مثّل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002 المرة الأولى التي تحكم فيها تركيا حكومة ذات أغلبية برلمانية، منهية بذلك نزيفا من الحكومات الائتلافية العاجزة دام 4 عقود في الفترة بين 1960 و2002 ووصل عددها إلى 57 حكومة، أي بواقع واحدة كل 8 أشهر اتسمت بالفساد الإداري والعنف السياسي والركود الاقتصادي وتدني الخدمات العامة.
لم يكن الزائر لتركيا من دول الجوار يشعر بأنه يخرج من دولة نامية إلى أخرى متقدمة، بل إن العديد من الحواضر العربية كانت أكثر تنظيما، وجامعاتها لم تترك لإسطنبول أو أنقرة فرصة لجذب الشباب العرب للدراسة فيهما، ثم تبدل كل شيء في زمن قصير بعد مجيء حزب العدالة والتنمية، إذ دخلت تركيا مضمار تحطيم الأرقام القياسية لتصبح النموذج الإداري والاجتماعي والصناعي والأكاديمي والخدمي، الإقليمي والعالمي.
أضحى “العدالة والتنمية” حزبا وصل إلى الحكم من خلال صندوق الانتخاب وتتعذر إزاحته بواسطة الصندوق، لاعتقاد الأغلبية بأن سقوطه يعني عودة تركيا إلى حقبة الحكومات الائتلافية وتوقف عجلة النهوض وتراجع المجتمع المدني الذي اصطبغت به خلال العقدين الماضيين لصالح التيارات الطائفية والإرهابية التي تحالفت مع المعارضة في الانتخابات وتهدد استقرار الدولة.
وكان الشعب التركي قد نزل بكامل طيفه إلى الشوارع في 2016، لصد محاولة الانقلاب العسكري ودفاعا عن الدولة وعن النظام السياسي رغم اختلافاتهم الفكرية، وعاد في 14 مايو/أيار 2023 فقدم انتخاب حزب العدالة والتنمية على أزمات الاقتصاد والزلزال والهجرة، مما يشي بأن سلامة الدولة كانت هي محور الانتخابات وليست الخدمات التي لا يزال الناخب يعتقد أن “العدالة والتنمية” هو الأوفى لوعوده بشأنها ولو بعد حين، لكن هذه الظاهرة لم تكن كاسحة.
حكم حزب العدالة والتنمية تركيا عبر حكومة أغلبية يوحدها المنطلق والغاية معا، والتي تتيح عملية الإصلاح الإستراتيجي والهيكلي الذي تحتاجه البلاد بصورة ماسة، واعتمد النظام الهرمي للحكومات المركزية، واخترقت مؤسساته جميع شرائح المجتمع، واختط لنفسه خطابا سياسيا اتسع للجميع، فركب الجميع في قطاره وولّد للمرة الأولى منذ عام 1918 شعورا وطنيا بالأمل فجّر الطاقة الإرادية والإدارية لتركيا الجديدة، وتفانى الأتراك من أجل نهضة بلادهم حتى غدت دولتهم قوة محلية وإقليمية وقارية.
أمام هذه الصورة يصبح العمل السياسي -الذي تفرقه المنطلقات وتوحده الغاية (تقويض دعائم النظام السياسي)، والذي يتخذ تشكيلات أفقية ويستخدم الخطاب الطائفي- لونا من ألوان المليشيات التي تتضاد مع فكرة الدولة حتى إن لم تظهر تلك المليشيات بالزي المرقط وبندقية الكلاشنكوف.
وقد تعرض حزب العدالة والتنمية لهجمات متعددة لإقصائه عن الحكم تقع خارج أنظمة الدولة، منها:
- محاولة الانقلاب البيئي (غيزي بارك) في مايو/أيار 2013، فقد خرجت مظاهرات عارمة بالمدن التركية على خلفية قطع أشجار في حديقة غيزي بارك في إسطنبول والإضرار بالبيئة.
- محاولة الانقلاب القضائي في ديسمبر/كانون الأول 2013، وتمثلت في محاولة تكبيل رأس الحكومة (رجب طيب أردوغان) بتهم فساد إداري ومحاكمته قادتها “مليشيات قضائية” داخل مؤسسة القضاء وأخرى داخل جهاز الشرطة على علاقة بتنظيم فتح الله غولن وقوى علمانية.
- محاولة الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2016 والتي نفذتها عناصر في الجيش على علاقة مع تنظيم فتح الله غولن.
- الانقلاب الاقتصادي: التلاعب بسعر صرف الليرة التركية وسحب رؤوس الأموال الذي تقوده مافيات مال محلية ودولية.
- وأخيرا انقلاب الطاولة السداسية: ائتلاف من الأحزاب السياسية التي تختلف على كل شيء ويجمعها شيء واحد هو إسقاط النظام السياسي.
كل واحدة من هذه المحاولات عرّضت النظام السياسي للخطر، ووضعت تركيا من جديد على تماس مع الفراغ الذي ردمته حكومة العدالة والتنمية قبل عقدين، وهذه المحاولات حاضرة في الانتخابات، وتجتذب الناخب تحت شعارات مختلفة.
وقد قال محلل تركي “إن من العيب أن ينتخب قائد عظيم رفع بلاده إلى مصاف الدول العظمى كأردوغان بنسبة 49.5%”.
في تركيا خزين سياسي واجتماعي حريص على سلامة الدولة ظهر في أجلى صوره في الدفاع عن الدولة بوجه محاولة الانقلاب العسكري في 2016 وملبيا نداء النظام السياسي الذي يتفق معه ويختلف، وهذه معادلة ثمينة في كيان الدولة.
مفهوم الانقلاب في تركيا مقترن تقليديا بالجيش ومظهر الدبابة، لكن وسائل الانقلاب تعددت اليوم، ومنها غير المرئية (وسائل التواصل الاجتماعي)، وحيث إن الأمور بمقاصدها لا بوسائلها فتكون الدولة هي الفصل في الحكم على الأحزاب.
هذا المفهوم غير بارز بدرجة كافية في الانتخابات التركية، ولا يمكن أن ترهن تركيا نهضتها ومكانتها العالمية بانتخابات هشة تحسمها كسور عشرية، فالخزين السياسي والاجتماعي قادر على حسم الانتخابات لصالح الدولة حينما يرى أنها على المحك، وهي كذلك، وحزب العدالة والتنمية -الذي استطاع إعادة تعريف مفهوم التنمية وركب الشعب في قطاره- قادر على تجديد مفهوم الدولة الذي سيخدم الأمن القومي والإقليمي، وبين أيدي تركيا أوراق مهمة لهذه المهمة.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.