كان لافتا تحرك إسرائيل السريع الهادف إلى احتواء المواجهة المسلحة بين الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وخصمه قائد قوات “التدخل السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي). فحسب ما ذكرته وسائل الإعلام في تل أبيب، فقد بادرت إسرائيل للاتصال بطرفي الصراع بهدف إقناعهما بوضع السلاح والتوافق على تسوية تنهي الخلاف بينهما.
وقد عمدت إسرائيل إلى إدارة جهود الوساطة عبر تقسيم أدوار بين مؤسساتها “السيادية”، حيث تولت وزارة الخارجية، ممثلة في وكيلها العام رونين ليفي، مهمة التواصل مع فريق البرهان، في حين تولى جهاز الموساد الاتصال بفريق حميدتي.
وقد وصل التحرك الإسرائيلي ذروته بتوجيه وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين دعوة علنية لكل من البرهان وحميدتي إلى عقد اجتماع “مصالحة” في تل أبيب.
ويعكس تحرك إسرائيل السريع لمحاولة التوسط لإنهاء القتال في السودان قلقها الكبير من انعكاسات تواصل الصراع المسلح السلبية على فرص التوقيع على اتفاق تطبيع مع السودان، لاسيما وأن طرفي الصراع مرتبطان بمسار التطبيع.
فقد كانت إسرائيل تأمل أن يتم التوقيع على اتفاق التطبيع مع السودان حتى قبل أن تنتقل السلطة إلى القوى المدنية. ومما يشي بعمق رهان تل أبيب على التطبيع مع السودان، كشف قناة “13” الإسرائيلية قبيل تفجر المواجهات بين البرهان وحميدتي أن حكومة بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس جون بايدن حاولتا إقناع السودان بالانضمام إلى منتدى “النقب”، الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، كلا من مصر والإمارات والمغرب والبحرين. وحسب القناة، فقد تحرك الإسرائيليون والأميركيون بالفعل لإقناع القيادة العسكرية السودانية بالمشاركة في اجتماع وزراء خارجية دول “منتدى النقب” والذي كان مقررا أن يعقد في الرباط شهر مايو/أيار.
وقد راهنت إسرائيل على اتفاق التطبيع في منحها مكاسب إستراتيجية وأمنية واقتصادية هائلة، حيث رأت أن الاتفاق يمكن أن يمهد لمنحها موطئ قدم في السودان، بحيث تتحول الخرطوم إلى قاعدة انطلاق للعمل الدبلوماسي والأمني والأنشطة الاقتصادية الإسرائيلية في عمق القارة الأفريقية.
ومما أجج حماس إسرائيل للاستثمار من أجل محاولة التوقيع على اتفاق التطبيع مع السودان تهاوي رهاناتها على العلاقة مع جمهورية جنوب السودان. فعلى الرغم من العلاقة التاريخية التي ربطت إسرائيل بقادة جنوب السودان، فإن عدم استقرار الحكم هناك بسبب المواجهات المسلحة بين الحكومة والمتمردين مسّ بقدرة تل أبيب على استغلال العلاقة بهذه الدولة في تحقيق مصالحها في القارة السوداء.
كما راهنت إسرائيل على عوائد التعاون الأمني والاستخباري مع الأجهزة الأمنية السودانية بعد التوقيع على اتفاق التطبيع، لاسيما في كل ما يتعلق بـ”مخاطر” تتهدد الأمن الإسرائيلي، مثل عمليات تهريب السلاح التي يمكن أن تتم عبر الأراضي السودانية لصالح قوى وجماعات في حالة عداء مع إسرائيل. في الوقت ذاته، فإن موانئ السودان على البحر الأحمر تحوز على أهمية إستراتيجية بالنسبة لإسرائيل، حيث راهنت تل أبيب على تمكين قطع سلاح البحرية الإسرائيلية من استخدام هذه الموانئ أثناء توجهها إلى بحر العرب والخليج العربي لتنفيذ أنشطة عملياتية واستخبارية.
من ناحية أخرى، فإن متاخمة السودان لليبيا يعد أحد الاعتبارات الجيوإستراتيجية التي تحفز إسرائيل على الاسثتمار في محاولة التوقيع على اتفاق تطبيع مع الخرطوم، حيث أملت تل أبيب أن تساعد العلاقة الرسمية مع الخرطوم في مساعدتها في مراقبة الأوضاع في ليبيا. وتخشى إسرائيل أن يسهم عدم استقرار الأوضاع السياسية في ليبيا إلى تحولها إلى مصدر لتهريب السلاح إلى حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. فقد سبق أن دعت تل أبيب أن الكثير من السلاح “الليبي” قد وصل إلى قطاع غزة عام 2011 بعيد الإطاحة بنظام معمر القذافي.
ولا يمكن إغفال العامل الاقتصادي كأحد الاعتبارات التي تحفز تل أبيب للتوقيع على اتفاق التطبيع مع السودان. فتدشين شراكات اقتصادية مع السودان سيمكّن إسرائيل من استغلال الموارد الطبيعية هناك، فضلا عن إمكانية تحويل الخرطوم إلى محطة لنقل البضائع إلى قلب أفريقيا.
لكن ما يثير إحباط إسرائيل أن قدرتها على التأثير على مجريات الأمور في السودان محدودة للغاية، لأن أوراق القوة التي تحوزها القوى الدولية والإقليمية التي تؤثر على طرفي الصراع أكبر من تلك التي تحوزها إسرائيل رغم علاقتها الوثيقة بالبرهان وحميدتي.
ومما يزيد الأمور تعقيدا بالنسبة لإسرائيل حقيقة أن بعض القوى الإقليمية التي تدعم طرفي الصراع والتي لا تبدي حماسا لإنهائه، ترتبط مع تل أبيب بشراكات وعلاقات خاصة، مما يقلص من هامش المناورة أمامها.
ومما لا شك فيه أنه على الرغم من ارتباط البرهان وحميدتي بمسار التطبيع، فإن إسرائيل تفضل الأخير لأنه أبدى حماسا كبيرا للتوصل لصفقات معها، حيث سارع إلى فتح أبواب الخرطوم أمام ممثلي جهاز الموساد حتى من دون إعلام مجلس السيادة السوداني، مما أثار، في حينه، انتقادات المكونين العسكري والمدني. وقد أوكل حميدتي لشقيقه اللواء عبد الرحيم دقلو إدارة العلاقة مع إسرائيل، حيث زار الأخير تل أبيب علنا والتقى قيادات عسكرية وأمنية إسرائيلية.
وقد كان لافتا أن حميدتي بذل جهودا كبيرة لاستمالة إسرائيل وإقناعها بالوقوف إلى جانبه عبر التماهي بشكل مبتذل مع السردية الإسرائيلية بشأن الصراع مع الشعب الفلسطيني. فقد حرص يوسف عزت المستشار السياسي لحميدتي على إجراء مقابلات مع عدد من قنوات التلفزة الإسرائيلية وتقديم زعيمه كشريك لإسرائيل في الحرب على “الإرهاب الإسلامي”.
ففي مقابلة مع قناة “كان” الرسمية الإسرائيلية، شبّه عزت القوات التي يقودها البرهان بـ”الفصائل الفلسطينية الإرهابية التي تقاتل إسرائيل”. ووصل ابتذال عزت إلى حد القول “ما نتعرض له تعرضت له إسرائيل آلاف المرات من الجماعات الإرهابية مثل حماس وغيرها من الجماعات التي يعرفها المواطنون الإسرائيليون جيدا”.
وليس هذا فحسب، بل ذهب حميدتي إلى حد إزالة كلمة “قدس”، التي تمثل اختصارا لاسم “قوات الدعم السريع” من شعار هذه القوات على مواقع التواصل الاجتماعي، في رسالة واضحة إلى الإسرائيليين، مما أثار حفيظة كثير من السوادنيين والعرب، كما عكست ذلك التعليقات التي زخرت بها مواقع الواصل العربية على هذه الخطوة.
ومع ذلك، فإن إسرائيل لا يمكنها أن تقف إلى جانب طرف على حساب طرف آخر في الصراع الدائر في السودان، ليس فقط لأن طرفي الصراع محسوبان على مسار التطبيع رغم تفاوتهما في الحماس له، بل أيضا لأن مواردها السياسية والعسكرية لا تمكّنها من سلوك هذا المسار الشائك أسوة بالقوى الإقليمية والدولية الأخرى، تحديدا في ظل مواجهة تل أبيب تحديات عسكرية وأمنية على جميع ساحات المواجهة.
من هنا، وعلى الرغم من أن إنهاء الصراع المسلح في السودان يعد مصلحة إستراتيجية من الطراز الأول لإسرائيل، فإنه ليس بوسعها عمل الكثير من أجل تحقيق هذا الهدف.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.