قبل نشوب حرب أكتوبر 1973 بعدة أشهر لم يكن موعد الحرب قد حُدِّد بعد، وقد حرص الرئيس المصري حينها “محمد أنور السادات” على إشاعة بعض الأخبار عن عدم وجود أي نية مصرية للدخول في حرب تحرير شاملة مع القوات الصهيونية المتمركزة في شبه جزيرة سيناء، وفي ذلك الوقت تحديدا أخبر شيخ الأزهر “عبد الحليم محمود” السادات بأنه رأى في المنام أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعبر قناة السويس رفقة علماء المسلمين والجيش المصري، وهي رؤيا اعتبرها الإمام بشرى للظفر، واقترح على السادات أن يتخذ قرار الحرب مطمئنا بتحقيق النصر.
تعطي هذه القصة التي لا يمكننا التأكد بشكل مستقل من دقتها، والتي تداولها عدد من الصحف المصرية نقلا عن بعض معاصري الشيخ، ملمحا واحدا عن الشيخ عبد الحليم محمود الذي تولى مشيخة الأزهر في الفترة بين مارس/أذار 1973 وحتى وفاته عام 1978، وهو ملمح الشيخ “العارف”، ذلك الذي لُقب بـ”أبي المتصوفين”. وقد وصلت شهرة الإمام الآفاق، ووصل نفوذه درجة غير مسبوقة، حتى إن الملوك والرؤساء سارعوا لتلبية دعوته، ودُعي لإلقاء محاضرة بمبنى الأمم المتحدة في مدينة نيويورك عام 1977، ولكن على الجهة المقابلة هناك صورة مختلفة عن الإمام عبد الحليم محمود الذي تجاوزت علاقته بالنظام تبشيره بنصر أكتوبر، وانطوت على الكثير من الصدامات في السنوات اللاحقة، ما دفع بالبعض إلى اعتباره شيخا إسلاميا “محافظا”، لا سيما بسبب موقفه من قانون الأحوال الشخصية.
بيد أن كلتا الصورتين السابقتين تتجاهلان المشروع الحقيقي للإمام عبد الحليم محمود، فقد قاد الشيخ من منصبه بمشيخة الأزهر هجوما حادا، ليس فقط على صلب الدولة المصرية وأساسها وهو “القانون الوضعي”، بل على الثقافة الغربية كلها التي توغَّلت في مصر أكثر فأكثر في أثناء عصر الانفتاح الذي دشَّنه السادات منذ عام 1974، وقد استعان الإمام بالعديد من الخبراء والقانونيين وأعضاء من البرلمان المصري لتقديم مشروع متكامل لتطبيق الشريعة الإسلامية بدلا من القوانين الوضعية، ولكن رغم ما تمتع به الإمام من نفوذ جعله يقف نِدا لرئيس الجمهورية في بعض الأحيان، الذي تراجع مرتين أمام الإمام، لم يتحقق من مشروعه شيء في نهاية المطاف سوى تعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، وذلك بعد وفاته بسنة ونصف.
غير أن المشروع الذي قدَّمه الإمام سرعان ما أثر تأثيرا بالغا على السجال حول “تطبيق الشريعة”، إذ انهالت الدعوات والضغوط على النظام المصري وحكوماته ونظامه القضائي منذ ثمانينيات القرن الماضي لتطبيق الشريعة، فمَن يكون إذن الشيخ عبد الحليم محمود؟ وما المشروع الذي هدف به إلى تغيير الدولة المصرية وهيكلها القانوني؟ ولماذا فشل مشروعه لـ “أسلمة الدولة” في نهاية المطاف؟
التخلص من قيود الستينيات
تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر بعد عقد ونيف من صدور قانون الأزهر سنة 1961، والذي نسف فعليا استقلالية علماء الأزهر في المجتمع المصري، وغلَّ يد الأزهر في إدارة شؤونه لصالح وزارة الأوقاف، وهو أمر اعترض عليه شيخ الأزهر حينذاك “محمود شلتوت”، الذي تتلمذ عبد الحليم محمود على يديه وتأثر به، وقد أدى اعتراض شلتوت على القانون إلى وقوع صدام عنيف بينه وبين تلميذه الدكتور “محمد البهي”، الذي تولَّى منصب وزارة الأوقاف حينها، ورغم ذلك الصدام فقد فشلت كل محاولات شلتوت لاسترداد سلطاته أو استرجاع استقلال الأزهر.
كان الشيخ عبد الحليم محمود شاهدا على تلك الأحداث، وعلى التغيرات الهائلة التي لحقت بمؤسسة الأزهر، إذ كان وقتها قد انتقل من منصب أستاذ مادة علم النفس بكلية اللغة العربية إلى منصب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين التي سيصبح عميدا لها عام 1964، وقد التغييرات التي شهدتها مؤسسة الأزهر في ستينيات القرن الماضي ما ذهب إليه الشيخ عبد الحليم محمود في مذكرته التي كتبها عام 1945 بعد عودته من فرنسا بعنوان “الأزهر في طور الاحتضار”، والتي اجتمع لأجلها المجلس الأعلى للأزهر في 28 يناير/كانون الثاني 1945، مقررا حينها إحالة الشيخ عبد الحليم للتحقيق.(1)
غير أن المذكرة والتحقيق لم يؤثرا في مسيرة الشيخ، فبعد 4 سنوات فقط من ترقيته إلى منصب عميد كلية أصول الدين عُيِّن أمينا عامّا لمَجمَع البحوث الإسلامية الذي أُسِّس عام 1961 ليحل محل هيئة كبار العلماء، لكن المجمع لم يستطع أن يقوم بدوره، وظل نشاطه محدودا ومبهما، وبعد تولي الشيخ عبد الحليم محمود أمانة مجمع البحوث أعاد تكوين جهازه الفني والإداري والأكاديمي، كما جهزه بمكتبة علمية ضخمة استغل في تكوينها صداقاته وصلاته بكبار المؤلفين والباحثين، وفي عهده عُقِد مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، وتوالى انعقاده بانتظام، كما أقنع الشيخ المسؤولين بتخصيص قطعة أرض فسيحة بمدينة نصر كي تضم المجمع وأجهزته العلمية والإدارية.(2)
لكن كل ذلك لم يكن إلا تمهيدا للنقلة الأهم التي قام بها الشيخ، وهي إعادة دور العلماء والشريعة في المجتمع، فقد بدأ بتشكيل لجان هدفها استخلاص تقنينات مُستمَدة من المذاهب الأربعة الأساسية للشريعة الإسلامية، لتكون بمثابة الخطوة الأولى لوضع مشروع “دستور إسلامي”، وقد استعان الشيخ في ذلك بكبار العلماء ورجال القانون، كما أسهم في تأسيس إذاعة القرآن الكريم عام 1964، وكان ضيفا منتظما على برنامج “حديث الصباح”، وهو أول برنامج تبثه الإذاعة، ورغم كونه برنامجا قصيرا لم تزد مدته على 7 دقائق، فإنه حفَّز علماء الأزهر وقتها على إلقاء محاضرات قصيرة ومبسطة عبر الأثير، وعندما عُيِّن الشيخ عبد الحليم وكيلا للأزهر أولى عنايته لمكتبة الأزهر الكبرى ولإعادة إعمار المساجد وترميمها، ونظرا لنشاطه وشهرته تولَّى الشيخ وزارة الأوقاف عام 1971، ما مكَّنه من تخليص الأزهر نهائيا من قيود قانون الأزهر الذي وضعه النظام الناصري، تمهيدا لمشروعه المعني بأسلمة الدولة والمجتمع.
الأزهر من الاحتضار إلى الازدهار
بعد تعيين الشيخ عبد الحليم وزيرا للأوقاف خصَّص الأموال اللازمة لبناء مساجد ومؤسسات دينية وتعليمية جديدة، وسمح تغيُّر بوصلة النظام في مصر تحت حكم السادات للشيخ أن يقود حملة تبرعات ضخمة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، خصوصا في المملكة العربية السعودية التي تبرَّعت بـ3 ملايين دولار، وذكر البروفيسور “يورام ميتال” في دراسة له أن الملك فيصل قدَّم عام 1971 مبلغا أكبر لحملة الشيخ محمود ضد الشيوعية والإلحاد، واستُثمِر هذا المبلغ في توسيع الحرم الجامعي للأزهر وفروعه في جميع أنحاء مصر، بجانب زيادة رواتب العاملين وتحسين الخدمات بمباني الأزهر ومؤسساته، ولذلك عندما تولى الشيخ عبد الحليم مشيخة الأزهر في مارس/آذار 1973 كان الوضع المالي للأزهر في أحسن أحواله، ما سمح له بفتح مدارس ابتدائية وثانوية لقطاعات جديدة من المجتمع، وبالأخص في صعيد مصر، وفي عهده قفز عدد المؤسسات التعليمية الأولية الأزهرية من 212 إلى 1273، ووصل عدد الطلاب إلى 89744، وبفضل تلك المدارس الجديدة تجاوز عدد الطلاب المقيدين بالأزهر 300 ألف طالب بحلول مطلع الثمانينيات.(3)
آمن الشيخ، مثله مثل الشيخ “محمد عبده”، الذي تتلمذ محمود على يد تلاميذه أمثال الشيخ “مصطفى المراغي” والشيخ “إبراهيم الجبالي”، بأهمية العلوم العصرية وضرورة إدماجها في نظام التعليم الأزهري، وكان الشيخ على صلة قوية بالمجال العلمي والثقافي الحديث والغربي، لا سيَّما بعد عودته من باريس إثر رحلة امتدت ثماني سنوات بين عامَي 1932-1940، حصل خلالها على الدكتوراه في جامعة السوربون، وقد أشرف المستشرق الفرنسي الشهير “لويس ماسينيون” على أطروحته عن إمام السائرين الفقيه الصوفي “الحارث بن أسد بن عبد الله المحاسبي البصري”، ولم يكن الشيخ عبد الحليم محمود منعزلا عن المجتمع الثقافي بالقاهرة، بل كان على علاقة جيدة بالواقع الثقافي المصري، وكتب في العديد من المجلات الثقافية، بل تولَّى ترجمة قصة خيال علمي عن الفرنسية من رواية “وازن الأرواح” التي ألَّفها “أندريه موروا” عام 1946، ونشرها دار الكتاب المصري وكان على علاقة جيدة بطه حسين.(4)
في الوقت نفسه كان الشيخ محمود على علاقة جيدة بجمعية الشبان المسلمين، وواظب على محاضرات الدكتور “أحمد محمد الغمراوي” فيها، كما تردد على جمعية الهداية الإسلامية برئاسة الإمام “محمد الخضر حسين”، وكذلك تعرَّف إلى الأستاذ “محمد فريد وجدي” الذي تصدَّى وقتها لنزعات الإلحاد والمادية، ومع تلك العلاقات المتعددة والوثيقة بالوسط الثقافي المصري كان عبد الحليم محمود عضوا بالطريقة الشاذلية الصوفية، وشارك في اجتماعاتها ومؤتمراتها وطقوسها، الأمر الذي ترك أثرا واضحا في فكره ورؤيته للحياة.
هذا الجمع بين الثقافة والتصوف والقيم الإسلامية والمشاعر الوطنية جعله يقترب كثيرا من مفهوم الوطنية عند “حسن البنا”، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، كما يجادل يورام ميتال، إذ أعاد الشيخ في كتاباته ومحاضراته تعريف الهوية الوطنية تعريفا إسلاميا لا يتنافى مع “الإيمان”، بل يجعل الإيمان أساس الوطنية، وقدَّم الشيخ عبد الحليم محمود تعريفا نقديا للحداثة، متأثرا في ذلك بعدد من أساتذته، وأهمهم الشيخ “حامد حسن”، والشيخ “سليمان نوار”، والدكتور “محمد عبد الله دراز”، والشيخ “محمد عبد اللطيف دراز”، والشيخ “الزنكلوني”، فقد صادق الشيخ محمود على “المعرفة العلمانية” الحديثة عبر تعريفها كونها جزءا من تراث الإسلام، غير أن هذه المعرفة وجب أن تبقى تحت توجيه القيم الإسلامية التي تشكل أساس نظام المعرفة الشامل، وفقا لرؤيته.(5)
غير أن هذا النظام الشامل للإسلام، حسب توصيف الشيخ محمود، لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل دولة إسلامية تخضع لـ”شريعة الله”، ومن ثَم ففي أثناء توليه منصب وزير الأوقاف ونائب الإمام الأكبر للأزهر دعا الشيخ عبد الحليم القيادة السياسية لإعادة تأسيس مصر لتصبح دولة إسلامية، مؤكدا أن الظروف السائدة في مصر كانت مهيأة لهذه الخطوة آنذاك، وفي فتوى بعنوان “في حُكم الدولة المسلمة التي لا تحكم بالقرآن وحُكم الشعب التابع لتلك الحكومة” كتب الشيخ: “والواقع أن الدول الإسلامية في الفترة الماضية كانت مُكبَّلة بأغلال الاستعمار، وكان أهلها مغلوبين على أنفسهم، وفرض عليهم الاستعمار قوانين لا تمت إلى دينهم بصلة، وفرض عليهم نُظُما اجتماعية غربية، فلم يتمكنوا من التشريع لأنفسهم، ولكن الأمم الإسلامية الآن والحمد لله قد نفضت رجس الاستعمار عن كاهلها وأصبحت تحكم نفسها بنفسها، ومن أجل ذلك بدأ المصلحون فيها ينادون بالرجوع إلى جَوِّهم الروحي وبيئتهم الدينية”.(5)
كتب الشيخ عبد الحليم محمود تلك الكلمات قبل التصديق على الدستور المصري الجديد في 11 سبتمبر 1971، لذلك جاءت لهجته متفائلة، غير أن ثقة الشيخ بتحقيق رؤيته حول تطبيق الشريعة الإسلامية سرعان ما خفتت، وحلَّ محلها نقد صريح للنظام المصري ورئيسه وبرلمانه، بل توالت دعوات ورسائل الإمام لتطبيق الشريعة، ثم تحولت دعواته إلى تحذيرات من غرق المجتمع المصري في السلوكيات المادية والاستغلالية وعموم الفساد وتفكُّك المجتمع، حتى وقع الصدام بينه وبين النظام في نهاية المطاف.
طريق الصدامات
في أبريل/نيسان 1974 احتلت جماعة مسلحة كلية “الفنية العسكرية” كجزء من مخطط للاستيلاء على السلطة وقلب نظام الحُكم، ورغم فشل المخطط، سبَّبت الحادثة هزة قوية لنظام السادات الذي واجه لأول مرة محاولة انقلاب من هذا النوع، وبهدف تحجيم التيار الديني أصدر السادات مرسوما في يوليو/تموز 1974 كي يضع حدا لنفوذ الأزهر، حيث أعطى جميع صلاحيات شيخ الأزهر إلى وزير الأوقاف، لكن المرسوم تسبَّب في أزمة حادة، إذ قدَّم الشيخ عبد الحليم محمود استقالته من المشيخة اعتراضا، ما أثار موجة عارمة من النقاشات المعارضة لقرار السادات، بل رفع بعض أنصار الشيخ دعوى قضائية ضد السادات ووزير الأوقاف لإلغاء المرسوم، وقد أُجبِر السادات على التراجع عن قراره في النهاية، لكن الشيخ رفض العودة(5)، وبعد توسط عدد من الشخصيات، ودعوة السادات الشيخ للقائه، اشترط الشيخ أن يكون شيخ الأزهر بدرجة نائب رئيس الجمهورية، فوافق السادات، وبذلك حظي الشيخ عبد الحليم بنفوذ غير مسبوق، واستغله في تحقيق مشروعه الذي دعا إليه منذ توليه وزارة الأوقاف (تطبيق الشريعة الإسلامية).
كان الواقع السياسي للسبعينيات بعيدا عن كل ما سعى الشيخ عبد الحليم لتحقيقه، ففي عصر الانفتاح الذي دشنه السادات امتلأت القاهرة تدريجيا بالفنادق والملاهي الليلية وغرقت الأسواق بالخمور، وامتد أثر تلك التحولات إلى البرلمان الذي سعى بعض أعضائه لسَن قوانين ترخيص “كازينوهات القمار” وتنظيم بيع الخمور، الأمر الذي انبرى له الشيخ، مُناشِدا الشخصيات العامة في البرلمان والحكومة أن تمارس سلطاتهما الشرعية لمنع تلك “المُحرَّمات”، وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية، و”منع تسلُّل الأعراف العلمانية إلى المجتمع”.(6)
في ذلك الوقت حدث ما جعل السنوات الباقية من عمر الإمام الأكبر عبد الحليم محمود سنوات صدام ومناكفة مع النظام المصري والرئيس، بل ومع زوجة الرئيس “جيهان السادات”، إذ اقترحت وزيرة الشؤون الاجتماعية حينها “عائشة راتب” في 26 مارس 1974 مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية، ووقفت وراء اقتراحها أصوات عديدة بالبرلمان والوزارة، كما سعت “جيهان السادات” نفسها بدأب لتمرير مشروع القانون المقترح عبر البرلمان.
احتوى القانون المثير للجدل عدة بنود اعتبرها الشيخ عبد الحليم وعلماء الأزهر تخالف صراحة الشريعة الإسلامية، على رأسها عدم إمكانية تطليق الزوج زوجته إلا أمام قاضٍ يحاول الإصلاح بين الطرفين، وحظر تعدُّد الزوجات دون موافقة القاضي، الذي ينبغي عليه أن يحقق في وجود تسويغ مقنع، وفي مدى قدرة الرجل على تحقيق متطلبات تعدُّد الزوجات، كما وضع القانون قيودا على حضانة الآباء لأطفالهم بعد الطلاق.
رأى الشيخ محمود في القانون الجديد محض تطاول واعتداء جديد على الشريعة الإسلامية أولا، ثم على منصبه شيخا للأزهر، لذا ترأس ائتلافا من كبار الشخصيات الدينية لإجهاض هذه المبادرة، رغم رعايتها من قِبل زوجة الرئيس، وقد استخدم الشيخ نفوذ مكتب شيخ الأزهر في هذه المواجهة، حيث أصدر 68 فتوى شرعية عن قانون الأحوال الشخصية، و29 فتوى عن الواجبات الشرعية للزوجة المسلمة تجاه عائلتها ومجتمعها، وكان جوهر حُجة الإمام أن مصادر القانون الحالي محسومة وغير قابلة للجدل، ونظرا لأن الشريعة تستند على القرآن الكريم والسُّنة النبوية وتفسيرات المذاهب الأربعة فإن أي تعديل للقانون يجب أن يمر بمراحل الاجتهاد ثم النقاش والتداول بين العلماء، حيث رأى الإمام الأكبر أن البرلمان يفتقر إلى المعرفة اللازمة بالشريعة الإسلامية كي يضع قانونا في هذا الشأن، ومن ثَم توجَّب أن يكون مجال الأحوال الشخصية وقيم الأسرة من اختصاص الأزهر حصرا.(6)
رغم استمرار النقاش حول القانون لم يتوقف الشيخ محمود عند قانون الأحوال الشخصية، بل بدأ في استخدام سلاح الفتاوى للضغط العلني والمباشر من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، وفي فتوى طويلة على غير العادة تحدَّى شيخ الأزهر علنا الرئيس والحزب الحاكم عندما أوضح الفجوة الهائلة بين الشعارات السياسية للقيادة “دولة العلم والإيمان” و”الرئيس المؤمن”، والواقع الاجتماعي والقانوني، فقد وجَّه الإمام رسالة مفتوحة إلى رئيس البرلمان المصري بعنوان “من الإمام الأكبر إلى رئيس مجلس الشعب ورئيس مجلس الوزراء” نُشرت في مجلة الأزهر في أغسطس/آب 1976، ودعا الشيخ فيها إلى إلغاء التشريعات العلمانية، وانتقد النظام القانوني الوضعي كله قائلا: “إن النظام الذي تسير عليه كليات الحقوق هو النظام نفسه الذي فرضه الاستعمار، وقد زال هذا الاستعمار، فكان على هذه الكليات، وهي مشهورة بالتحرر، أن تتحرر من آثار الاستعمار، وأن تعيد النظر في مناهجها وبرامجها التي تعلن أن الاستعمار باقٍ في زاوية من أخطر زوايا المجتمع، وهي زاوية القضاء والعدالة”.(6)
في سياق مشابه، دخل الشيخ عبد الحليم محمود في مواجهة مع البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، إثر اقتراح البابا تأليف كتب دينية موحدة للطلبة المسلمين والمسيحيين تدرس فيها القيم الأخلاقية المشتركة، وتكون بديلا للتربية الدينية، وحينما الدكتور مصطفى حلمي وزير التربية والتعليم آنذاك الإمام الأكبر ليستطلع رأيه في الأمر غضب غضبا شديدا وهدد بالاستقالة، ما تسبب في وأد الاقتراح مبكرا.
بناء على تلك الدعوات التي أطلقها الشيخ محمود قدَّم النائب الدكتور “إسماعيل معتوق” في فبراير/ شباط عام 1976 مشروع قانون لتعديل 56 بندا في قانون العقوبات، كي تتفق مع الشريعة الإسلامية، وشمل إصلاح معتوق بتر يد السارق، وجلد المواطنين المدانين بارتكاب سلوكيات غير أخلاقية (من النوع الجنسي)، والشنق أو الرجم حتى الموت لمرتكبي الزنا من المتزوجين والقتلة والمرتدِّين عن الإسلام، ولكن مناقشة القانون بالبرلمان المصري وقتها لم تزد على المزايدات الخطابية، ما دفع الشيخ عبد الحليم إلى إرسال خطاب حاد اللهجة إلى رئيس مجلس الشعب حينها “سيد مرعي” ورئيس الاتحاد الاشتراكي يدعوهما إلى أن يُصادِقا فورا على مشروع القانون، إذ إن “تشريعات الإسلام لا يمكن أن تخضع لمداولات الديمقراطية”، كما أوضح الإمام أن قانون “معتوق” يمثل التطلعات الأصلية للشعب المصري.
وفاة الشيخ ونهاية الملحمة
نشرت “مجلة الأزهر” في عدد أغسطس/آب 1976 رسالة مفتوحة من الشيخ عبد الحليم محمود إلى رئيس البرلمان ورئيس الوزراء كرَّر فيها موقفه حول الشريعة الإسلامية قائلا: “شعبنا الذي يخشى الله اختار العقيدة الإسلامية، وأي أضرار لحقت بالفقه الإسلامي تقع مباشرة تحت مسؤولية المؤسسات القضائية الإسلامية وتحت مسؤولية أي شخص لديه القدرة على تنفيذ أوامر الله تعالى، ولا يحق لأي إنسان استخدام سلطته في حالة وجود نص شرعي أو أن يرفع صوته فوق صوت النبي، لقد تابعنا المداولات التي جرت في البرلمان بشأن بيع الخمر، وصُدِمنا بالكلام الذي قرأناه حول هذه المسألة، بالرغم من وجود دليل ثابت من القرآن، ثم صُدِمنا برؤية اقتراح لحظر ممارسة القمار بعُملة معينة والسماح به بعُملة أخرى، وبالإضافة إلى ذلك تابعنا ما تنشره الصحف، ورأينا كيف تُنشر قصص كاذبة تزعم بأن الفقه الإسلامي كان صالحا لعصر تاريخي محدد فقط، لقد أكد الأزهر دائما أن أولئك النواب الذين يدعون للمساواة والحرية والكرامة والعدالة والمعرفة والثقافة والأخلاق في البرلمان سوف يأثمون حين يتعمدون معارضة تطبيق شريعة الله”.
أسفرت الحملة التي قادها الشيخ ومَن معه من علماء وشخصيات إسلامية، أبرزهم الشيخ “صلاح أبو إسماعيل”، عن تراجع جديد للسادات، ففي 10 أغسطس/آب 1976 استلم البرلمان مشروع قانون مُنقَّح للأحوال الشخصية حُذِفت منه معظم البنود التي وردت في اقتراح “عائشة راتب”، وبرغم هذه الهزيمة رفض “اللوبي الليبرالي” الاستسلام، فبعد نحو عام ونصف أصدر الرئيس مرسوما تضمن توسيع قدرة المرأة على طلب الطلاق، ووضع بعض القيود على تعدد الزوجات، ومن ثَم أُثير النقاش والجدل مرة أخرى حول قانون الأحوال الشخصية، لكن هذه المرة تغيَّرت الظروف، ففي نهاية ذلك العام، وتحديدا في يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 1978، تُوفِّي الشيخ عبد الحليم محمود بسبب مضاعفات عملية جراحية، وحضر جنازته أكثر من 50 ألف مصري من شتى التوجُّهات الفِكرية.(6)
رغم ما بذله الإمام من جهود في محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية، لم تسفر كل تلك الجهود إلا عن تغيير المادة الثانية من الدستور المصري في 22 مايو/أيار 1980، أي بعد وفاة الشيخ بعام ونصف، فأصبح “الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع”، لكن الشيخ ترك وراءه إرثا علميا ضخما ومسيرة سياسية سار على نهجها كثيرون بعده، فقد بلغت مؤلفاته نحو 100 كتاب تأليفا وتحقيقا وترجمة، وقد ألَّف عديدا من الكتب في التصوف والسيرة النبوية، وله أيضا عدة مؤلفات في الأخلاق والفلسفة الإسلامية واليونانية، وقد رثاه عديد من العلماء والشخصيات حول العالم، منهم الأستاذ “مصطفى أمين” الذي كتب: “عرفت المغفور له الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر شجاعا لا يخاف، جريئا لا يتردد، عشت معه كثيرا من أزماته، رأيته يصطدم بالحكومات ويرفض أن يتراجع، ويقول رأيه ولا يهمه إذا أرضى أو أغضب، وكانت له آراء لا أوافق عليها، لكنني كنت أحب فيه أنه لا ينحني ولا ينثني، وكان شديد الاعتزاز بكرامته، وكان يقول إنه قادر أن يتواضع بشخصه، لكن المركز الديني الذي يشغله لا يستطيع أن يتواضع”.
————————————————————————————
المصادر
1- الدكتور عبد الحليم محمود الشيخ الأنور في الزمن الأزهر
2- محيي الدين الطعمي، النور الأبهر في طبقات شيوخ الجامع الأزهر، بيروت: دار الجيل، 1412هـ/1992م.
3- الشيخ عبد الحليم محمود يتحدى السادات ويستعيد استقلال الأزهر، البروفيسور يورام ميتال، نُشر ضمن كتاب “الأزهر والسياسة” تحرير البروفيسور مليكة الزغل.
4- تقى خالد عبد القادر، المنهج الصوفي في فكر الإمام عبد الحليم محمود: الملامح والخطوات، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة قناة السويس، العدد 2 (28)، ص320-340.
5- عبد الحليم محمود، الحمد لله هذه حياتي، القاهرة: دار المعارف، 1421هـ/2001م.
6- الشيخ عبد الحليم محمود يتحدى السادات ويستعيد استقلال الأزهر، البروفيسور يورام ميتال، نُشر ضمن كتاب “الأزهر والسياسة” تحرير البروفيسور مليكة الزغل.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.