هل تخيلت يوما أنك ستستيقظ من نومك لتجد أن العالم قد تبخر فجأة! هذا ما تساءلت عنه دراسة جديدة نظرت في احتمالية تبخر الكون بفعل انحناءات الزمكان
وفقا لنظرية ستيفن هوكينغ الشهيرة، ستتبخر الثقوب السوداء بمرور الوقت، حيث ستفقد كتلتها تدريجيا في شكل نوع غريب من الإشعاع -يعرف باسم إشعاع هوكينغ- وذلك عندما يؤثر “أفق الحدث” (Event horizon) على الحقول الكمومية المحيطة.
ويشير مصطلح “أفق الحدث” إلى الحد المحيط بالثقب الأسود أو الثقب الدودي، والذي لا يمكن لأي جسم أو معلومة موجودة في مجال الثقب الأسود أن تهرب منه.
لماذا نرى الثقوب السوداء “سوداء”؟
وبتبسيط شديد، يمكن تشبيه “أفق الحدث” بذلك الحد الدائري الظاهر حول الثقب الأسود، والذي يمثل الحد الفاصل بين نقطتين تكون لإحداها جاذبية قوية تمنع المعلومات من الهرب منها (المنطقة داخل ذلك الحد الدائري)، وأخرى يمكن للمعلومات الهرب منها (المنطقة الخارجية لذلك الحد الدائري).
ولأن المعلومات -بما فيها الضوء- لا يمكنها الهرب من مجال الجذب الشديد للثقب الأسود، فإن تلك الثقوب ترى “سوداء”، لأنها لا تبعث بأي إشعاع مرئي (فوتونات) أو معلومات قادمة من داخل أفق الحدث.
وطبقا لنظرية هوكينغ، فإن هناك احتمالية لنشوء زوجين من الجسيمات متناقضة الشحنة بالقرب من أفق الحدث. وأحيانا، قد ينطلق أحد تلك الجسيمات إلى داخل أفق الحدث، بينما يبقى الجسيم الآخر بالقرب من أفق الحدث. وإن حدث ذلك، فإن هذا الجسيم الأخير قد يتمكن من الهرب إلى الفضاء حاملا معه طاقة الثقب الأسود، مما يلعب دورا حاسما في تبخر الثقوب السوداء. وتعرف هذه الظاهرة العلمية باسم “إشعاع هوكينغ”.
وكلما قلت كتلة الثقب الأسود، كان أفق الحدث الخاص بها شديد الانحناء، ومن ثم يكون معدل تبخر الثقب الأسود صغير الكتلة أسرع من الثقب الأسود كبير الكتلة.
كون يتبخر من حولنا
ولكن يبدو أن هذا الانحناء الشديد لأفق الحدث ليس الأمر الحاسم في تبخر الثقوب السوداء في نهاية المطاف. فوفقا لدراسة جديدة أجراها علماء الفلك في جامعة “رادبود” (Radboud University) في هولندا، فإن أي موقع في الزمكان ذي انحناء كاف قد يؤدي نفس الغرض. وأودعت الدراسة على موقع “أركايف” (arXiv) المعنِي بنشر نسخ الأبحاث الأولية.
ومن ثم فإن ذلك يشير إلى أن “إشعاع هوكينغ”، أو شيئا مشابها جدا له، قد لا يقتصر فقط على الثقوب السوداء فقط، بل إنه من الممكن أن يكون موجودا في كل مكان، مما يعني أن الكون يتبخر ببطء شديد أمام أعيننا، وذلك وفقا للبيان الصحفي الذي نشرته جامعة “رادبود” في 2 من يونيو/حزيران الجاري.
ويذكر مايكل ووندراك، المؤلف الأول للدراسة وعالم الفلك في جامعة “رادبود” “إننا أثبتنا بذلك أن هناك شكلا جديدا من الإشعاع، وذلك بالإضافة إلى إشعاع هوكينغ المعروف جيدا”.
والجدير بالذكر أن إشعاع هوكينغ لم نستطع رؤيته، غير أن النظرية والتجارب تشير إلى أنه أمر ممكن.
تأثير يشابه إشعاع هوكينغ
ولكن كيف لأي انحناء في الزمكان ذي كتلة كافية أن يسهم في تبخر الكون من حولنا؟
ببساطة شديدة، إن كنت على دراية بالثقوب السوداء، فإنك حتما تعرف أنها تعمل كمكانس كونية تبتلع -بفضل جاذبيتها الشديدة- أي شيء في محيطها بلا رجعة، أليس كذلك؟
حسنا، يعد هذا هو الأقرب إلى الحقيقة. غير أن الثقوب السوداء ليست لديها قوة جاذبية أكبر من أي جسم آخر يحمل كتلة مكافئة. ما يميزها هو الكثافة (الكتلة نسبة إلى الحجم)، إذ إن لهذه الثقوب السوداء كتلة كبيرة معبأة في مساحة صغيرة.
ومن ثم فإن أي شيء في نطاق جسم بهذه الكثافة، لن يتمكن من الهرب، إذ تصبح الجاذبية قوية بدرجة تتغلب على السرعة المطلوبة للتفلت من نطاق هذا الجسم؛ حتى أن الضوء ذاته (وهو أسرع شيء في الكون) لا يمكنه الهرب من نطاق كهذا.
وبالمثل كما يحدث في تولد الجسيمات المتناقضة عند أفق الحدث، فإن هناك ظاهرة مشابهة تحدث في الحقول الكهربائية، وتعرف باسم “تأثير شفينغر” (Schwinger effect). ففي وجود حقل كهربائي قوي تنتج أزواج من الجسيمات المتناقضة (الإلكترون والبوزيترون) -تعرف باسم أزواج “شفينغر”- تتسبب في اضمحلال الحقل الكهربائي. غير أن هذا التأثير لا يحتاج إلى أفق حدث، بل فقط إلى حقل كهربائي قوي جدا.
انفصال الجسيمات لا يقتصر على أفق الحدث
ولذا تساءل الفريق إن كانت هناك وسيلة لظهور الجسيمات في الزمكان المنحني بطريقة مشابهة لتأثير “شفينغر”. وللحصول على إجابة، قام ووندراك ورفاقه بإعادة إنتاج هذا التأثير رياضيا في ظل مجموعة متنوعة من ظروف الجاذبية.
وتعقيبا على نتائج تلك التجارب، يقول والتر سويليكوم، المشارك في الدراسة “لقد أظهرنا أن انحناء الزمكان يتعدى تأثير الثقب الأسود، ويلعب دورا كبيرا في توليد الإشعاع. إذ تكون الجسيمات هناك منفصلة بالفعل بفضل القوى المدارية للحقل الجاذبي”.
ويمكن لأي شيء ذي كتلة أو كثافة مناسبة أن ينتج انحناء كبيرا وملحوظا في الزمكان. ببساطة، يتسبب الحقل الجاذبي لهذه الأجسام في انحناء الزمكان من حولها. وتحقق الثقوب السوداء الدرجة القصوى في هذا الإنحناء، ولكن الزمكان ينحني أيضا حول النجوم الميتة الكثيفة مثل نجوم النيترون والأقزام البيض، بالإضافة إلى الأجسام ذات الكتلة الضخمة مثل تجمعات المجرات.
وفي مثل هذه السيناريوهات، اكتشف الباحثون أن الجاذبية تكون كافية لتوليد جسيمات جديدة تشبه إشعاع هوكينغ، دون الحاجة إلى حدث أفق.
ويؤكد هاينو فالكي أن ذلك “يعني أن الأجسام التي ليست لديها حدث أفق -مثل بقايا النجوم الميتة وغيرها من الأجسام الكبيرة في الكون- لديها أيضا هذا النوع من الإشعاع”.
تبخر الكون ومستقبله البارد
وبعد فترة زمنية طويلة جدا، سيؤدي ذلك إلى تبخر كل شيء في الكون تدريجيا، تماما كما يحدث مع الثقوب السوداء. وبالطبع فإن نتائج كهذه لا تغير من فهمنا لإشعاع هوكينغ فحسب، بل أيضا من رؤيتنا للكون ومستقبله.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.