بغداد– بعد مخاض عسير امتد أشهرا، صوت البرلمان العراقي على الموازنة المالية العامة للبلاد للسنوات 2023 و2024 و2025 بعد سلسلة من الجلسات التي عقدها المجلس وبدأت الخميس الماضي، وامتدت حتى ساعات الفجر الأولى من يوم أمس الاثنين.
وشهدت جلسات البرلمان الأخيرة جدلا غير مسبوق بين الكتل السياسية، لا سيما بعد رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني المضي بالتصويت على بعض فقرات الموازنة، قبل أن يتوصل الطرفان لاتفاق وسط يضمن الاستمرار بالاتفاق السياسي الذي أفضى لتشكيل تحالف إدارة الدولة وتشكيل حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.
كما شهدت الجلسات تجاذبات حادة بين نواب من مختلف المحافظات بسبب الخلافات المتعلقة بتخصيصات المحافظات المالية وصناديق التنمية واستحداث درجات وظيفية في القطاع العام، مع رفض البرلمان إقرار فرض ضريبة على أسعار الوقود والاتصالات.
أهم الفقرات
وضمت الموازنة 66 مادة بحسب ما كشف عنه نواب عقب الجلسة، حيث من المفترض أن تمرر رئاسة البرلمان قانون الموازنة إلى رئيس الجمهورية للمصادقة عليه، ثم نشره في جريدة الوقائع الحكومية ليدخل حيز التنفيذ.
وتعد الموازنة الحالية الأضخم في تاريخ البلاد، إذ تبلغ قيمتها قرابة 153 مليار دولار لكل عام، وسيحظى إقليم كردستان بنسبة تقدر بـ 12.6%، مع تسجيل عجز مالي كبير يقدر بنحو 48 مليارا سنويا، يعد الأعلى ويزيد على أكثر من ضعفي العجز المسجل بآخر موازنة لعام 2021 حين بلغ 19.7 مليارا، وهو ما يعده مراقبون ناقوس خطر سيفاجئ الحكومة الحالية في حال تراجع أسعار النفط.
وكان النائب عن اللجنة المالية البرلمانية جمال كوجر قد أكد -في وقت سابق للجزيرة نت- أن الموازنة قد ثبتت سعر برميل النفط عند 70 دولارا للبرميل الواحد، بينما تم تثبيت سعر صرف العملة الأميركية رسميا عند 1300 دينار للدولار الواحد وللسنوات الثلاث القادمة.
كما اعتمدت الموازنة تصدير البلاد 3.5 ملايين برميل نفط يوميا، من ضمنها نحو 400 ألف برميل من حقول كردستان، وسط خلافات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وكتل سياسية حول الآلية التي سيصدر فيها الإقليم نفطه في ظل توقف صادراته النفطية عبر ميناء جيهان التركي منذ مارس/آذار الماضي.
مؤشرات إيجابية
على الجانب الحكومي، يقول مظهر محمد صالح المستشار المالي لرئيس الوزراء إن تشريع موازنة لـ 3 سنوات سيجنب العراق الدخول في الفراغ المالي، وأشار -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن وزارتي المالية والتخطيط ستعملان على إجراء بعض التعديلات على فقرات الموازنة للسنتين الماليتين القادمتين بما في ذلك إدارة العجز، ثم ترفع التعديلات لمجلس النواب للمصادقة عليها دون الحاجة إلى تشريعات جديدة ضمن الموازنة، وفق قوله.
من جانبه، يشير الخبير بالشأن المالي محمد الحمداني أنه ورغم المؤشرات الكثيرة على الموازنة الثلاثية، فإنها جاءت ببعض المزايا التي سترتد بالنفع على التنمية والبنى التحتية، مبينا أن الموازنة خصصت قرابة 38 مليار دولار سنويا في مشاريع بناء الطرقات وقطاع الإسكان والمدارس والمستشفيات، بما يشكل فرصة سانحة للحكومة الحالية للشروع بحملة إعمار حقيقية في مختلف القطاعات، شريطة صرف هذه الأموال برقابة مشددة من البرلمان وهيئة النزاهة، وفق قوله.
ويذهب في هذا المنحى الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في جامعة المعقل بالبصرة نبيل المرسومي الذي يضيف أن من إيجابيات إقرار الموازنة إطلاق الصرف الحكومي الذي يُعد الممول الرئيسي للاقتصاد، لاسيما بعد الركود المسجل في القطاعين العام والخاص خلال الأشهر الماضية التي أعقبت عام 2022 وتأخر البرلمان في الموافقة على الموازنة.
كما أن عشرات المشاريع الاستثمارية ستبدأ الحكومة تنفيذها، وفق المرسومي، الذي أضاف للجزيرة نت أن الموازنة خصصت العديد من الصناديق التنموية للمحافظات الفقيرة والمحررة من تنظيم الدولة، وهو ما قد يسهم في تحسين الوضع الاقتصادي فيها، وفق قوله.
مؤشرات سلبية
أما عن السلبيات، فيتمثل بحجم الموازنة الكبير التي سجل العجز الأكبر على الإطلاق، فضلا عن أن تمويل العجز سيمول من الاقتراض الداخلي والخارجي بنسبة 66%، الأمر الذي سيزيد من المديونية المسجلة على الحكومة الحالية والحكومات القادمة، وفق المرسومي.
ولا يقف الأمر عند ذلك، إذ يرى أن الأعباء الثابتة المسجلة -تشمل الرواتب واستيراد الغاز والرعاية الاجتماعية وتكاليف جولات التراخيص النفطية- تناهز 99 مليار دولار، مبينا أن المشكلة تكمن في عدم إمكانية تخفيضها خلال العامين القادمين، لا سيما أن الموازنة اعتمدت على تصدير النفط بنسبة 90% في ظل القيود المفروضة على البلاد لأجل عدم زيادة الإنتاج وفق الاتفاقيات المبرمة مع مجموعة “أوبك بلس” وما تبعها من توقف صادرات إقليم كردستان النفطية.
ويختتم المرسومي حديثه بالتحذير من أن البلاد ستواجه أوقاتا صعبة العامين القادمين، خاصة أن الوفرة المالية لدى وزارة المالية المقدرة بنحو 20 مليار دولار ستستهلك هذا العام، وبالتالي ستواجه الحكومة صعوبة في استكمال موازنة عامي 2024 و2025.
في السياق ذاته، تقول الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم للجزيرة نت إن الموازنة ومنذ بدء صياغتها كانت استهلاكية باذخة لم تعتمد خططا تنموية وجدوى اقتصادية للموارد الوطنية، واعتمدت على الترضية السياسية وزيادة الإنفاق للحد الأقصى، وفق تعبيرها.
وأشارت إلى أن العجز الموضح في الموازنة يثير تساؤلات عن كيفية سداده خلال العامين القادمين، مبينة أن حجم الإنفاق الكبير على الرواتب الحكومية سيقود لنتائج اقتصادية سيئة، بما يعني زيادة الاستهلاك وارتفاع التضخم، بما سيقود بالمحصلة لزيادة الاستيراد والعجز بالميزان التجاري، وسيعيق التنمية الاقتصادية نهاية المطاف.
من جانبه، يعتقد الباحث العراقي بمركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن منقذ داغر أن النقطة الأكثر إيلاما للعراقيين في الموازنة تتمثل بالمادة 16 التي نصت على إبقاء السلف المالية الممنوحة للمسؤولين والوزارات الحكومية بين عامي 2004 و2023 والمقدرة بـ 100 مليار دولار، بما قد يعد شرعنة للفساد في البلاد، وفق قوله.
كما انتقد داغر -في حديثه للجزيرة نت- إضافة البرلمان فقرة جديدة تتمثل بتخصيص مبلغ 350 مليون دولار سنويا مصاريف للبرلمان، بما يعادل 30 مليونا شهريا تقريبا دون المرتبات، وهو ما يكبد العراق خسائر كبيرة إذا ما أخذ بنظر الاعتبار أن عدد أعضاء مجلس النواب 329 نائبا فقط.
من جانبه، قال الخبير المالي محمد الحمداني إن إضافة أكثر من 500 ألف درجة وظيفية للقطاع العام سيدخل العراق في مشكلة كبيرة لن تستطيع الحكومات القادمة معالجتها، لا سيما أن عدد الموظفين الحكوميين سيتجاوز 4.5 ملايين بما يعادل أكثر من 11% من سكان البلاد، وهو ما يعد بطالة مقنعة، وفق وصفه.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.