قد يراودك شعور خفي وغير مؤكد أنك لست مرتاحا في حضرة شخص ما، صديق أو مدير أو حتى فرد من عائلتك، لكنك عاجز عن تحديد السبب بالضبط، أو قد يكون السبب غاية في الوضوح لكنك لا تعرف له اسما. من السهل تمييز الأذى والإساءة الجسدية، تحديدها والإشارة إليها وإيجاد المفردات المناسبة لوصفها، لكن مع الإساءة العاطفية الأمر غامض وصعب، تَرْتَبك وتخاف، تتردد، تسأل أصدقاءك إن كنتَ قد أسأتَ فهم ما حدث، تبحث عن أي قشة تنقذك من الغرق في بحر هذا الشك. لذا، في هذا الدليل سأعرّفكَ على أشكال الإساءة العاطفية، علاماتها وإشاراتها وكيف تتحرر منها سواء في العلاقات الأسرية أو العاطفية أو المهنية.
ما ينبغي أن تعرفه
الإساءة العاطفية متكررة، لها نمط يمكن تمييزه خلال تعاملك مع الشخص، وليست مجرد موقف عابر. قد تهجم عليك بعض المشاعر في حال رؤية الشخص الذي يؤذيك نفسيا، مثل الخجل أو القلق أو التوتر الشديد حوله أو الرغبة في مغادرة المكان أو الانسحاب من الموقف، أيضا قد تجد نفسك تتصرف بطريقة لا تعهدها على نفسك، مثل أن تهز قدميك أو تعض شفتيك أو تقرض أظافرك. قد تؤثر الإساءة العاطفية عليك لدرجة تغيّر من شخصيتك، فتجد نفسك كثير الاعتذار، بسبب أو دون سبب، وتردّ باندفاعية شديدة سواء أكان من يؤذيك موجودا أم غائبا. وهذا هو صُلب الإيذاء العاطفي، أنه يغيّرك دون ترك علامات عليك(1). للإساءة العاطفية أشكال متعددة، ما يلي بعضها:
يحاول بلا هوادة فرض سلطته عليك والتحكّم في حياتك وقراراتك مع الإنكار التام لهذه المحاولات، لأنها بالضبط هي الهدف. لا يُخفي الشخص المتسلّط رغبته في فرض رأيه عليك، يخبرك بقرارات نهائية و”غير قابلة للنقاش” دون مبررات أو مساحة لإبداء رأيك. يتحوّل هذا السلوك إلى إساءة عاطفية حين يلجأ المتسلط إليه مرات متتالية دون مراعاة لرأيك أو لرغبتك.
- المُحِقّ دوما
غالبا ما يكون شخصا متعجرفا لا يرى رأيه “رأيا” بل حقائق مسلّما بها ولا جدال فيها. غالبا ما يكون متحدثا ماهرا ولبقا، يبرع في خنق المناقشات أو الجدالات وحسمها لصالحه مع جعل الآخر يُذعن له، وهو وجه آخر للتسلّط، يَظهر في أوجِه في بيئات العمل. ولأنه من الصعب التعامل مع شخص عنيد يرى نفسه على صواب طوال الوقت، فقد ينزعج الطرف الآخر منه ويضطر إلى مجاراته وفعل ما يريده، مع تكرار الأمر يصبح للطرف الأول اليد العليا في كل شيء ويفقد الطرف الثاني وجوده في العلاقة تماما وتطول سلسلة الإساءة العاطفية.
- مُحِب الترهيب
تتكون العلاقة معه من التهديدات، لا يعرف طريقة أخرى لكسب احترام الآخرين، فيستعين بالتهديد سواء الخفي المتنكر بالدعابة أو بالتهديد الصريح، وهو تهديد مفهوم في كلا الحالتين. يوجد نوعان من هذا الشخص، شخص يتفوه بكلام يذهب مع الرياح ولا ينفذه أبدا، والآخر شخص يعني ما يقول، والتعامل مع هذه النوعية لفترة وجيزة من الوقت توضح طبيعة الترهيب الذي يقوله، وفي الحالتين هي إساءة عاطفية لأنها علاقة لا تحترم أحد طرفيها ولا تلتفت إليه سوى بالتعنيف النفسي، قد تتعرض لها في أي علاقة، في المدرسة أو المنزل أو العمل.
- المعاقب بالصمت
تأتي المعاملة الصامتة بأشكال متنوعة، أحيانا يرفض أن يتحدث معك تماما، وأحيانا يرفض أن يُنصت إليك من الأساس، فيُجبرك على الصمت، كأنه يأخذ الحوار رهينة إلى أن يسمح بتحريرها. قد يقرر مَن يلجأ إلى المعاملة الصامتة إلى الانسحاب من مكان وجودك، أو يمتنع حتى من البقاء على مقربة منك، ويحافظ على البقاء بعيدا عن أي شكل من أشكال التواصل الذي قد يحل المشكلة التي أدت إلى هذا الخلاف. مع اختلاف أشكال هذا السلوك، فإن معناه واحد وواضح: “أعاقبك بالصمت لأنك لا تستحق حتى أن أحاورك”، وهو يعد شكلا من أشكال الإساءة النفسية لأنه يمنعك من حق التعبير عن نفسك أو الإنصات إلى مشاعرك.
- مستودع أخطائك
يتذكر هذا الشخص كل شاردة وواردة من أخطائك التي فعلتها أو قلتها، سواء كان أمرا حقيقيا أو من نسج خياله أو سوء فهم منه. يسجّل تفاصيل الخلافات التي وقعت بينكما، رغم أنه ربما قد تناقشتما في كل ما مضى وساويتما الأمر، لكنه يستعين بالماضي دوما لكسب النقاش، أحيانا يستخدم كلامك العادي معه ضدك ويغيّر من سياقه حتى تكون أنت المخطئ في النهاية ولصرف الانتباه عن أخطائه أو دوره في الأزمة.
يبحث هذا الشخص دوما عن كبش فداء، أهم شخص بالنسبة إليه هو مَن سيرمي عليه اللوم حتى لا يتحمّل مسؤولية قراراته وإخفاقاته. لا يود هذا الشخص أن يُلقي باللائمة على الآخرين فحسب، بل يتلذذ بخنق مَن حوله بالإحساس بالذنب لأنه على قناعة بأن كبش الفداء مسؤول فعلا عما شعر به من ألم أو انزعاج، لذا لا بأس بإلقاء اللوم عليه حتى يؤلمه أيضا. لكنها طريقة مؤذية لمَن حوله، لأنه يلجأ إلى الحيل والتلاعب بالآخرين بدلا من التعبير عن مشاعره بوضوح.
يلجأ المُضلِّل أو المخادع إلى ما يُسمى بالـ”gaslighting”، وهو شخص بارع في الكلام خلال دفاعه عن نفسه. دائما ينتهي الحديث معه وأنت تشعر بغموض يفوق غموض ما قبل النقاش، وشعور متضخم بالتشكيك في كلامك وحكمك على مجريات الأمور، ولأن إرباكك هو هدفه دوما، إذ بمجرد أن تصل لنقطة التشكيك في أفكارك الخاصة، يسهل على المضلل تضليلك أكثر كي تتفق مع وجهة نظره حتى وإن لم تكن في صالحك.
ما الذي لا يجدر بك فعله مع المسيء عاطفيا لك؟
في بعض الأحيان، قد تأتي محاولات التعامل مع الإساءة العاطفية أو الحدّ منها بنتائج عكسية فيتضاعف أذاها، لذا، هنا طرق عليك تفاديها خلال التعامل مع الإساءة:
قد يؤدي هذا النقاش إلى تصعيد سريع في الأحداث قد يصل إلى العنف الجسدي، لا توجد طريقة يمكن الانطلاق منها لخوض نقاش عقلاني مع المعنّف لأنه ماهر في إيجاد طرق أخرى للومك أو انتقادك أو الإنقاص من شأنك، وقد يحاول أيضا قلب الطاولة عليك ولعب دور الضحية.
- ثانيا: تبرير أفعاله أو محاولة فهمها
قد تفعل هذا في حال كان شخصا عزيزا عليك، في محاولة يائسة لفهم لماذا يعاملك بهذه الطريقة أو حتى لتفهم شخصيته، لكنّ تعاطفك مع المعنِّف أو أن تصغّر من أثر أفعاله وسلوكياته سيُصعّب عليك إنهاء هذه الحلقة.
- ثالثا: استرضاؤه
قد تظن أن استرضاء مَن يسيء إليك نفسيا هو طريقة سلمية حتى لا تعقّد الأمور أو تصعّدها، لكنها خطة تُثمر المزيد من الإساءة على المدى الطويل. بدلا من محاولة تغيير ذاتك لمُجاراة أهوائه، عليك التركيز على وضع حدود واضحة معه وتجنب الاختلاط به إن أمكن.
مهما بذلت من جهد، لن تتمكن من تغيير شخص يُسيء إليك نفسيا، أيا كانت طبيعة علاقتك به، أو الطرق التي ستلجأ إليها أو حتى أن تغيّر من نفسك شخصيا، لن تتمكّن من إصلاحه لأن الإساءة قرار واعٍ يتخذه المرء وليست حالة مفاجئة يُمكنك انتشاله منها. تذكّر أنك لا تتحكّم في سلوكياته، وهو شخص راشد، تقويم نفسه هو مسؤولية تقع على عاتقه وحده. الجانب الوحيد الذي يُمكنك التحكّم به هو رد فعلك وتعاملك مع إساءته لك.
ماذا أفعل إذن؟
- أولا: تمييز نمط الإساءة العاطفية
يتميز المعنِّف ببراعته في التلاعب، لذا من الصعب أن يُدرك المرء أنه يتعرّض للإساءة أو يميّز أنماط الأذى، يدفع هذا الضحية إلى الظن بأنها مسؤولة عن العقبات التي تواجه العلاقة أو أنها تُخفق في التواصل مع الآخرين. لذا، أهم خطوة، وقد تكون الأصعب في بعض الأحيان، هي ملاحظة الإساءة العاطفية التي تتعرض لها. قد تفكّر دوما: “لكن هذه طريقة والدي/مديري دوما، هذه هي شخصيته”، مع ذلك، ومهما كان علاقتك وثيقة بهذا الشخص، فإن الإساءة إساءة أيّا كان مصدرها أو مقصدها. لا يبدأ الحل برسم حدود أو إنهاء العلاقة إلا حين تُرصَد العلامات التي سبق ذكرها، من هناك يبدأ المرء في التمييز بين السلوكيات الصحية والمؤذية أو المسيئة في شتى علاقاته.
- ثانيا: لا تَلُم نفسك
ذكّر نفسك كل يوم أنك لست مسؤولا عن هذا الأذى، لست ضعيفا أو سيئا حتى يصطفيك المسيء ويصبّ عليك أذاه، لست أنت مَن استفزه ليعنّفك لأن أحدا لا يستحق التعرّض للتلاعب والإهانة، بل هذا قرار المسيء وحده الواعي أو اللاوعي. الأذى اختيار، وفي كل الحالات ليس اختيارك أو ذنبك. ربما قضاء وقت طويل في علاقة غير متزنة وتتسم بهذا الطابع المتلاعب قد تقنعك أنك تفعل شيئا ما بطريقة خاطئة، لكن عليك التوقف عن لوم نفسك فيما لا تتحكم به حتى تتمكّن من وضع حد لهذا الأذى.
قد يُساعدك تدوين الطرق التي يُسيء بها إليك هذا الشخص حتى تتجنب الشك في نفسك وذاكرتك وواقعك، لأنه سينكر إن اتهمته مثلا بأنه فعل كذا أو قال كذا، لذا تدوين المواقف المسيئة ستوضح لك نمط الإساءة وأشكالها المختلفة، وستعفيك من مواجهته أبدا، وستثبت لنفسك أنك أبعد ما تكون عن اللوم أو المسؤولية. التدوين هنا هو ذاكرتك التي لم تتأثر بتلاعب المُسيء وإهاناته.
- ثالثا: تجنّب التعامل معه
هذه هي الخطوة الأولى لإنهاء العلاقة بالشخص المسيء إليك نفسيا، في حال حاول ممارسة ألاعيبه عليك، سواء بالصراخ أو الإهانة أو إن طلب منك فعل شيء ما، لا تقدّم مبررات أو تحاول تهدئة نوبة غضبه أو حتى الاعتذار عن أخطاء لم ترتكبها، ما عليك سوى الانسحاب بهدوء إن أمكن، أو التزام الصمت. التعامل مع العنف يمهد لمزيد من العنف، الذي بدوره يفتح الطريق لتقبّل هذا الأسلوب أو تصاعُد الأحداث وتحوُّل العنف النفسي واللفظي إلى جسدي، وهذا ما عليك تفاديه قدر الإمكان. الاستجابة للمعنّف تمنحه شعورا بالرضا والاستشفاء وتحقيق مراده نسبيا، فتتنامى رغبته في استخدام هذه السلطة.
- رابعا: العمل على إنهاء العلاقة
أول سؤال يخطر ببال الآخرين عندما يعرفون أن أحدهم يتعرض للعنف أو الإساءة العاطفية هو: “لماذا لم يُنهِ العلاقة؟ لماذا لم يهرب؟”. ليس الأمر بهذه السهولة أبدا، لذا تأتي هذه الخطوة في قاع هرم التوصيات، لا يعي الشخص المعنَّف أن لديه اختيارت أخرى، كذلك يتم التلاعب به ومضايقته بشكل دوري إلى درجة تشويش أفكاره والتأثير على قراراته، فيَصل الأمر به إلى قناعة راسخة بأنه يستحق ما يحدث له أو أن الخطأ خطؤه أو أن يشعر بالامتنان لأنه لا يتعرض لإساءة جسدية. يؤدي التعنيف الممنهج إلى تدني احترام الذات والخوف والقلق من كل شيء، كذلك ربما الموقف يتضمن أطفالا أو أسرة أو قيودا مالية تجبر الضحية على الاستمرار في العلاقة المُسيئة(3).
في معظم الأحيان، لا ينوي الشخص المُسيء التغير بأي شكل من الأشكال، أو حتى مناقشة سلوكياته، لذا عليك البدء في التفكير جديا في مخرج من هذه العلاقة، لأنك كلما أطلتها سيصعب عليك التملص منها فيما بعد، ولأن الإساءة العاطفية قد تتمادى وتصبح مقدمة للعنف الجسدي. كل علاقة مختلفة، لذا، بناء على موقفك قد تحتاج إلى أخذ خطوات مدروسة لإنهاء هذه العلاقة، ناقش أفكارك ونواياك مع صديق موثوق به أو أحد أفراد أسرتك، تحدث عن خطتك البديلة وتصوراتك المستقبلية، كذلك فكّر في ما تنوي فعله حين يعرف الطرف الآخر نيتك بالمغادرة، إذ قد تزداد الأمور سوءا ويحاول منعك. لا تتعجل في الإفصاح عن خططك، تمهل وتذكّر أن الوصول إلى هذه الخطوة يعني أنك قطعت شوطا كبيرا وقاربت على الوصول لخط النهاية(1).
- خامسا: التعافي وتكوين علاقات صحية
لا شك بصعوبة أن تعرّي ذاتك وهشاشتك أمام شخص آخر وتخبره بأنك تتعرض لأي شكل من أشكال التلاعب العاطفي هذه، لكن التحدث في حد ذاته تقدم مذهل في تحررك منه، لأنك قبل أن تستجمع شجاعتك لتقرّ بما تمر به، ستكون قد أدركت الإساءة، بل وربما حاولت إيقافها. التحدث مع أحد أصدقائك أو أفراد أسرتك سيشعرك أنك لست وحدك في مواجهة هذه الرياح، أنك لست ضعيفا، ربما يُشارك صديقك تجربة مشابهة مرَّ بها فتلتمس فيها عزاءً يُهوِّن عليك مشقة تجربتك.
سيُخفف تواصلك مع المقربين منكَ شعورك بالوحدة والعزلة والهلع الناتج عن تلك العلاقة، لا شيء قد يجعلك أكثر هشاشة سوى إخفاء ما تتعرض له والتظاهر أنك على ما يرام أمام أقرب الناس لك بسبب الخزي الذي تشعر به. أيضا لا تتردد أبدا في استشارة مختص نفسي، الأذى النفسي لا يقل سوءا أو خطورة عن الأذى الجسدي. حاول زيارة أحد المختصين لمشاركة ما قد تخجل من البوح به أمام أصدقائك، سيرشدك خلال رحلة تعافيك من هذا الألم وسيساعدك على وضع الأمور في نصابها.
كلمة من فريق سكون
قد تفقد إحساسك بذاتك تماما مع استمرار التعرّض للأذى النفسي، بمرور الوقت، يتآكل تقديرك لذاتك بسبب الصراخ في وجهك والتلاعب بك وانتقادك، لدرجة أنك قد تعجز عن رؤية نفسك بشكل منصف وواقعي، من ثَمّ قد تبدأ في موافقة مَن يُسيء إليك، وتصدقه ويتحوّل من شخص في الواقع إلى صوت وجلّاد داخل رأسك وفي تكوينك، تصبح عالقا في حلقة هذه العلاقة المؤذية التي تسلبك هويتك، ظنا منك أنك لا تستحق ما هو أفضل من هذا، قد تنطوي على نفسك، وتنعزل وأنت على قناعة تامة بأن أحدا لا ولن يُحبك، لذا بمجرد إنهاء العلاقة المُسيئة، عليك البدء في المرحلة الثانية من العناية بذاتك والرفق بها، أو اللجوء إلى العلاج النفسي في حال شعرت بالحاجة إليه، لكن في كل الأحوال، تذكّر أنك لست مُلاما.
_____________________________________________________________
المصادر:
- What Is Emotional Abuse? Sherri Gordon, Verywell Mind, 2022.
- The Many Faces of Emotional Abuse, Gregory L. Jantz, Psychology Today, 2021.
- Emotional Abuse, Psychology Today Staff.
- What Is Psychological Abuse?, Sanjana Gupta, Verywell Mind, 2022.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.