رام الله – “صندوق من التفاح الأحمر وبدلة عسكرية” هي كل ذكريات الصحفي الفلسطيني مُلكي سليمان عن والده الذي غاب عام 1967 حيث التحق بقتال الاحتلال في حرب 1967، وفُقدت آثاره حتى اليوم. كان عمر مُلكي سليمان وقتها 4 سنوات، وكان أصغر إخوته الستة.
ورغم سنوات الفقدان الطويلة، فإن مُلكي لا يزال يبحث عن والده استجابة لوصية والدته، التي توفيت وهي تؤكد لأبنائها أنه لا يزال على قيد الحياة. ويقول الابن الأصغر “كل ما نريده بعد هذه السنوات أن نعرف مصيره، فاحتمالات أن يكون على قيد الحياة ضئيلة بعد 56 عاما”.
التحق الأب محمود سليمان العوري، وكان عمره 33 عاما، بالقوات العربية قبل اندلاع الحرب في يونيو/حزيران 1967 بأيام، وبعد نداءات للجنود بالاستعداد.
ورغم معاناته من إصابة سابقة، فإنه ودّع عائلته وغادر قريته “بيت عور التحتا” غربي رام الله والتحق بكتيبة “الحسين الأولى” في الجيش الأردني، وكان مقرها في منطقة “النبي يعقوب” شرقي القدس المحتلة.
كان غيابه عن العائلة، التي نزحت إلى الأردن في الأيام الأولى للحرب، عاديا. ولكن ما إن انتهى القتال حتى بدأت العائلة بالبحث عنه دون أن تجد له اسما بين الشهداء أو الجرحى.
بعد أشهر أوقفت الجهات الرسمية والحقوقية البحث عن الشاب الذي بات يُعرف باسم “محمود العوري”، ولكن بالنسبة لعائلته بقي الأمل بالكشف عن مصيره وخاصة أنها تلقت روايات متناقضة من أشخاص عدة عن مصيره.
يقول ابنه مُلكي، الذي وثق رحلة البحث عن مصير والده محمود في رواية حملت اسم “رقم وشهيد”: في بداية التسعينيات وصلتنا أنباء عن دفنه ومجموعة من المقاتلين في بلدة بيت حنينا شمالي القدس بعد أن قصفهم الجيش الإسرائيلي وقتلهم جميعا، وقبلها أنه استشهد مع مجموعة من المقاتلين في منطقة جبل المكبّر قرب القدس أيضا، وسبقتها روايات أخرى عن إصابته.
قائمة غير نهائية
سُجّل اسم محمود العوري ضمن قائمة المفقودين الفلسطينيين الذين يرفض الاحتلال الإسرائيلي حتى الآن الاعتراف بهم أو تقديم أي معلومات عنهم. ويبلغ عددهم، بحسب “الحملة الوطنية لاستعادة جثث الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين”، 75 مفقودا من الفلسطينيين والعرب.
وبينما يحيي الفلسطينيون “اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين” يوم 27 أغسطس/آب من كل عام، يقول منسق الحملة حسين شجاعية إن التقديرات تشير إلى أن عدد الفلسطينيين المفقودين أكبر من الذي تمكنّت الحملة من توثيقه منذ تأسيسها في العام 2008، خاصة أنها لا تزال تتلقى بلاغات جديدة عن مفقودين قدامى وجدد، آخرهم حالة شاب من مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية، قبل أشهر.
وحسب شجاعية، في حديثه للجزيرة نت، ما يؤيد وجود أعداد غير موثقة من المفقودين أن “ما تسمى مقابر الأرقام التي أنشأتها إسرائيل لاحتجاز جثامين المقاتلين الفلسطينيين، تحوي قبورا بأعداد أكبر بكثير من الشهداء المحتجزة جثامينهم، مما يرجح أنها قد تضم رفاة وجثامين المفقودين”.
ويتقاطع ملف المفقودين حديثا ومنذ عقود مع ملف جثث الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال الذين يتجاوز عددهم 140 شهيدا منذ ما عرف بـ”انتفاضة القدس” عام 2016، إلى جانب 256 جثة احتجزتها إسرائيل منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005) وما قبلها.
ويقول شجاعية “على سبيل المثال كان الشهيد الفلسطيني ناصر البوز أحد المفقودين بحسب بلاغ عائلته عام 1989، ولكن خلال العام 2012 عندما قررت إسرائيل تسليم عشرات الجثامين والرفاة للسلطة الفلسطينية وضعت اسم البوز من بينهم”.
غير أنه حينما استلمت العائلة الجثمان لدفنه أصرّت والدته على أنه ليس ابنها، مما استدعى إجراء تحاليل الحمض النووي “دي إن إيه” لتصدُق كلام الوالدة، فتم دفنه مع رفاة مجموعة من الشهداء المجهولي الهوية، وبقي مصير ناصر غير معروف.
وأكد شجاعية أن من بين المفقودين مقاومين من دول عربية فُقدوا خلال محاولاتهم تنفيذ عمليات مقاومة أو أثناء التسلسل عبر الحدود الفلسطينية، وخاصة من لبنان وسوريا ومصر.
الاحتلال لا يعترف بهم
ويرفض الاحتلال تقديم معلومات عن هؤلاء المفقودين، كما يقول محامي الحملة محمد أبو سنينة، مما عرقل عملها في محاولة الكشف عن مصير عشرات الأسماء الذين بلّغت عنهم عائلاتهم منذ تأسيس الحملة وحتى الآن.
وتابع أبو سنينة للجزيرة نت “نتوجه بعد تلقينا أي بلاغ من العائلات بشأن فقدان أبنائهم إلى الاحتلال الذي لا يقدم لنا شيئا عادة، مما يضطرنا لتقديم التماسات بشأن ذلك إلى المحكمة الإسرائيلية العليا”.
وغالبا لا تؤدي المعلومات التي تحصل عليها الحملة إلى نتيجة. يقول أبو سنينة “في السابق كان الاحتلال يدفن جثامين الشهداء بطريقة عشوائية ومن دون توثيق أسمائهم، مما خلق خلطا بين المحتجزين والمفقودين، إلى جانب أن الاحتلال قام بتسليم أكثر من جثمان غير معروف الهوية، وقد يكون بينهم من هو مسجل ضمن المفقودين”.
وبعيدا عن توثيق الحملة، لا تزال عائلات فلسطينية كثيرة لا تعرف مصير أبنائها، ومحمد الحويطي البدوي (27 عاما) من مخيم جنين واحد منهم.
فقدت آثار محمد البدوي خلال الاجتياح الإسرائيلي مخيم جنين عام 2002، وباءت مساعي عائلته الحثيثة للكشف عن مصيره أو العثور على جثمانه بالفشل، كما يقول شقيقه راتب للجزيرة نت.
يتابع راتب البدوي “حسبما وصلنا، فقد شوهد محمد آخر مرة وهو مصاب ليس بعيدا عن قوات الاحتلال، وفي رواية أخرى قال لنا أحد المعتقلين إنه اعتقل لدى الاحتلال، ولكن بعد 21 عاما لا نزال لا نعرف مصيره، شهيدا أم أسيرا”.
وبحسب راتب، فقد قاتل شقيقه محمد خلال الاجتياح، وفي اليوم الرابع أصيب في رجله واحتمى بمنزل أحد أصدقائه، وهناك فُقد.
ورغم أن الكثيرين اعتبروا محمد، كما غيره من المفقودين في المعركة، شهداء فُقدت جثامينهم تحت الركام، فإن والدة محمد كان لديها الأمل في إيجاده على قيد الحياة، وحتى وفاتها خلال اجتياح جنين الأخير (4 يوليو/تموز 2023)، كانت توصي أشقاءه بالبحث عنه ودفنه في حال تأكد استشهاده، بجانب شقيقه الذي استشهد لاحقا.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.