء رئيس على البحر الأسود، ومركز تجاري على فرع من طريق الحرير التاريخي، ولا تزال تمثّل بوابة مهمة تربط بين الشرق والغرب.
الأهمية الإستراتيجية
مثّل البحر الأسود منطقة ذات أهمية إستراتيجية في العديد من الجوانب، لا سيما في الاقتصاد والتجارة والنقل، وقد كان عبر التاريخ ممرًا مائيًا على ملتقى طُرق العالم القديم، واستضاف على شواطئه عددًا لا يُحصى من الحضارات والقبائل، وشهد العديد من الصراعات والحروب بين كثير من الشعوب؛ كالإغريق والرومان والبيزنطيين والقوطيين وقبائل الهون والآفار والبلغار والصليبيين وشعب البندقية والتتار.
وكان ذات يوم بحرًا داخل الإمبراطورية العثمانية، ثم أصبح منطقة صدام بين ثلاث إمبراطوريات قديمة جديدة، من روسيا إلى تركيا وانتهاء بحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ويمثّل البحر الأسود لكلٍّ منها أهمية إستراتيجية وحيوية ومجالًا أساسيًا للنفوذ والهيمنة.
ويحتلّ البحر الأسود موقعا إستراتيجيًا بين جنوب شرقي أوروبا، ويمتد إلى روسيا وجورجيا نحو آسيا، وتطلّ عليه أربع دول أخرى؛ هي: تركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا، ويرتبط بالبحار والمحيطات الدافئة عبر مضيق البوسفور.
ويكتسب بذلك أهمية (جيوستراتيجية) للدول المطلّة عليه، فهو همزة الوصل لتلك الدول بالعالم الخارجي، وهو رابط مهم بين موانيها والبحر الأبيض المتوسط، ويوفر فضاء للنقل وعبور السفن التجارية والبضائع والسلع.
ويمثّل البحر الأسود منفذًا مهمًا للحبوب الغذائية على المستوى العالمي، حيث إن روسيا وأوكرانيا هما أهم مصدّري القمح في العالم بربع النسبة العالمية، فمواني أوديسا وبيفديني -على سبيل المثال- تصدّر شحنات كبيرة عبر البحر الأسود، نحو أوروبا وأفريقيا.
وقد شكّلت أزمة أوكرانيا تهديدًا كبيرًا للأمن الغذائي في العالم، فمع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وحصار المواني التي يصدّر منها الحبوب في أوديسا وخيرسون وماريوبول، وقصف المنشآت فيها، بدأ العالم أجمع يستشعر التبعات الاقتصادية لنقص إمدادات القمح العالمية وارتفاع تكلفة استيراده.
إضافة إلى ذلك، فقد أظهرت الأزمة أن البحر الأسود لا يشكّل منفذًا تجاريًا لهذه الدول فقط؛ بل ساحة للتنافس -أيضًا- فيما بينها للوصول بشكل أكبر إلى العالم الخارجي، ولذا تتزايد الأهمية الإستراتيجية له بالنسبة إلى هذه الدول؛ لأن أي تهديد له يعني فرض نوع من أنواع الحصار والعزلة عليها.
كما يتمتع البحر الأسود بأهمية (جيوسياسية) كبيرة بالنسبة للقوى الكبرى ومصالحها، فهو يعدّ طريقًا مهمًا لتصدير الطاقة من آسيا نحو أوروبا، حيث تشكّل منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى منطقة مهمة في إمدادات الطاقة العالمية، لِما تحتوي عليه من كميات كبيرة من النفط والغاز.
وتعدّ روسيا أول مُصدِّر للطاقة نحو أوروبا، وهو ما يجعل البحر الأسود منطقة عبور بحري طاقوي، وتتوزّع أنابيب نقل الغاز في المنطقة؛ منها: أنبوب بلوستريم، الذي يمر عبر البحر الأسود نحو تركيا، ثم بلغاريا واليونان وإيطاليا.
وتستورد كل من بلغاريا ورومانيا مواردها النفطية عبر المواني الساحلية في البحر الأسود، وفي الجهة الغربية للبحر تُستورد كميات كبيرة من النفط عبر مضيق البوسفور، قادمة من البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يجعل الاعتماد كبيرًا على النقل البحري لتسديد هذه الحاجيات.
وتحتوي مياه البحر الأسود على كميات كبيرة من النفط، ويأتي تصديره من ثلاث محطات من: روسيا وكازاخستان وأذربيجان، بحوالي 1.8 مليون برميل يوميًا.
أهمية إسترتيجية لروسيا
يمثّل البحر الأسود أهمية خاصة لروسيا، فلطالما عدّته منطقة إستراتيجية، تهيئ لها الوصول إلى المياه الدافئة، حيث البحر المتوسط وما وراءه، لتصدير سلعها الرئيسة من النفط والغاز والقمح، وحماية روابطها الاقتصادية والتجارية مع الأسواق الأوروبية.
وكذلك أصبح البحر منفذًا مهمًا يساعدها على الالتفاف، وتخفيف تأثير العزلة الغربية المفروضة عليها، فقد رفعت عملية الفصل الاقتصادي بين روسيا ودول أوروبا -خاصة بعد تعطيل خطوط أنابيب نورد ستريم- أهمية البحر الأسود بالنسبة إلى روسيا، كونه أحد الممرات الجغرافية الاقتصادية الرئيسة لها في الأسواق العالمية.
كما تستخدم روسيا البحر الأسود لأغراض عسكرية، حيث تعتمد على قواعدها فيه، التي يقع كثير منها في شبه جزيرة القرم، لشنّ عمليات عسكرية بعيدة كما في سوريا.
وقد حرصت روسيا على الإبقاء على قاعدتها العسكرية في سيفاستوبول في القرم، وهي أهم قاعدة بحرية روسية في البحر الأسود، وقد كانت مدينة سيفاستوبول لقرون عدة الميناء الرئيس لأسطولها.
ومنذ 2008 أخذت موسكو تحتفظ بوجود عسكري كبير في منطقة أبخازيا المطلة على البحر، التي تمتدّ لمئات الأميال على ساحل البحر الأسود. وقد أسهم ذلك في أن أصبحت أبخازيا دولة مستقلة ومؤيدة لروسيا.
وسيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم في 2014، وبهذا أصبحت القوة المهيمنة على البحر الأسود ومنافذه نحو بحر آزوف عبر مضيق كيرتش، ونحو البحر الأبيض المتوسط عبر مضيق البوسفور.
ويأتي التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 بذريعة حفظ الأمن الروسي القومي، الذي يهدف لمنع توسع حلف الناتو شرقًا، ودعم التوازن الإستراتيجي في البحر الأسود، ومنعه من التحول بشكل حاسم لصالح الناتو في حال انضمام أوكرانيا له.
وهذه الأهمية الإستراتيجية للبحر الأسود جعلته مجالًا حيويًا تتنافس فيه القوى الكبرى، خاصة روسيا والولايات المتحدة الأميركية، مع انخراط القوى الإقليمية الأوروبية والآسيوية في صراع النفوذ عليه.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.