اتهام العائلة ونبوءة مورينيو.. متى قُصم ظهر ديلي آلي؟


في دنيا اليوم، تتسارع الأحداث إلى حدٍّ جنوني، لا يمكنك الحفاظ على مشاعرك تجاه الحدث ذاته لأكثر من 24 ساعة. الفوز بكأس العالم أو الكرة الذهبية أو الأوسكار لم يعد حدثا يجذب الأنظار حوله لشهور كما كان في الماضي؛ ما هي إلا ساعات حتى يظهر ما هو أقدر على جذب تفاعل الجمهور، وفي بعض الحالات، يظهر الطرح المضاد تماما الذي يُشبع رغبة تحول المشاعر لدى الجماهير.

ما رغبة تحول المشاعر؟ حقيقة، هو ليس مصطلحا علميا بقدر ما هو اللفظ الأنسب لوصف ما تريده غالبية الجماهير اليوم؛ المفاجأة الصادمة النارية “الحرّاقة”، تلك التي تخبر العالم أن ما يظنونه صحيحا ليس صحيحا، وأن العكس هو ما قد حدث، ذلك الطيب اتضح أنه شرير، وهذا المجرم كُشف لنا أنه بريء، وتلك الحقيقة اتضح لنا أنها ليست الحقيقة، بكل ما ينتجه ذلك من أدرينالين ودوبامين في أدمغتنا.

وفي هذا السياق، ظهر ديلي آلي بقصة مناسبة تماما لتلك الرغبة؛ المذنب الذي خرج ليكشف أنه ضحية، قبل أن يكشف الطرف الآخر أنه فقط مذنب من نوع مختلف. كل ذلك في ظرف ساعات تدفقت فيها مشاعر الغضب والتعاطف والسخرية بسرعة مرعبة كما يحدث دوما، حتى فقدت المشاعر بوصلتها. (1)

خطوة إلى الوراء

حين وصل جوزيه مورينيو إلى توتنهام، وبدأ يخفت معه نجم ديلي آلي، النجم الإنجليزي الصاعد بسرعة الصاروخ. (غيتي إيميجز)

الحكاية بدأت في 2019، حين وصل جوزيه مورينيو إلى توتنهام، وبدأ يخفت معه نجم ديلي آلي، النجم الإنجليزي الصاعد بسرعة الصاروخ، ولكن قصته تلك تكررت عشرات المرات قبل ذلك؛ قصة اللاعب الإنجليزي الذي يصعد بسرعة الصاروخ ثم يخيب التوقعات. (2)

ولكن ما حدث مع آلي كان مختلفا بعض الشيء، وحقبة مورينيو بإمكانها تفسير ذلك الأمر، تماما كما حدث مع لاعبين كُثر يشبهونه على مستوى الانطباع الأول؛ اللاعب الموهوب الذي لا يبدو مستعدا لبذل الجهد ذاته الذي يطلبه السبيشيال وان من الفريق كله، والسبب أنه يمتلك قدرا من المهارة لا يتوفر لأقرانه.

في هذا السياق، كتب بارني روني مقالا في الغارديان عام 2020، بدأه بالعبارة التي يمكنها تلخيص كل شيء؛ وهي أن اللاعب الذي يصفه جوزيه مورينيو بلفظ “الموهوب” عليه أن يشعر بالقلق، لأن ذلك الوصف -بناء على قصص المدرب البرتغالي- يلمح لكون اللاعب غير مستعد لبذل الجهد. (3)

دار في هذه الحلقة المفرغة عدد من “الموهوبين” مع مورينيو قبل ديلي آلي؛ خوان ماتا وإيدين هازارد في تشيلسي، وأنتوني مارسيال في مانشستر يونايتد، وتانغي ندومبيلي في توتنهام. كلهم لاعبون وصفهم السبيشيال وان بالموهوبين، ثم تصادم معهم، وكان ذلك مُفسرا لأن يتحول ديلي آلي إلى أحدث الضحايا، خاصة أنه ينتمي إلى جيل مواقع التواصل الاجتماعي والنجومية قبل الأوان، الذي يمتلك مورينيو أزمة مبدأية معهم قبل أن يقوموا بأي شيء. (4)

آلي عانى، ولم يستطع التكيف، وانتهت مسيرته في توتنهام، ثم حاول البحث عن نفسه في تركيا، فاختفى هناك.. لا، ليس بالمعنى المجازي، بل اختفى بالفعل لأيام ولم يعرف عنه أحد شيئا، قبل أن يعود إلى إنجلترا من بوابة إيفرتون، وكأن ظله هو الذي عاد؛ كان كالشبح الذي يحضر جسدا فقط بلا أي روح أو رغبة. الجميع ظن أن القصة انتهت هنا، ولكن خطوة اتخذها اللاعب فتحت الباب أمام تفسير حكايته من زاوية أخرى تماما. (5)

أنا ديلي آلي.. وهذه قصتي

ما قام به آلي لم يكن مجرد حوار تلفزيوني، ولكنه حكى قصة حياته الكاملة، وكشف عن أوجه المعاناة المختبئة خلف ابتسامته التي يجب أن يظهر بها دائما. اللاعب فتح قلبه بصفته إنسانا، واعترف أنه ضحية لأب وأم انفصلا، فعاد الأب إلى موطنه في نيجيريا وتزوج، وأدمنت الأم الكحول وكان بيتها ملجأ لأصدقائها، حتى تحرّش أحدهم به، ثم أُرسل إلى أفريقيا لـ”التأديب” ولم يحتضنه والده، ليعود إلى إنجلترا مرة أخرى ثم تتبناه عائلة أحد أصدقائه. (6)

نتاج ذلك، بحسب آلي، أنه بدأ التدخين في السابعة من عمره، ثم الاتجار بالمخدرات في الثامنة، وعُلِّق على جسر بواسطة أحد جيرانه في الحادية عشرة؛ حكايات كلها أفقدته الثقة في البشر ربما، وجعلته يبحث عن الأمان رفقة آلان وسالي هيكفورد وابنهما هاري، وهم أفراد العائلة التي قامت بتبنيه لتبدأ حياته في التحول منذ الثانية عشرة من عمره. (7)

بمجرد أن قص آلي حكايته، وحصد تعاطف الملايين مع تلك القصة المأساوية التي وقع ضحيتها، ظهر مصدر من عائلته ليُكذِّب كل ما قاله، ويقول إن دماغه قد غُسل، دون أن يحدد منْ فعل ذلك، وأن اللاعب لم يُتبنَّ من أي عائلة، وأنه حين ذهب إلى أفريقيا لم يكن ذلك للتأديب كما ادعى، ولكنه التحق بواحدة من أفخم المدارس في لاغوس، وكان لديه سائق خاص يصطحبه منها وإليها يوميا. (8)

بدورها، نفت الأم إدمانها للكحول في وقت سابق، وأكدت أنها أرادت فقط لابنها أن يعيش حياة أفضل يكون أكثر قربا فيها من أحلامه مع كرة القدم. المهم أن تلك القصة أنتجت حقيقة لا خلاف عليها، أن ديلي آلي انفصل عن عائلته نهائيا في 2014، ورفض الطلب المتكرر لوالدته وأخته وأيٍّ من أفراد العائلة بأن يعود إليهم، رغم التأكيد أنهم يريدونه هو فقط ولا يطمعون في أمواله. (9)

معاناة في كل الأحوال

الآن، أصبح لدينا روايتان، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون إحداهما حقيقية والأخرى كاذبة، ولكن في تلك الحالة، وبالبحث أكثر داخل التفاصيل، بدا أنها ستكون أحد تلك المواقف التي يحكي فيها الطرفان الحكاية نفسها، ولكنْ كلٌّ منهما ينظر إليها من زاويته، ويستقبلها من الناحية التي تُظهره ضحيةً، أو بالأحرى يشعر بها من الزاوية التي تؤلمه، كون الجميع اتفق على أنها حكاية مؤلمة بغض النظر عن تفاصيلها.

ولكن بغض النظر عن تفاصيل الروايتين، من الواضح أن هناك طفلا شعر بأن والديه قد تخليا عنه أكثر من مرة، الأولى في السابعة من عمره حين أرسلته والدته إلى نيجيريا للعيش مع والده، سواء للتأديب أو للدراسة في أفخم مدارس لاغوس، ثم عاد إلى والدته مرة أخرى لترسله للعيش مع عائلة صديقه، سواء لإدمانها الكحول أو ليكون قريبا من حلمه بوصفه لاعب كرة قدم حسب ما قالته. (10)

في تقرير يعود إلى عام 2018، كشف “جاك أوتمان” عبر “بي سوكر” أن ديلي آلي، عند عودته إلى إنجلترا، انضم إلى نادي ميلتون كينز دونز الذي يقع في شمال لندن، الأمر الذي اضطره للعيش في حي تنتشر فيه الجريمة والمخدرات إلى آخرها من “مستلزمات” الأحياء الفقيرة في أغلب دول العالم. (11)

أوتمان ذكر في تقريره مسألة إدمان والدته للكحول، وكذلك نفي الوالدة في حديث لاحق، ولكن بعيدا عن تلك التفصيلة، فقد أكد عدم قدرتها على رعايته، الأمر الذي جعلها ترسله إلى عائلة هيكفورد التي تبنَّته، نتيجة شهادة أحد المدربين الذين أشرفوا على تدريبه في تلك المرحلة، بأن الأمور في المنزل الذي عاش فيه ديلي مع والدته كانت فوضوية للغاية، ما جعله يعاني في كثير من المرات لمجرد الحضور إلى التدريب. (12)

هنا تطرأ علامة استفهام حول موقف الأب المليونير من حياة ابنه في حي يشتهر بالجريمة، وعدم تدخله بعد فشل والدته في الإنفاق عليه للدرجة التي دفعتها لإرساله إلى عائلة أخرى، والفوضى التي منعته من الحياة في بيت والدته حتى وإن لم تكن مدمنة للكحول، ولكن هذا القدر من الفوضى الذي اعترف به أحد مدربي اللاعب يؤكد تردد العديد من الأشخاص على المنزل، ويجعل رواية التحرش التي تحدث عنها آلي أقرب للمنطق. وإجمالا، فإن هذه التفاصيل حدثت لطفل ما زال يبدأ حياته ولا يفهم لماذا يحدث معه كل هذا، ألا يكفي ذلك لجعله يتشوه نفسيا حتى وإن لم يتحدث بأي شيء مع غاري نيفيل؟

من جانبه، فقد أكد الأب لصحيفة “صنداي ميرور” في 2017 أنه كان مستعدا لدفع أي مبلغ لكي يشاهد ابنه يلعب ويلتقي به بعد كل السنوات التي مرت، وقبل ذلك بقليل، قرر ديلي إزالة اسم “آلي” من على قميصه ليكتفي باسمه هو ويترك اسم العائلة، وبوضع القصتين جنبا إلى جنب، يمكنك وضع يدك على مشكلته الأساسية مع والده؛ أنه لم يبحث عنه بعد عودته لإنجلترا إلا بعد أن أصبح نجما شهيرا، وربما يفسر ذلك قراره بمقاطعة العائلة بمجرد انضمامه إلى توتنهام. (13)

معاناة أخرى في الخفاء

آلي كان يبدو متراخيا، لذلك قسى عليه مورينيو رغبة في أن يجعله أكثر صلابة، ولكنَّ لاعبا عاش قصة كالتي عاشها آلي في طفولته لم يتحمل الطريقة. (غيتي إيميجز)

“لطالما كنت أخوض حربا ضد نفسي، حربا لا أحد يعلم بها لأنني كنت أبتسم أمام الإعلام والجماهير، كنت أظهر للجميع بأنني سعيد، ولكنني كنت في الواقع بصدد خسارة تلك الحرب داخليا”.(14)

هذه العبارة كانت الأكثر انتشارا من حوار ديلي آلي، كون الملايين حول العالم يعتقدون أن لاعب كرة القدم لا يمكن إلا أن يكون سعيدا، لأنه يسجل ويحتفل ويقفز ويبتسم، وقبل كل هذا يمتلك أموالا كثيرة لا “تجوز” معها المعاناة، وبناء عليه، فإن الحديث عن “العجز عن تحمل الضغوط” لن يقابل إلا بالاستهجان الجماهيري.

وسط كل ذلك؛ لم ينلَ فصل مورينيو من الحكاية حقه من الاهتمام بسبب قسوة باقي الفصول، واتجهت الأنظار كلها لرواية آلي وتكذيب العائلة، ولم يُتعامَل مع القصة نفسها من زاوية كرة القدم، حيث إن كل ما حدث مع آلي وعائلته كان قبل احترافه لكرة القدم، ولكن وصوله إلى حالة الانطفاء التي بدأت تُنهي مسيرته بالتدريج تزامن مع صدامه مع مورينيو.

بدمج الحكايتين في سياق واحد؛ ربما تكون سياسة مورينيو، والعديد من المدربين الذين ينتهجون الاستفزاز والضغط على اللاعب لإخراج أفضل ما فيه، ما هي إلا قنبلة قد تتسبب في إنتاج مزيد من القصص المأساوية، لأن افتراض أن اللاعبين المحترفين مجرد آلات مُصمَّمة للضغط عليها دائما يجعلهم ضحايا محتملين للانهيار عند لحظة ما.

آلي كان يبدو متراخيا، لذلك قسى عليه مورينيو رغبة في أن يجعله أكثر صلابة، ولكن البشر لا يتشابهون فيما بينهم؛ حيث نجحت تلك الخطة مع جون تيري وماركو ماتيراتزي والعديد من الأسماء التي تعامل معها السبيشيال وان بطريقته المعتادة، ليصبحوا أفضل ونجح بالفعل، ولكنَّ لاعبا عاش قصة كالتي عاشها آلي في طفولته لم يتحمل الطريقة ذاتها، لدرجة جعلته يفكر في اعتزال الشيء الوحيد الذي يحبه في الرابعة والعشرين من عمره.

حين تشاهد مدربا يُعنِّف لاعبه قد تعتقد أن الأمر لا يستحق كل هذه الدراما، ولكن إذا كان لقصة آلي مغزى، فهو وضعه قصة مورينيو في السياق نفسه الذي تحدث فيه عن مأساة طفولته، وكأنها القشة التي قصمت ظهره، أو الخنجر الذي نكأ جراح الماضي وأخرج تراكماتها للسطح، وإن كانت هناك العديد من الأسئلة التي طُرحت في هذه القضية بعيدا عن كرة القدم، فإن السؤال الكروي الذي بدا أكثر منطقية كان: ماذا لو كان اللاعب المتراخي يخوض معركة أنت -فعلا- لا تعلم عنها شيئا؟

_____________________________________

المصادر

  • 1 – مقابلة ديلي آلي مع غاري نيفيل “الآن وقت الحديث”
  • 2 – تحذير جوزيه مورينيو لديلي آلي تحقق – ماركا
  • 3 – قصة ديلي-جوزيه لم تنته بعد، لكن الخوف من آلي ربما بلغ ذروته في 2021 – الغارديان
  • 4 – المصدر السابق
  • 5 – اختفاء ديلي آلي في تركيا
  • 6 – مقابلة ديلي آلي مع غاري نيفيل “الآن وقت الحديث”
  • 7 – المصدر السابق
  • 8 – عائلة ديلي آلي تكذب تصريحاته
  • 9 – والدة ديلي آلي تنفي إدمانها للكحول
  • 10 – يكشف والدا توتنهام ونجم إنجلترا ديلي آلي عن حزنهما لعدم وجود دور في حياته – ذا صن
  • 11 – من النشأة حول المخدرات والسلاح إلى أن تصبح أحد أكبر نجوم الدوري الإنجليزي الممتاز – بي سوكر
  • 12 – المصدر السابق
  • 13 – والد ديلي آلي يستعد لدفع أي مبلغ مقابل رؤية ابنه يلعب
  • 14 – مقابلة ديلي آلي مع غاري نيفيل “الآن وقت الحديث”




اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post Russian drone strikes hit Ukrainian port key to grain exports
Next post الدعم الذي أحصل عليه للترشح للرئاسة غير مسبوق وناجح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading