الجزائر – على إيقاع الوعي المدني الذي غرسته الحركة الوطنية، ترعرع محيي الدين بشطارزي (1897-1986) ليصير قائدا لمشهد ثقافي ناشئ، واستخدم الموسيقى ثم المسرح وسيلة للتواصل ورفع الوعي، مستغلا كل الأحداث السياسية التي مرت بها الجزائر، في أحد أصعب النضالات الاستعمارية.
بدأ مسيرته منشدا للمدائح الدينية بالمساجد ومقرئا للقرآن الكريم، لكنه غيّر مساره ليكون مغني أوبرا، ثم ممثلا وكاتبا ومخرجا مسرحيا مميزا.
قبل أن يعتلي بشطارزي خشبة المسرح الذي أرسى دعائمه رفقة علي سلالي (علالو) (1902-1992) ورشيد قسنطيني (1887-1944)، مرت مسيرة الرجل بمحطات هامة صقلت موهبته وشخصيته.
البدايات والمنعطف
في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 1897 أبصر محيي الدين بشطارزي النور في حي القصبة العتيق بالعاصمة، وتتلمذ في الجامع الجديد.
في الـ18 من عمره، لفت بشطارزي انتباه المفتي العام حسن بوقندورة بأدائه وقوة صوته الجهوري، فانضم إلى فرقة المديح والإنشاد الديني الملقبة بـ”القصادين”، ليبلغ بعد 3 أعوام رتبة مقام كبير المقرئين.
لاحقا لعبت الصدفة دورها حيث تعرف بشطارزي على إدمون يافيل المختص في موسيقى “الصنعة” ومعلمه الثاني الذي سيعبّد له الطريق نحو الخشبة من خلال نقله من المديح الديني إلى أداء الطابع الغنائي العربي والأندلسي بعد انضمامه إلى الجمعية الموسيقية “المطربية”.
اصطدمت هذه الخطوة بمعارضة شديدة من أستاذه وعائلته المحافظة، لكن بشطارزي مضى في طريقه.
لقاء المطربية
يقول بشطارزي في مذكراته “بالغناء وصلت إلى الخشبة، والخشبة هي التي دفعتني إلى المسرح الذي تغلغل بداخلي حتى العمق”.
كان للقائه بالسيد علي سلالي (علالو) في الجمعية الأثر الكبير في تحول مسيرته لاحقا، وكانت البداية باختيار قاعة سينما “تريانون” مكانًا لعرض “إسكتشات” (عروض) فكاهية لمدة لا تتعدى 25 دقيقة.
في البداية، كانت العروض التي يقدمها بشطارزي ورفاقه عملا ارتجاليا لا يرقى إلى مسرح الهواة، لكنها شكلت بداية التواصل مع الجزائريين والتحدث إليهم عبر الفكاهة باللهجة العامية، عبر استلهام شخصية من التراث الشعبي لينتقل بعدها إلى الفضاء العام بمناسبة الأعياد الدينية وتناول مواضيع عن الآفات الاجتماعية.
من هنا بدأ التكوين الجنيني للمسرح الجزائري، حيث سيتشكل الفوج الأول للمسرح الذي سيقدم عرضا مسرحيا خالصا باللغة العربية لمسرحية “في سبيل الوطن” يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 1922 على خشبة الكورسال.
رغم نقص الجمهور، فإن بشطارزي حقق لاحقا بعض ما كان يتطلع إليه عبر عروض مسرحية “جحا” عام 1926.
ظل منشغلا بالموسيقى والغناء حتى دخل عالم التأليف المسرحي بمسرحية “جهلاء مدعون العلم” في 1932 لتكون انطلاقة مسيرته الفنية بعد أن أدرك محدودية الموسيقى كوسيلة للتواصل في السياق الاستعماري.
واصل بشطارزي التمثيل، وقدم عددا من العروض منها “فاقو” (1934) و”على النيف” (1934)، و”بني وي وي” (1935)، و”الخداعين” (1937) و”الكذابين” (1938) و”ما ينفع غير الصح” (1938).
يقول البروفيسور أحسن تليلاني أستاذ المسرح بجامعة سكيكدة للجزيرة نت إن لبشطارزي دورا كبيرا في “إرساء قواعد المسرح واستنبات هذا الفن في التربة الجزائرية، لأنه كان يملك فرقة جاب بها المدن الجزائرية”.
مسرح مقاوم
كان للحرب العالمية الأولى (1914-1918) دور مهم في نضج الحركة الوطنية الجزائرية التي نشأ المسرح الجزائري في أحضانها وتشبّع بقيمها، التي بادرت بنشرها نخبة وطنية على رأسها بشطارزي الذي يعود له الفضل في إطلاق “المقاومة الثقافية” للحفاظ على الشخصية الجزائرية.
يقول الباحث في الثقافة والاتصال مخلوف بوكروح، في تصريح للجزيرة نت، إن المسرح اعتبر سلاح مقاومة ودفاع عن الهوية تحت الاحتلال، لافتا إلى أن ذلك “يتجلى في مضامين المسرحيات وطرق وأشكال تعبيرها ولغتها وموقفها من الأحداث التي عاشتها الجزائر، ونشاط بشطارزي يندرج ضمن هذا التوجه”.
حققت عروض بشطارزي المسرحية الكثير من النجاح، مما جعل الرقابة تزداد خاصة حين اشتمت السلطة الاستعمارية من بعض العروض المسرحية، لا سيما “على النيف” و”بني وي وي”، حسًّا ثوريا ودعوة إلى المقاومة، حتى جاء عرض مسرحية “الخداعين” الذي أدى إلى إعـلان الحاكم لوبو (في أبريل/نيسان 1937) عن إيقاف الجولات المسرحية لفرقة بشطارزي.
ويقدر الأكاديمي الراحل رشيد بن شنب في كتاباته أن “الالتزام السياسي بالنسبة لبشطارزي ليس عملا هامشيا، بل خيارا يحدد طريقة رؤيته للمسرح حيث يمكن للجزائري أن يكتشف صدى مخاوفه وتطلعاته”.
أما البروفيسور أحسن تليلاني صاحب كتاب “المسرح الجزائري في ظلال الحركة الوطنية” فيصف مسرح بشطارزي بالمسرح “المقاوم بصفة غير مباشرة عن طريق توظيف التراث الشعبي الجزائري لإبراز الهوية العربية الإسلامية، معتبرا استخدام اللغة العربية الفصحى ملمحا من ملامح المقاومة”.
واعتبر تليلاني أن بشطارزي لم يكن مقاوما بشكل صريح، لكنه دافع عن هوية الشعب الجزائري، واقتبس مواضيع من التاريخ الإسلامي، لافتا إلى أن الرجل قدّم “مسرحا شعبيا يلبي طموحات الجزائريين في ذلك الوقت رغم أنه كان كوميديا سوداء”.
الأب الروحي
يعد محيي الدين بشطارزي أحد الأقطاب المؤسسين للحركة المسرحية الجزائرية، حيث لم يكتف بالتأليف المسرحي والتمثيل والإخراج والغناء، بل وضع أسس المؤسسة المسرحية الجزائرية.
ألّف بشطارزي أزيد من 50 مسرحية ما بين 1932 و1955، وأنشأ في عام 1947 فرقة المسرح العربي بدار الأوبرا.
يؤكد عميد المسرح الجزائري طه الأميري أن “آباء المسرح الجزائري هم علالو الذي اعتزل المسرح سنة 1932، ورشيد قسنطيني ومحيي الدين بشطارزي”، معتبرا أن هذا الأخير هو “الأب الروحي الذي لولاه لما وجدت فرق فنية جزائرية”.
ويصف أحسن تليلاني مسرح بشطارزي بالأكثر ثقافة، وأنه مسرح جزائري كلاسيكي يتسم بالاستمرارية، وبالنظر إلى تجربة علالو وقسنطيني، فإن تجربته المسرحية عمرت أكثر ورصيدها أكبر.
كان بشطارزي غزير الإنتاج وكثيف الحضور على الخشبة ولفت الأنظار ببراعته في تقمّص الأدوار، كما ساهم في اكتشاف العديد من المواهب من أمثال المطرب الهاشمي قروابي والممثلين حسن الحساني ورويشد وكلثوم وعبد الحليم رايس.
يقول الأستاذ مخلوف بوكروح إن اسهام بشطارزي في الحركة المسرحية يظل أساسيا بالنظر لتعدد مواهبه، إذ لم يقف نشاطه عند الكتابة والتمثيل والإخراج والغناء، بل تعداه إلى إنشاء فرق مسرحية عديدة وتكوين جيل من المبدعين، كما ترك تراثا مسرحيا هائلا.
بعد مسيرة غزيرة في خدمة الثقافة الوطنية إبان الاحتلال وبعد الاستقلال، توفي محيي الدين بشطارزي في السادس من فبراير/شباط 1986 ليبقى مبنى المسرح الوطني الجزائري يحمل اسمه تخليدا لمسيرة حافلة خدمة للثقافة والحفاظ على الهوية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.