“بحلول القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري كان المسلمون قطعوا المواصلات بين فرنسا وإيطاليا، واحتلوا جميع مضايق جبال الألب، فصار مرور الناس عائدا إلى إذنهم. وفي سنة 911م/290هـ كان رئيس أساقفة أربونة (ناربون الفرنسية) يريد السفر إلى روما لمهم مستعجل، فلم يقدر على السفر خوفا من العرب، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يمرّ بدون أن يأخذوا منه رسما معلوما”.
(شكيب أرسلان نقلا عن المؤرخ الفرنسي رينو في كتابه “غارات العرب على فرنسا”)
لم يكن العثمانيون أول المسلمين الذين وطئت أقدامهم أوروبا عامة، والبلقان خاصة، وهم يفتتحون بلدانها طوال القرون التاسع والعاشر والحادي عشر الهجري/الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، فقد سبقهم بثمانية قرون موسى بن نصير وطارق بن زياد حين فتحوا الأندلس، وأخضعوه بين أعوام 92-97هـ، حتى بلغت جيوشهم جبال البرانس أو البرانييه على الحدود الإسبانية الفرنسية اليوم، وقد أخضع موسى معظم القوط سكان إسبانيا الأقدمين لسلطة الإسلام، إلا فئة قليلة اعتصمت بالجبال النائية في منطقة جليقية في أقصى الشمال الغربي من الأندلس، وأصبحت مع الزمن عامل هدم لوجود الإسلام والقضاء على المسلمين.
لقد بلغت سنابك خيل موسى بن نصير قلب فرنسا حين دخل ليون “لوطون” وبدأت سلسلة من المواجهات كان يطمح من خلالها موسى أن يفتتح المسلمون أوروبا كلها من الغرب ويخترقونها حتى القسطنطينية (إسطنبول) ومنها إلى آسيا الصغرى ثم إلى دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية ليوحد الإسلام من الشمال كما توحد من الجنوب [1].
الوجود الإسلامي في فرنسا وإيطاليا وسويسرا
ويكشف محمد عبد الله عنان [2] أن سياسة الإحجام التي كان عليها البيت الأموي في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان في ذلك العهد هي التي قطعت آمال موسى وأجبرته على العودة من الأندلس كلية إلى دمشق وعدم الرجوع إلى الأندلس مرة أخرى أبدا، ولكن حلم إخضاع أوروبا تحت سيادة الإسلام لم يكن ليغيب عن قادة المسلمين في الأندلس في ذلك الحين، وكان أشهرهم عبد الرحمن الغافقي قائد الأندلس الذي أعاد توحيدها من بعد تشرذم، وشرع في مهاجمة بلاد الفرنج، أي فرنسا، حتى استولى على برشلونة وأربونة وليون وطولوز إلى أن بلغت قواته بواتييه جنوب باريس في وسط فرنسا، فقابلته جيوش أوروبا بقيادة “قارلة” كما تسميه المصادر العربية، وهو القائد الفرنجي شارل مارتل، وهنالك انهزم المسلمون، واستُشهد عبد الرحمن، وارتدّت جموعهم إلى الوراء من بعد ما بلغت قواتهم مناطق جنوب ووسط فرنسا، ومناطق مهمة شمال إيطاليا وسويسرا أيضا.
وهذا الأمر يكشفه أمير البيان العربي شكيب أرسلان في كتابه “تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وجزائر البحر المتوسط”، معتمدا فيه على المصادر العربية والمصادر اللاتينية وأبحاث المستشرقين الفرنسيين والألمان الذين أكدوا هذه الحقيقة، وأن المسلمين الذين يسميهم الغربيون بـ”السراسنة” و”السراكينوس” أي الوثنيين، وهو ما سيتطور فيما بعد ليصبح علما على المسلمين وعلى الإسماعيلية، وهم إسماعيلية آخرون بخلاف الشيعة!
يؤكد المستشرق الفرنسي رينو في كتابه “غارات العرب على فرنسا ومن فرنسا على سافواي وبيمونت وسويسرة في القرن الثامن والتاسع والعاشر من الميلاد بحسب روايات المؤرخين المسيحيين والمسلمين” أن وجود الإسلام في فرنسا لم يكن لفترة محدودة مرتبطة بعمليات الاجتياح العسكري فقط، بل بقي جانب كبير من فرنسا وإيطاليا وسويسرا ميدانا لوجود العرب لفترة أطول مما نعتقد، وهو يحدد بدقة أماكن وجودهم في “سافواي” و”بيمونت” و”سويسرة”، ومنها سيطروا على أمنع الحصون في قلب أوروبا، وذلك من خليج “سان تروييس” إلى بحيرة “كونستانزة”، ومن نهر الرون وجبال “جورا” إلى سهول جبل “فرّات” و”لومبارديه” شمال إيطاليا، ومما لا جدال فيه أن تذكار الغزوات العربية في هذه الديار لم يكن بدون تأثير في الحملات الصليبية وفي هذه الحركة العامة التي هيّجت أوروبا على آسيا وأفريقيا، “ووضعت أصحاب الإنجيل في وجه أصحاب القرآن مدة قرون مستطيلة”[3] كما يصف شكيب أرسلان.
ولنا أن نعرف أنه بحلول القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري كان المسلمون “قطعوا المواصلات بين فرنسا وإيطاليا، واحتلوا جميع مضايق جبال الألب، فصار مرور الناس عائدا إلى إذنهم. وفي سنة 911م/290هـ كان رئيس أساقفة أربونة (ناربون الفرنسية) يريد السفر إلى روما لمهم مستعجل، فلم يقدر على السفر خوفا من العرب، وكانوا لا يسمحون لأحد أن يمرّ بدون أن يأخذوا منه رسما معلوما”[4]، ويتناول أرسلان في كتابه نقلا عن المصادر الغربية بلوغ العرب والمسلمين إلى عُمق الديار الأوروبية في ذلك الحين، واستقرارهم في هذه المناطق، وتهديدهم لأمن الدول والإمارات الإيطالية والفرنسية والسويسرية.
ولئن هجم المسلمون على إيطاليا الشمالية وفرنسا من ناحية الأندلس سواء في أزمنة الأمويين في المشرق أو في دولة الأمويين في الأندلس، فقد عرفت إيطاليا الجنوبية هجمات المسلمين من البحر المتوسط، وهم القادمون من دولة الأغالبة في أفريقية في تونس وشمال أفريقيا، حيث تمكن القاضي أسد بن الفرات بحلول العقد الثاني من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي من ضم صقلية للأغالبة والعباسيين من ورائهم، ونزلت قوات المسلمين فيما بعد إلى الجنوب الإيطالي فتمكنوا من إنشاء بعض الإمارات العربية والإسلامية فيها مثل إمارة “باري”.
وفي القرن الثالث عشر الميلادي وبعدما أعاد النورمانديون السيطرة على صقلية وجنوب إيطاليا، استعان ملوكهم بالمسلمين في حروبهم ضد أعدائهم، وأرسلوا أعدادا وافرة منهم لتأسيس مستوطنة قريبة من نابولي اسمها “مستوطنة لوشيرة”، وهي المستوطنة التي كتب عنها المؤرخ الإيطالي بيترو إيجيدي كتابه “مستوطنة لوشيرة الإسلامية وسقوطها” (1220-1300)، وأثبت في هذا الكتاب وجود المسلمين في هذه المناطق من إيطاليا، وانخراطهم في الزراعة والصناعة وتقديم الخدمات العسكرية للإمبراطورية الرومانية، وإمداد المناطق القريبة منهم مثل نابولي بالقمح عالي الجودة، ولا شك أن هذا الوجود الإسلامي في إيطاليا شماليها وجنوبها قد أحدث صدى كبيرا في وسط أوروبا.
الإسماعيلية السُّنة!
في غضون ذلك، تحديدا في العصر العباسي في حدود عام 309هـ/921م، أرسل ملك الصقالبة والبلغار في روسيا “يلطوار” أو “فلاديمير” رسالة إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله يعلن فيها إسلامه، ويطلب منه إمداده بالعلاج والغذاء والفقهاء الذين يعلمونهم شرائع الإسلام، ويعينونه على بناء حصن يتقي فيه هجمات أعدائه الأقربين المتربصين به، وعيّن الخليفة لهذه المهمة سفيره الفقيه أحمد بن فضلان بن العباس الذي كتبَ رسالة بجميع التفاصيل التي عاينها في بلاد روسيا وبلغاريا والصقالبة سكان البلقان الشمالي، وقد مكث ابن فضلان شهورا متطاولة فيما بينهم، ولا شك أنه عمل فيها على الدعوة إلى الإسلام، وتعليمهم شرائعه، وقد بلغت أصداء هذه الدعوة مناطق أخرى من قلب القارة الأوروبية كما يبدو.
ذلك أن الأوروبيين أطلقوا على فئة سكنت بين ظهرانيهم في شرق أوروبا لقب “الإسماعيلية”، وهم السراسنة أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام من العرب المستعربة ساكني شمال الجزيرة العربية، ولكنهم أطلقوها فيما بعد على المسلمين عموما، وهو إطلاق لا يُقصد به الإسماعيلية الشيعة التي تُنسب إلى الإمام السابع من أئمتهم إسماعيل بن جعفر الصادق، ولكن هذه الإسماعيلية الأوروبية كانوا من السُّنة الحنفية الذين سكنوا في بلاد المجر خلال العصور الوسطى، وكانوا من البلغار والمجريين والترك على السواء، ولكنها انقرضت فيما بعد لقلة عددها واندماجها التدريجي بين المجريين، بالإضافة إلى الاضطهاد والقمع الذي وقع عليها من ملوك المجر المسيحيين وإرغامهم على الارتداد إلى المسيحية.
ظهرت هذه الطائفة من المسلمين الباشقرد أو البلغار الذين عاشوا في المجر زمن أسرة أرباد المالكة (896-1301م)، وهم أجداد الباشقرد الذين هاجروا إلى روسيا فيما بعد ولهم دويلة فيدرالية فيها اليوم تُسمى “جمهورية باشكورتوستان”، ويذكر الجغرافي أبو الفداء عنهم أنهم “تُركٌ جاوروا اللمانيين (الألمان)، وهم مسلمون من جهة فقيه تركماني بصّرهم بشرائع الإسلام”. ويزيد القلقشندي على ذلك بأن “غالبهم نصارى، وفيهم مسلمون، وفي باشقرد قاضٍ مُسلم معتبر”[5].
وقد عمل هؤلاء المسلمون في بلاد المجر “لهُنكر” أعمالا مختلفة، وكثير منهم مارس التجارة، بل ومارسوا الجندية حتى ولي كثير منهم حراسة قلعة بشت، أحد الجزأين اللذين تتكون منهما بودابست عاصمة المجر الحالية، وفي الحملة التي بعثها ملك المجر جيزا الثاني (1141-1161م) لمساعدة الإمبراطور الروماني فردريك بارباروسيا عام 1161م يقول إن عدد جنود الإسماعيلية المسلمين الأحناف الذين ضُموا إلى هذه الحملة بلغوا نحو أكثر من 500 جندي. غير أن مسلمي المجر تعرضوا لضغط الملوك النصارى وإرهابهم، لا سيما في زمن الملك لاديسلاس الأول (1077-1095م)، إذ أصدر أمره إليهم باعتناق المسيحية، ورغم ذلك ظلّ أغلبهم يُخفي إسلامه، وخشي الملك المجري كولومان (1095-1114م) من ازدياد الإسماعيلية في بلاده، فأمر على أثر تولّيه للعرش بألا يزيد الإسماعيلية في كل قرية من القرى التي يُقيمون فيها بأطراف المجر الجنوبية على النصف من سكان القرية، ثم أجبرهم على تزويج بناتهم من المسيحيين[6].
واللافت أن الجغرافي اللامع ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) قد التقى بجماعة من هؤلاء المسلمين الباشقرد “شُقر الشعور والوجوه جدا” كما يصفهم ممن جاءوا إلى مدينة حلب في عام 624هـ/1226م، وقد عرف منهم قدومهم وتحملهم المشاق لتعلّم الفقه الحنفي، فسأل رجلا منهم رأى فيه عقلا وعلما بالعربية عن بلادهم وأحوالهم، فأجاب: “أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من الإفرنج يقال لهم الهنكر (المجر Hungarian)، ونحن مسلمون رعية لملكهم في طرف بلاده نحو ثلاثين قرية، كل واحدة تكاد أن تكون بُليدة، إلا أن ملك الهنكر لا يمكّننا أن نعمل على شيء منها سورا خوفا من أن نَعصي عليه، ونحن في وسط بلاد النصرانية، فشماليّنا بلاد الصقالبة، وقبليّنا بلاد البابا يعني رومية، والبابا رئيس الإفرنج، هو عندهم نائب المسيح، كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين، ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم، قال: وفي غربيّنا الأندلس، وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها، قال: ولسانُنا لسان الإفرنج وزيّنا زيهم ونخدم معهم في الجندية، ونغزو معهم كل طائفة لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام”[7].
ولما أدرك ياقوت الحموي وهو رجل بارع في الجغرافيا ملم بتاريخ الشعوب في زمنه، لا سيما جغرافيا العالم الإسلامي، أدرك أن هؤلاء قوم يحيط بهم المسيحيون من كل جانب، سأله مستفسرا “عن سبب إسلامهم مع كونهم في وسط بلاد الكفر؟ فقال: سمعتُ جماعة من أسلافنا يتحدّثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار، وسكنوا بيننا وتلطّفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال، وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام، فهدانا الله، والحمد لله، فأسلمنا جميعا وشرح الله صدورنا للإيمان، ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقّه، فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم، فسألتُه: لم تحلِقون لحاكم (جمع لحِية) كما تفعل الإفرنج؟ فقال: يحلقها منا المتجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج، أما غيرهم فلا، قلتُ: فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم؟ فقال: من ها هنا إلى القسطنطينية نحو شهرين ونصف، ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك”[8].
وإذا أمعنا النظر في هذه الرواية التي يسوقها ياقوت وتؤكد أن إسلام هؤلاء المجريين كان على يد البلغار منذ زمن طويل قبل بدايات القرن السابع الهجري حيث التقى بهم ياقوت في عام 624هـ/1227م، فإننا نرجح أن الدعاة الذين قدموا من البلغار نحو باشقرد والمجر ربما كانوا ممن أسلم على يد السفير والفقيه العباسي ابن فضلان أو من جاء بعده من الدعاة والفقهاء المسلمين إلى بلغاريا وبلاد الروس، ولهذا السبب شرعوا في نشر الدعوة في الأمم القريبة منهم، حتى نجحت دعوتهم بين طائفة من المجريين أسلموا، فأطلق عليهم أهل البلاد “الإسماعيلية”.
وهكذا عرفت أوروبا شرقها وغربها الإسلام قبل مجيء العثمانيين بقرون متطاولة، وكان الفضل في هذه الدعوة عائدا إلى الجهود الكبيرة التي قام عليها الأمويون والعباسيون من بعدهم، ثم تطوع عامة المسلمين ممن اخترقوا هذه الأرجاء الفسيحة من العالم الغامض لهم، حتى تمكنوا من نشر الإسلام وسط بيئة مسيحية خالصة، وهذا أمر غريب ومدهش في الوقت عينه!
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.