القاهرة – رغم أن أفكار تفوّق العرق الأسود و”سيادة السود” نشأت في سياق الجدل ورد الفعل على “العنصرية البيضاء” ودعوى “تفوق العرق الأبيض” في عصر الإمبراطوريات والاستعمار الحديث، فإن أفكار المركزية الأفريقية أو “الأفروسنتريك” أثارت جدلا مؤخرا في بلدان شمال أفريقيا العربية، لا سيما مصر.
وتدور بعض أفكار حركة المركزية الأفريقية “الأفروسنتريك” حول الحضارة المصرية القديمة، فالحركة التي تعود جذورها إلى القرن الـ19، تروج في العقود الأربعة الأخيرة لمزاعم “الأصل الأسود” للحضارة الفرعونية، مما أثار ردود فعل واسعة، وغاضبة أحيانا.
وقبل أيام، أعاد حفل لمطرب الراب الأميركي ترافيس سكوت، كان من المقرر أن تستضيفه منطقة الأهرامات في 28 يوليو/ تموز الجاري، الجدل حول “الأفروسنتريك”، وصلت حد تقديم بلاغات ضده بدعوى دعمه لحركة “الأفروسنتريك”، والحفل ليس الأول من نوعه الذي تثار حوله تساؤلات وانتقادات ترتبط بالحركة، ومدى دلالة منطقة الأهرامات بأفكارها ونشاطها.
ويسعى هذا التقرير إلى الإجابة عن تساؤلات حول الأفروسنتريك وجذور الحركة وأفكارها وأبرز مفكريها، وعلاقتها بالحضارة المصرية، استنادا إلى مصادر معرفية وعلمية، منها كتابات ومحاضرات المفكر الأميركي من أصل أفريقي موليفي كيتي أسانتي، أحد أبرز منظري التيار.
” #إلغاء_حفل_ترافيس ” .. دعوات لإلغاء حفل مغني الراب الأمريكي ” #ترافيس_سكوت” في #مصر pic.twitter.com/agTeGltKiv
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) July 11, 2023
-
ما المقصود بالمركزية الأفريقية؟ وما جذورها؟
ظهرت المركزية الأفريقية كمنظور فكري أواخر القرن العشرين، حيث حاول روادها تأسيس نموذج معرفي يتمركز فيه الأفارقة حول أنفسهم، في محاولة للتحرر من الهيمنة الثقافية الغربية.
ففي تعريفه للمركزية الأفريقية، يقول موليفي أسانتي، المنظّر الأول للحركة، إنها “نموذج يدمج جميع الظواهر من وجهة نظر الشعوب الأفريقية (جنوب الصحراء) كموضوعات في تاريخ البشرية بدلا من كونها هوامش لثقافات أخرى، وهي منظور فكري تعبر في بعض النواحي عن الإخلاص الثقافي وكيفية ارتباط الأفارقة بجذورهم الأفريقية”.
وأسانتي، أستاذ الدراسات الأفروأميركية بجامعة تمبل الأميركية، بنى نظريته حول المركزية الأفريقية على قائمة طويلة من المفكرين الأفارقة في الشتات، أمثال بوكر واشنطن وماركوس غارفي ومارتن لوثر كينغ ومالكولم إكس (في مراحل مبكرة من نشاطه السياسي)، إلى جانب الأعمال الفكرية للمفكر السنغالي الشيخ أنتا ديوب، صاحب كتاب “الأصول الزنجية للحضارة المصرية”.
وهناك اتجاهان رئيسيان حول نشأة وجذور الحركة، الأول يرتبط بكتابات المفكرين الأفارقة الذين نشؤوا في الشتات الأميركي أمثال تيشيلواني كيتو، ومولانا كارنيغا، وموليفي أسانتي، والأخير صدر كتابه الأول عام 1980 عن “الأفروسنتريك ونظرية التغير الاجتماعي”، بعد سياسات التهميش التي اتبعها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان ضد الأفارقة في الجنوب الأميركي، مما دفع أسانتي إلى الدعوة لتبني وعي جمعي مركزي أفريقي.
أما الثاني فيمثل جذور المركزية الأفريقية في القرن الـ19 والقرن الـ20 على يد مفكري الشتات والداخل الأفريقي معا، ممن عاصروا المراحل المتأخرة للاستعمار الأوروبي لأفريقيا.
وهذه الروافد الفكرية جاءت في الأساس كرد فعل لنظريات التفوق الأبيض العنصري لحرمان الأفارقة وتحديدا السود منهم من أي دور حضاري، بغية تسهيل إخضاعهم والسيطرة عليهم في سنوات الاستعمار، ومنها: كتاب “نداء” المنشور عام 1829، لديفيد ووكر، الذي أكد فيه أن تاريخ أفريقيا خاصة مصر القديمة يثبت أن الأفارقة ليسوا أدنى من أي جنس بشري آخر.
-
ما الأفكار الرئيسية للأفروسنتريك، وعلاقتها بمصر؟
اكتسبت أفكار الأفروسنتريك مساحات واسعة من النقاشات في العقود الأربعة الأخيرة بفضل كتابات موليفي أسانتي، التي ترفض في مجملها كل ما هو غير أفريقي أسود، ووضع أفكاره الرئيسية في ثلاثيته: “أفروسنترستي” (Afrocentricity) 1980، و”فكرة المركزية الأفريقية” (The Afrocentric Idea)، 1987، و”كيميت، أفروسنترستي، والمعرفة” (Kemet, Afrocentricity, and Knowledge)، 1990.
وأبرز أفكار أسانتي هي:
أولا: الحضارة الزنجية
يرى أسانتي أن الحضارة الفرعونية قامت على أكتاف الزنوج الأفارقة، وقدم في ذلك ما اعتبره “مجموعة أدلة”، أبرزها:
- استشهاده بكتابات المفكر السنغالي الشيخ أنتا ديوب حول “الأصل الزنجي” للحضارة المصرية القديمة، وأن تاريخ أفريقيا السوداء سيبقى معلقا في الهواء ما لم تتم كتابته بطريقة صحيحة، وحتى يجرؤ المؤرخون الأفارقة على ربطها بتاريخ مصر.
- الهجرات القديمة كانت إلى الجنوب الأفريقي وليس إلى الشمال، وأن المصريين القدماء في الأساس قادمون من الجنوب الأفريقي، مستدلا بانسياب نهر النيل من الجنوب إلى الشمال.
- كل العلوم الغربية الحالية مصدرها مصر القديمة، التي يزعم بأنها “أمة أفريقية سوداء” سرقت منها أثينا القديمة ثقافتها وأفكارها ونسبتها إلى الحضارة الغربية.
- مصر القديمة تعني “كيميت” أي الأرض السوداء، أو الأرض التي تعود إلى الشعوب السوداء الضاربة في أعماق أفريقيا.
- طبيعة سكان مصر السود تغيرت بفعل غزوات الأمم السابقة، ومن بعدها غزوات العرب، ممن تحايلوا على دعوات الأفارقة أصحاب الأرض لإنقاذهم من الاحتلال الروماني.
- ملوك مصر القديمة كانوا من ذوي البشرة السمراء، أمثال رمسيس الثاني وحتشبسوت.
ثانيا: رفض الديانات السماوية
يرى أسانتي أن الرسالات السماوية “الإسلام والمسيحية واليهودية” لا تمثل ديانات للأفارقة، ويجب الاستغناء عنها، بدعوى أنها رسالات لا تتحدث بلسانهم، مجادلا بالقول: “إن لم يستطع إلهك التحدث إليك بلغتك فهو ليس إلهك، إلهك هو الذي يكلمك بلغتك”.
وكبديل لهذه الديانات، يدعو إلى الإيمان بالأساطير الأفريقية القديمة سواء في مصر كأسطورة “إيزيس وأوزوريس” الفرعونية، أو أسطورة “ماو وليزا” المنسوبة لغرب أفريقيا.
ثالثا: الأهرامات الزنجية
منطقة الأهرامات كموقع أثري لها مكانة بارزة في فكر “الأفروسنتريك” تاريخيا وحضاريا، وفي ذلك يرى أسانتي أن حركة التاريخ البشري والحضارة تبدأ من الأهرامات في مصر القديمة، التي يزعم بأن من شيدها هم “الزنوج” كوعاء كبير للحضارة الإنسانية، بما في ذلك علوم الفلك والعمارة والتحنيط وغيرها.
ويجادل بالقول إن الأهرامات في مصر القديمة وفي السودان وبلاد النوبة “لم يكن لها مثيل في أي مكان في العالم، فقد بناها السود قبل ميلاد المسيح، وقبل ما أسماه “غزو العرب عسكريا لمصر ومن بعدها أفريقيا”.
فالأهرامات، وفق أسانتي، تمثل بداية الطريق للحضارة الإنسانية، وليس أثينا القديمة، وبناء على ذلك، يستنكر “مزاعم المركزية الغربية” أن أثينا اليونانية منبع العلوم والفنون.
-
كيف تطورت الحركة من النظرية إلى الحركية؟
مرت الحركة بمحطتين بارزتين، الأولى في بداية نشأتها كنظرية في الولايات المتحدة، والثانية كحركة على الأرض وتحديدا في السنوات الأخيرة مع تصاعد الجدل حول تنسيب الحضارة المصرية القديمة للعرق الأسود حصرا.
ففي الثمانينيات والتسعينيات، استحوذت الحركة على اهتمام وسائل الإعلام الغربية، بعد تحديها التاريخ الغربي التقليدي، وسلب أي دور حضاري للغرب واتهامه بسرقة التاريخ الأسود من مصر القديمة.
وعلى الصعيد السياسي، قادت الحركة الموجة المناهضة للفصل العنصري في الجنوب الأميركي، واكتسبت شهرة واسعة بفضل حركة “أمة الإسلام” التي كان خطابها وتعاليمها الأساسية تعزز التفوق العنصري للسود.
كما أثرت أيضا على موسيقى الهيب هوب، وظهرت أفكار “الأفروسنتريك” في كلمات مغني الراب الأميركيين من أصل أفريقي، أمثال كوين لطيفة وآيس كيوب وفرقة براند نوبيان وغيرهم.
ورغم أن حدة الجدل الفكري قد هدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، فإن المركزية الأفريقية لا تزال تمثل صراعا أيديولوجيا دائما في فكر وثقافة الأميركيين من أصل أفريقي.
وفي السنوات الأخيرة، لم يتوقف نشاط الحركة، فقد امتدت تأثيراتها وانعكست بشكل أكثر وضوحا على صناعة السينما ومجالات الموضة والأزياء والغناء، كما يبدو من تبني المنتج والممثل الأميركي من أصل أفريقي كيفين هارت أفكار “الأفروسنتريك”.
-
ما المواقف المصرية من الحركة؟
يبدو لافتا أن منصات التواصل كانت سباقة في السنوات الأخيرة عن المؤسسات الرسمية، في ملاحقة أفكار ورعاة ودعاة “الأفروسنتريك” ومساعيهم نحو إقامة حفلاتهم بمصر.
كما أبدى أكاديميون مصريون متخصصون في الآثار والأنثروبولوجي رفضهم الأفكار المطروحة حول الأصل الزنجي لمصر القديمة، مشددين على أن مصر الحديثة خليط من قوميات وحضارات عدة، منها أيضا العرب والأتراك واليونان والرومان وغيرهم.
وردا على حديث أسانتي بأن الهجرات القديمة كانت من الشمال إلى الجنوب، تؤكد أدبيات مصرية على العكس، مستشهدة بأن المصريين القدماء تتبعوا مسار النيل ومنابعه، وأقاموا ممالك في بلاد النوبة، وتعددت رحلاتهم التي نظموا في سبيلها طرق الاتصال البرية والنيلية مع أفريقيا.
إجمالا، يمكن القول إن “الأفروسنتريك” تيار يخوض مواجهة على جبهتين، الأولى مع الفكر الغربي التقليدي، الذي يتهمه بالسطو على “الحضارة المصرية القديمة”، والثانية مع مصر التي نسب كل حضارتها الفرعونية إلى السود، مما دعا البعض -خاصة داخل مصر- إلى التحذير من أفكارها، في مقابل مبادرات تشدد على أن المصالح المصرية تقتضي بالضرورة البحث عن انطلاقة جديدة مع الأفارقة تبدأ بتغيير المدركات السلبية بين الطرفين.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.