بمقاتليها المحترفين الذين لا يرتدون أي شارات عسكرية، وبأقنعتهم السوداء التي تُخفي خلفها وجوها لا تطل منها سوى عيون حازمة، وبملابسهم النظامية المموهة، عُرفت مجموعة “فاغنر” الروسية التي ذاع صيتها في أوكرانيا وسوريا، بجانب مناطق أخرى في العالم ينشط فيها الدب الروسي مثل ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى ومالي والساحل الأفريقي.
لطالما شكَّلت “فاغنر” ذراعا باطشا لموسكو والكرملين، لكنّ الساعات الماضية حملت لها فصلا جديدا، وذلك بعدما أعلن قائدها “يفغيني بريغوجين” تمرده وقواته على القيادة العسكرية الروسية، بعد أن استولى على مدينة “روستوف” الجنوبية بكل ملحقاتها العسكرية، بما في ذلك قيادة المنطقة الجنوبية، والمطار، مهددا عبر تسجيل صوتي بالتحرك صوب العاصمة موسكو، في تطور يستهدف الإطاحة بالقيادة العسكرية ممثلة في وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان فاليري غراسيموف.
يقود “يفغيني بريغوجين” البالغ من العمر 62 عاما، صاحب الصوت الأجش، والبنيان الجسدي الضخم، مع صلعة تزيد وجهه المتجهم صرامة، جيشا خاصا يضم الآلاف من العسكريين المتقاعدين والسجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون الروسية، واستطاع مؤخرا أن يحقق أكبر انتصار لروسيا منذ 10 أشهر، باستيلائه على مدينة “باخموت” الأوكرانية الشهر الماضي، قبل أن يقرر خوض أول تمرد مسلح في الأراضي الروسية منذ الحروب الشيشانية قبل عقود، وذلك بعد أشهر من صراعه مع الدببة من قادة الجيش الذين اتهمهم بعدم الكفاءة وحجب الذخيرة عن مقاتليه، غير أن المواجهة الأخيرة ذات التفاصيل الغريبة والمبهمة مَثَّلث مفاجأة للجميع، بما في ذلك الرئيس الروسي بوتين نفسه على ما يبدو.
خرجت فاغنر عن سيطرة الكرملين إذن وهي التي كانت طول سنوات ذراعه الطولى، وعلى مدار ساعات تعددت التكهنات حول المآلات المحتملة لهذا التطور، بيد أن الأزمة لم تدم طويلا، ففي ساعة متأخرة من مساء أمس السبت، أعلن بريغوجين قبول وساطة الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، وأمر قواته بالعودة إلى معسكراتها، وعكس تحركها نحو العاصمة بعد أن كانت على بُعد 200 كيلومتر فقط من دخولها، مقابل ضمانات وفرها الكرملين شملت إسقاط الدعوى الجنائية ضد بريغوجين وخروجه إلى بيلاروسيا.
كيف وصل الصراع إلى الذروة؟
لم تكن سماء أوكرانيا الملبدة بدخان الحرب بأشد ضبابا من أروقة موسكو السياسية في الشهور الأخيرة، إثر خلاف بين القيادة العليا للجيش الروسي، ممثلة في وزير الدفاع ورئيس الأركان، وبين قائد مجموعة “فاغنر” المعروف في الإعلام الغربي بلقب “طباخ بوتين”. فمنذ اندلعت الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط عام 2022، اعتقد “يفغيني بريغوجين” -كما ظهر من تصريحاته لاحقا- بأن الجيش الروسي لن يصمد وقتا طويلا من دون قواته، وأن أولئك القادة الذين نعتهم “بعدم الكفاءة” لا يستطيعون بقوتهم وحدها تحقيق نصر حاسم ضد القوات الأوكرانية المدعومة غربيا.
كان زعيم “فاغنر” يرى أن قواته تتفوق على الجيش الروسي خاصة مع معارك المدن، وهو ما أثبتت صحته الوقائع على الأرض، فقواته هي التي صنعت انتصار “باخموت” وليس الجيش. ومع كل ما قدمته قوى فاغنر للقيادة السياسية في موسكو، فإنها كانت ترى أنها تتعرض لنوع من التمييز، حيث اشتكت المجموعة علنا من أنها تفتقر إلى الذخيرة اللازمة للبقاء في مواقعها المتقدمة داخل ميدان القتال، ليهدد “بريغوجين” بعدها بسحب قواته من باخموت، بعدما فر منها الجيش الروسي من قبل.
تصاعدت الأحداث لتصل إلى مواجهة علنية بين الفريقين، بعدما أعلنت وزارة الدفاع، في تحدٍّ صريح لقائد فاغنر، مطالبة المقاتلين المتطوعين في المجموعة بتوقيع عقود معها، لدمج المرتزقة في الجيش، بغرض أن تخضع تلك القوات لاحقا لإمرة قيادة الجيش وتأثيره، وهو ما رفضه صديق بوتين المُقرب (سابقا) الذي رأى في تلك الخطوة محاولة يائسة لحصاره، وبرر رفضه بدعوى أن قواته بالفعل محكومة تماما بمصالح روسيا والقائد العام، وأن الجيش الروسي لا يمكنه تحمل كفاءة مجموعته، وقد لا يزودها بالذخيرة والسلاح لضمان استمرار كفاءتها.
ظل قائد فاغنر متحديا، رافضا الامتثال أو الكف عن تصريحاته ضد قيادات الجيش الروسي، لكنه أدرك أن لحظة تهميشه قد أُعِدَّ لها، وأن الإطاحة به أصبحت مسألة وقت ليس إلا، خاصة أنه قد جاوز بتصريحاته المتجرأة المدى حين قال إن روسيا قد تواجه ثورة مماثلة لثورة 1917 وتخسر حرب أوكرانيا ما لم تكن النخبة جادة بشأن المعركة، إلى جانب انحياز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمنيا إلى قائد الجيش في ذلك الصراع.
شهدت الساعات القليلة قبل الهجوم الأخير على مدينة “روستوف” أحداثا مهمة للغاية، بعد قصف الجيش الروسي أحد معسكرات فاغنر في أوكرانيا بالصواريخ وفق ادعاء بريغوجين، ورغم نفي القيادة العامة للجيش، ووصفها الادعاءات بأنها عمل مسرحي، فإن ذلك لم يكن كافيا لاحتواء الأزمة مع أهم طرف يقاتل إلى جانب الجيش في الأراضي الأوكرانية، وبدلا من ذلك وصل الصراع إلى الذروة وشهدت موسكو بوادر أول تمرد عسكري منذ عقود.
ما القوة الحقيقية لفاغنر؟
بعد نحو عام ونصف من الحرب الأوكرانية، اكتسب مقاتلو مجموعة فاغنر “سُمعة سيئة” كما هو حال قائدهم باعتبارهم الأقسى بين أولئك الذي يقودون الغزو الروسي لأوكرانيا، وتُقدِّر الاستخبارات الغربية أن فاغنر تضخمت صفوفها مؤخرا بسبب تلك الحرب إلى نحو 50 ألف مقاتل، بما في ذلك عشرات الآلاف من السجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون في جميع أنحاء روسيا، وهو أكبر رقم وصلت إليه على الإطلاق منذ تأسيسها في صيف عام 2014، خلال ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، لتتحول الميليشيا من مجرد مجموعة مرتزقة تساعد الجيش الروسي إلى قوة موازية تقاتل بدلا منه، وتقدم خدماتها في الميدان، ومع ذلك، تُحظر المجموعة رسميا من قِبَل الحكومة الروسية بسبب تجريم القانون إنشاء شركات عسكرية خاصة، ولم يكن وجودها معترفا به، فيما ظلت موسكو تنفي أن يكون لها أي صلة بها.
بعدما أثبتت فاغنر أنها لا غنى عنها، استخدم بوتين المجموعة لإعادة توجيه مصالح سياسته الخارجية، بما في ذلك تقديم الدعم العسكري لحلفاء روسيا، بشكل يسمح للكرملين بإنكار التورط في النزاعات، وتقليل الخسائر المباشرة في صفوف الجيش. وقد لعبت المجموعة أدوارا محورية في عدة بلدان، فقاتلت جنبا إلى جنب مع القوات الموالية للنظام السوري الذي استطاع بفضل ذلك الدعم دفع الدول العربية لإعادة الاعتراف به مرة أخرى، وإعادته إلى جامعة الدول العربية، كما قاتلت إلى جانب الجنرال الليبي خليفة حفتر، ورغم أنها أخفقت في مهمتها بسبب دعم تركيا لحكومة طرابلس، فإنها أسهمت في تثبيت وضع حفتر والإبقاء عليه في الخارطة السياسية. وبالمثل، أعادت فاغنر بناء نفوذ موسكو في دول مثل السودان ومالي وأفريقيا الوسطى، ودول أخرى.
تضاعفت قوة فاغنر بعدما تحولت من ميليشيا ذات مهام محدودة إلى شركة أمن عابرة للحدود، قبل أن تستفحل وتتحول إلى شبكة معقدة من الشركات التي تعمل في مجال التعدين وحراسة حقول النفط، والخدمات الأمنية، إلى جانب تجارة تُدر مئات الملايين من الدولارات شهريا، ورغم عدم وجود تقدير دقيق للأرباح وحجم الثروة التي يمتلكها طباخ بوتين، فإن الولايات المتحدة تعتقد أن فاغنر تحتاج إلى نحو أكثر من 100 مليون دولار شهريا لتمويل عملياتها في أوكرانيا، هذا بخلاف الاعتقاد الشائع أن المجموعة مدعومة من وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، التي تُمولها وتُشرف سرا عليها.
ماذا يدور في عقل بوتين وبريغوجين؟
لا يمتلك زعيم فاغنر قوات كافية فعليا للوقوف في وجه قوة بحجم الجيش الروسي، وإسقاط العاصمة موسكو، رغم أن دفاعاتها الضعيفة لم تصمد أمام الهجوم المضاد الذي شنته الطائرات المسيرة الأوكرانية، وهو ما جعله يحدد أهداف تمرده منذ البداية بأنه لا يسعى للانقلاب والإطاحة ببوتين، لكنّ عداءه الطويل مع قيادة الجيش الروسي هو ما قاد إلى ذلك الوضع. ورغم أن إذكاء الصراع بين أجنحة السلطة لطالما كان جزءا من لعبة سياسية حرص بوتين على استمرارها بين مراكز القوى من نخبته، لضمان ولائهم، فإن كل ذلك تغير مع الغزو الشامل لأوكرانيا، الذي أطلق العنان لطموحات بريغوجين العسكرية، والسياسية أيضا.
ورغم محاولة موسكو احتواء الصراع الحالي من خلال وساطة بيلاروسيا، فإن القرارات التي ستلي تلك الأزمة سيكون لها تأثير هائل على السياسة الخارجية لروسيا، وتدخلاتها العسكرية في السنوات القادمة، خاصة أن “فاغنر” أثبتت نفسها أكثر من مرة بوصفها قوة مقاتلة هائلة، سواء من خلال إحرازها انتصارات ميدانية في أوكرانيا ذات أهمية إستراتيجية، أو من خلال المعارك في سوريا، بجانب الدول الأفريقية التي دخلتها موسكو من بوابة فاغنر، لذا فأي تمرد من تلك المجموعة قد يُشكِّل تهديدا حيويا لمصالح روسيا في هذه الدول.
بشكل أكثر تحديدا، تكمن نقطة القوة الرئيسية التي يتمتع بها زعيم فاغنر في الوقت الراهن في كون قواته تُمثِّل رأس الحربة في الهجوم الروسي على أوكرانيا، وبالتالي فإن تراخي تلك القوات، أو انسحابها من مواقعها، يمكن أن يُحدِث تحولا جوهريا في الحرب. ومع تصاعد الخسائر الروسية في ساحة المعركة، يمكن أن يظهر التمرد في صفوف الجنود الروس، ومثل قادة روس آخرين مروا قبله، يشعر بوتين بالقلق من أن الهزيمة العسكرية في أوكرانيا قد تقود حتما إلى زوال نظامه، كون الهزائم العسكرية كانت دوما طريق النهاية، مثلما سرَّعت الهزيمة في أفغانستان نهاية الإمبراطورية السوفيتية.
لماذا انتهى التمرد سريعا؟ وماذا نتوقع في المستقبل؟
أكدت الرسائل النارية التي ألقاها يفغيني بريغوجين وهو ينسحب بقواته من أوكرانيا صوب مدينة روستوف الروسية أنه لم ينوِ القيام بانقلاب ضد الرئيس الروسي، وأن كل ما أراده هو تحقيق طلباته التي تمثَّلت في حصول قواته على الذخيرة والمَؤونة الكافية، هذا بخلاف رغباته غير المُعلنة في رفع يد الجيش عن مجموعته والامتناع عن استهدافه سياسيا وقانونيا بشكل شخصي. كان بريغوجين فيما يبدو يمارس نوعا من التفاوض الخشن بقوة السلاح، لكن يبدو أن تحركه خرج عن السيطرة ووضعه في مواجهة مباشرة ربما لم يكن يريدها مع الرئيس بوتين نفسه.
يدرك زعيم فاغنر أنه لم يكن بإمكانه أبدا السيطرة على موسكو بقوة السلاح، وبخلاف قوة الجيش الروسي التي كانت لتسحق قوته -نظريا- حال كانت دخلت العاصمة، فهناك على التخوم والأطراف عدة دول أعلنت استعدادها للدفاع عن روسيا بموجب منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي كازاخستان وأرمينيا وقرغيزستان وطاجيكستان، إضافة إلى بيلاروسيا التي دخلت على الخط بموجب صفقة توسط فيها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لإنهاء التمرد المسلح ضد القيادة الروسية، وهي التي سارع بريغوجين للقبول بها، وانسحب بقواته دون أي ضمانات، اللهم اكتفاء الكرملين بإسقاط الدعوى الجنائية ضده، ومنح ضمانات أمنية لمقاتليه.
يعي بريغوجين كذلك أن بقاءه مرتبط ببقاء النظام الروسي نفسه وأنه لا يمكنه التمرد عليه كليا، فقد تتمكن الاستخبارات الروسية ببساطة من خنق أنشطة فاغنر تماما كما أطلقت لها العنان من قبل، وفي اللحظة التي ستعلن فيها القيادة الروسية فاغنر مجموعة متمردة، سوف يخسر بريغوجين نفوذه في العديد من الدول حول العالم التي لن تخاطر بتوظيف ذراع يعتبره النظام الروسي مارقا، دون نسيان أن فاغنر موضوعة على قوائم العقوبات الأميركية والاتحاد الأوروبي، بفعل انتهاكات وجرائم حروب، وهو ما يجعل “طباخ بوتين” بدون خيارات حقيقية سوى الاستسلام، للخروج بأقل الخسائر الممكنة.
على الجانب الآخر، لا يبدو أن الرئيس بوتين -حتى الآن- عازم على تصفية فاغنر تماما بقدر رغبته في تحجيم المجموعة وتقليص نفوذها، فبعد كل شيء لا يمكن للكرملين على الفور استبدال الأدوار العسكرية التي تقوم بها المجموعة نيابة عنه في الكثير من دول العالم، كما لا يمكنه المخاطرة باستمرار الصدع في صفوف قواته المشاركة في حرب أوكرانيا تحديدا. لكن المؤكد أن العلاقة بين الكرملين وفاغنر لن تعود كما كانت من قبل، وأن موسكو استوعبت بالتجربة الصعبة أن الميليشيات سيف ذو حدين، أخطرهما الحد الذي ستُشهره في وجه صانعها، ولو بعد حين.
——————————————————————————————————————————–
المصادر:
- Russia accuses mercenary chief of armed insurgency after vowing to punish senior officers
- Mercenary chief seizes southern city in first insurrection in Russia in decades
- Moscow accuses Wagner president of insurgency, says troops enter Russia
- Ukrainian unit says Russian brigade flees suburbs of Bakhmut as Wagner chief unleashes speech in Russian army
- Russian military leaders urge Wagner boss to stop his ‘march for justice’ as Moscow beefs up security
- Wagner President Prigogine says his soldiers will not sign contracts with Russian military.
- Mercenary Prigozhin warns Russia could face revolution unless elite gets serious about war
- Yevgeny Prigozin: Hot Dog seller who rose to top of Putin’s war machine
- The Brothers Band: Wagner Group and the Russian State of the Internity of the League
- Signs of neo-Nazi ideology among Russian mercenaries
- Inside the stunning growth of Russia’s Wagner Group
- EXCLUSIVE: U.S. says Russian Wagner group bought North Korean weapons for Ukraine’s war
- Russia launches criminal case against Wagner group chief for ‘incitement to armed rebellion’
- Putin only has himself to blame him for infighting sweeping Kremlin insiders.
- What Was The February Revolution?
- Ukraine says it advances in south, stops Russian attack in east
- Wagner boss leaves Russia for Belarus in deal ends armed insurgency – Deleasurrection –
- Chechen leader offers to help quell Wagner’s Rebellion
- Chechen leader offers to help quell Wagner’s Rebellion
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.