يفتح الباحث الدكتور عبد الحكيم أحمين في كتابه الجديد نافذة على أسئلة وإشكاليات مهمة تتصل بالدور المتجدد للنخبة في الاضطلاع بوظائفها التواصلية والتفاعلية والتعبوية تجاه شعوبها في العالم العربي.
تحت عنوان “التواصل الثقافي والسياسي بين العرب في البيئة الرقمية.. استخدام النخب للإعلام الجديد” (2023) الصادر عن دار غيداء الأردنية، يتناول الباحث انخراط النخبة التي يصفها بالرأي العام النوعي في العالم الرقمي التواصلي الحديث، مسائلا كيفية توظيفها واستثمار إمكانياتها الافتراضية في إضفاء نجاعة وفعالية أكبر على حركية خطابات وإسهامات النخبة في النقاشات العمومية.
بقالب علمي رصين ونزاهة بحثية معتادة يواصل الباحث عبد الحكيم أحمين، الذي سبق أن أصدر كتابا عن “الهويات الافتراضية في المجتمعات العربية” شغفه بطرح الأسئلة الصعبة في زمن الثورة التواصلية الذي يتفاعل في العالم العربي مع سياق سياسي ومجتمعي متوتر ومضطرب، مستحقا فضل الإسهام التأسيسي في تشكيل مكتبة عربية بحثية لسوسيولوجيا التواصل الثقافي والسياسي.
دور النخب
يتعلق الأمر بمساءلة الدور التواصلي للنخب العربية، الذي بات محاصرا بتحديات متعاظمة يفرضها السياق السياسي لمرحلة الربيع العربي التي وضعت المثقف أمام اختبارات أخلاقية وتواصلية جديدة، فضلا عن ظهور فاعلين جدد يزاحمون مقامه الاعتباري بفضل قدرة الشباب على استثمار التقنيات الرقمية الجديدة في تصدر المشهد التواصلي وفرض الأولويات الجديرة بالمناقشة والتعبئة في الحقل العام.
هو رهان بحثي ومعرفي لا يخلو من جرأة، خصوصا في شقه التطبيقي، على اعتبار أن دراسة فئة النخبة ليست أمرا سهلا، فهؤلاء يعدون أنفسهم قادة للجمهور، ولا يريدون كشف طبيعة تفكيرهم ولا طريقة عيشهم، ولا كيف يستعملون وسائل الإعلام الجديدة، ويتوجسون من أي بحث حولهم لأسباب عديدة، بعضها مرتبط بطريقة عيشهم وتفكيرهم، أو متصل بآرائهم حول القضايا المطروحة على الشعوب العربية، أو متعلق بالخوف من فقدان المكانة الاجتماعية بين القراء أو المكانة الاقتصادية التي ينالونها بالسكوت عن بعض الإشكاليات والقضايا السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية أو غيرها.
قسّم المؤلف عبد الحكيم أحمين كتابه الذي يعد في الأصل أطروحة دكتوراه، إلى جزأين كبيرين، الأول نظري والثاني تطبيقي، خصص الجانب النظري لدراسة 3 مسائل متداخلة وتعد خلفية أساسية للدراسة التطبيقية. يتناول الفصل الأول التحولات الكبرى التي سبقت وسائل الإعلام الجديدة، ويعرج في الفصل الثاني إلى الإعلام الجديد ليتوقف في الفصل الثالث عند التواصل الرقمي بتاريخه وتعريفه ووسائطه.
أما الجزء الثاني، الذي جاء في الفصل الرابع للكتاب، فتضمن الدراسة التطبيقية من أجل الكشف عن العلاقات الكامنة بين التنظير والتطبيق، والفكر والممارسة، والإنسان والتكنولوجيا بشكل عام، والرأي العام النوعي (النخبة) ووسائل الإعلام الجديدة من جهة، والنخبة والقضايا الثقافية والسياسية من جهة أخرى.
هموم بحثية ورؤى متباينة
لقد تمخضت أسئلة الكاتب وهمومه البحثية عن سياق متوتر على أبواب تقاطعات سياسية وثقافية واجتماعية بحيث صارت وسائل الإعلام الجديدة تعج بمضامين متعددة إن لم تكن متضاربة، سواء في المجال الثقافي أو السياسي أو الديني أو غيرها، بفعل تعدد الجيوش الإلكترونية والخلايا الإلكترونية التي تتبع لهذه الجهة أو تلك، ولهذا الطرف أو ذاك، كما صارت تمور برؤى متضاربة لحل هذه القضية أو تلك من القضايا الثقافية والسياسية التي أثارتها التحولات الجديدة في العالم عامة، وفي البلدان العربية خاصة.
ورغم تلك الثغرات والهفوات، فإن الآمال التي رافقت ظهور وانتشار الإعلام الجديد كانت تنتظر، حسب الكاتب، أن يكون ذلك الإعلام وسيلة إثراء غنية، وأن يلعب دورا كبيرا في إرساء مجال عام جديد، يسهل من خلاله تبادل المعلومات والأفكار والآراء، ويعززُ المكاسب الحقوقية الإنسانية، وينمي ثقافة التواصل والتعايش بين الشعوب العربية خاصة لما بينها من عناصر وقواسم مشتركة جامعة.
إنه سياق يستفز السؤال عن دور الرأي العام النوعي أو النخبة الثقافية والسياسية فيما يجري على أرض الواقع العربي وفي الفضاء الافتراضي من تحولات، حيث اتهم المثقف خلال مجريات الحراك العربي إما بالتواطؤ مع النظام الحاكم المستبد، وإما بالصمت، وإما بالانسحاب.
غير أن تزايد تشابك المجتمعات والشركات والحكومات والجماعات والأحزاب والمصالح، ضاعف من معاناة الصفوة، فهم لا يواجهون الاستبداد السياسي أو القهر الاقتصادي فقط، بل يواجهون تيارات مختلفة ومتصارعة فيما بينها حيث يجدون أنفسهم في حالة تجاذب بين عنف المجتمع وعنف الدولة.
عالم موازٍ جديد
يلاحظ الكاتب في الدراسة، التي تعتمد منهجا وصفيا تحليليا وظّف أدوات الملاحظة والمقابلة والاستبيان، أن بيئة الاتصال الجديدة أفرزت عالما موازيا ذا فاعلية وقوة تأثير هائلة، سواء ما يتصل بالحقل السياسي أو الثقافي أو غيرهما، وفتحت آفاقا للتواصل بين النخب أنفسهم، وبين النخب والجماهير، دون أن تلغي الوسائط التقليدية من جرائد ومجلات ومنتديات ومؤتمرات خاصة وعامة، كما أن العالم الافتراضي الموازي يحمل فرصا وتحديات ومخاطر بشأن التواصل العربي وطبيعته ومحتوياته، في ظل الانتشار المتنامي للإنترنت في الدول العربية.
وهذا ما يثير مزيدا من التساؤلات عن طبيعة الحوار والتواصل الذي يجري أولا بين الرأي العام النوعي أو النخبة، وطبيعة المضامين التي يروجونها بين مستخدمي وسائل الإعلام الجديدة، ونوعية القضايا التي يركزون عليها. وتتشابك الأسئلة عن دور المثقفين تشابك السياسة مع كل الاتجاهات حتى تلك التي تبتعد عن الفعل السياسي، حيث صارت ممتدة في كل المجالات من تربية وفن وأدب واقتصاد وثقافة ورياضة وغيرها.
وامتد ذلك التشابك إلى المجال العام الافتراضي، حيث استغل المستخدمون العرب وسائل الإعلام الجديدة والإنترنت في الخوض في المعترك السياسي، وفتح جبهات إلكترونية متعددة من أجل المطالبة بالحقوق والديمقراطية ومحاربة الفساد، وتوجيه النقد للفاعل السياسي، الحكومي والحزبي وغيرهما، بل تحوّل بعض المستخدمين إلى “نخبة بديلة”، يقدمون خطابا تواصليا يلقى رواجا كبيرا بين مستخدمي وسائل الإعلام الجديدة، ويزاحم خطاب النخبة على أرض الواقع أيضا.
هذه التحولات التي جلبها العصر الرقمي الجديد ووسائل الإعلام الجديدة، فرضت على الرأي العام النوعي، كما يسجل الباحث، أن يجيب عن سيل من التساؤلات التي يثيرها مستخدمو التواصل الرقمي الجديد فيما يتصل بالقضايا السياسية والثقافية والاقتصادية والدينية والاجتماعية.. وأحيوا إشكاليات قديمة جديدة بشأن النخبة وموقعها مما يجري في المجتمعات من تحولات وتحركات، وما تثيره هذه التحولات من قضايا سياسية وثقافية خاصة، وتحديد الأولى بالاهتمام من غيرها.
التكنولوجيا التواصلية
وفي ظل تعذر إطلاق تعميمات سلوكية حول تعامل النخبة مع التكنولوجيا التواصلية، يتعين التذكير بأن الرأي العام النوعي لا يزال منقسما على نفسه في الحضور الرقمي، حيث لا يزال قسم منه مكتفيا بآليات العمل التقليدي ولا يزال ينتمي للفئات التناظرية التي لا تملك حضورا ما على الإنترنت، ولا يزال متمسكا بأنماط التواصل التقليدي.
في المقابل، هناك قسم آخر من النخبة انخرط في التعاطي مع تقنيات العصر، وصار أحد مكونات الفئات الرقمية المندمجة التي تحقق حضورها الفعلي من خلال حضورها الرقمي المعتمد على الشبكة، في حين اختار قسم ثالث أن يترك المبادرة للمستخدمين ينشرون ويروّجون لأعمالهم ولأعمال المثقفين والساسة والمفكرين الذين رأوا في أفكارهم إضاءات أو إضافات أو أجوبة لإشكاليات وقضايا محددة.
من هذه الخلفية جاءت فكرة هذه الدراسة وأصالتها، متطلعة إلى استجلاء الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الجديدة فيما يتعلق بالتواصل الثقافي والسياسي بين الدول والشعوب العربية، على اعتبار أن هذه الشعوب تغترف من منبع واحد، ولها جذور حضارية واحدة، وتعيش في منطقة عربية واحدة، وتواجه مخاطر واحدة، وتطرح عليها التطورات الاتصالية والإعلامية الجديدة، إضافة إلى التحولات السياسية والاقتصادية وغيرها، إشكاليات وقضايا متشابهة غالبا، تحتاج إلى إماطة اللثام عن أبرزها وأخطرها، انتظارا لتقديم إجابات وخطط وبرامج عملية لحلها.
هكذا يحدد الكاتب الإشكالية المركزية للدراسة في السؤال التالي: هل تسهم وسائل الإعلام الجديدة في التغلب على التحديات والعقبات واستغلال الفرص والقواسم العربية المشتركة في سبيل تعزيز التواصل الثقافي والسياسي بين الدول العربية؟ وما القضايا السياسية والثقافية التي تثيرها وسائل الإعلام الجديدة من أجل تقوية التواصل العربي؟ ثم ما الدور الذي قام به الرأي العام النوعي (أو النخبة) من أجل تعزيز التواصل الثقافي والسياسي بين الدول العربية؟
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.