يعدُّ “فاماديهانا” أو تقليب العظام أحد طقوس التعامل مع الموتى المتبعة في مدغشقر. خلال هذا الطقس، يفتح الناس قبور موتاهم كل بضع سنوات ويعيدون لفهم بأكفان جديدة، وفي كل مرة يحصل فيها الموتى على أكفانهم الجديدة يحصلون أيضا على رقصة جديدة بالقرب من القبور، فتُعزف الموسيقى في كل مكان، ويؤدي كل الحاضرين حركات راقصة. يكمن المغزى وراء هذه الطقوس في اعتقاد الناس أنهم يدفعون أرواح الموتى نحو الحياة الآخرة (1).
اختلاف الطقوس من ثقافة إلى أخرى
يسلط ذلك الضوء على الاختلاف الكبيرة بين المجتمعات في مراسم وطقوس توديع الأشخاص المتوفين. مثلا، يُعَدّ “الدفن في السماء” أمرا شائعا في التبت بين البوذيين الذين يؤمنون بقيمة إرسال أرواح أحبائهم نحو الجنة مباشرة. تشمل الطقوس التي يتبعونها ترك الجثث في الخارج، وأحيانا تقطيعها إلى قطع أصغر حجما لتتمكن الطيور من التهامها.
وفي الهند، يُتَّبَع تقليد يتضمن استعراض الموتى في الشوارع، مصحوبا بألوان تبرز فضائل المتوفى، هنا يشير الأحمر مثلا إلى النقاء، بينما يشير الأصفر إلى المعرفة، ثم تُرَش الجثث بالمياه من نهر الغانج وتُحرق في المناطق الرئيسية لحرق الجثث في المدينة (1).
أيضا ضمّنت العديد من الثقافات، وخاصة في بلدان الشمال الأوروبي، الماء في طقوسها الخاصة في التعامل مع الموتى، بدءا من وضع التوابيت فوق المنحدرات المواجهة للمياه، ووصولا إلى استخدام المياه فعليا مدفنا، فيضع البعض الجثث في “سفن الموت” على طول النهر أو المحيط، معتقدين أنهم بذلك “يُرسلون الجثث إلى الآلهة”.
التقدم العلمي وضع بصمته هنا أيضا، فمن أشكال التعامل مع أجساد الموتى ما يُعرف بـ”عملية تجميد الجسم”. تتضمن هذه العملية استخدام النيتروجين السائل لتبريد الجسم حتى درجة -313 درجة فهرنهايت، أي ما يُعادل -192 درجة مئوية، التجميد على هذه الدرجة يجعل الجسد هشا لدرجة أنه يمكن “تجزئته”، ثم من خلال استخدام المغناطيس تُزال الأشياء المعدنية مثل الحشوات والأطراف الصناعية، وينتج في النهاية مسحوق معقم، كما الغبار الناتج عن حرق الجثث.
يمكن نثر هذا المسحوق المعقم أو الاحتفاظ به إذا كان أهالي المتوفى يرغبون في هذا. البعض يُفضِّل هنا الحفاظ على الجسم المجمد سليما، لأنهم يعتقدون أن العلم قد يصل إلى طريقة تُمكنه من إحياء جسم الإنسان الميت. يشير موقع “الديلي ميل” إلى أنه اعتبارا من عام 2023 هناك ما يُقدَّر بنحو 500 جثة في التخزين بالتبريد في جميع أنحاء العالم في انتظار مثل هذا الاختراق العلمي، ومعظمها في الولايات المتحدة.
عملية التجميد هذه ليست رخيصة، لذا فهي محجوزة بشكل أساسي للأثرياء الذين تركوا ثروة شخصية. قد تتكلف عملية التجميد نحو 200,000 دولار، وهذا لا يشمل حتى أي رسوم تخزين سنوية (2).
كذلك يمكن أن تختلف عادات الجنازة بشكل كبير بين الأشخاص من مختلف الثقافات والأديان. مثلا، يشيع تمزيق الثياب في اليهودية، فيما يُمنع الرجال من حلق لحاهم. بينما في الهندوسية، من المتوقع أن يحلق الذكور الهندوس رؤوسهم ولحاهم باعتبار ذلك جزءا من طقوس الحداد. كذلك يُعَدّ البكاء أثناء الجنازات أمرا بالغ السوء لدى البوذيين التبتيين، بينما تَعتبر الثقافات الأخرى أن البكاء علامة على محبة الشخص المتوفى والحزن الصادق عليه.
يمكن أن تختلف الطقوس أيضا اعتمادا على ما إذا كان الشخص رجلا أو امرأة. مثلا، يُعَدُّ البكاء في الجنازة أكثر قبولا للنساء منه للرجال عموما، فغالبا ما يُتوقع من الذكور أن يكونوا أكثر تماسكا في التعامل مع خسارتهم (3).
الطقوس و”تأثير تفوق الموتى”
كثير ما تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، فالعديد من الثقافات لا تفترض وجود انقسام صارم بين الحياة والموت، وترى أن الإنسان عندما يموت فإنه يترقى لأنه يتخلص من الثقل الذي يفرضه عليه الجسد، فيصبح روحا أو عقلا خالصا أو غيرها من المسميات المختلفة، التي تشترك فقط في الاتفاق على مبدأ أن الموتى تفوق قدراتهم قدرات الأحياء. هنا يكون الجسد المادي وعاء للروح، أو يكون الدماغ مجرد وعاء للعقل (4).
تُعرف هذه الفكرة عادة باسم “تأثير تفوق الموت”، وهي تفترض أن أجسامنا (المادية) تُثقل ذواتنا الحقيقية غير المادية، ومن ثم عندما يزول الجسم فإن ذواتنا تستعيد كامل قدراتها وخصائصها التي حدتها سابقا حياة الجسد (5).
على النقيض تماما، نجد أن بعض التقاليد الحديثة تُعرف بتمييزها الصارم بين الحياة والموت وتحديدها خطّا ثابتا فاصلا بين الأمرين. في هذه الثقافات، عندما تموت فإنك تموت فقط، وهذه هي نهاية الأمر، إن كنت محظوظا فسيُكرِّمك أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، لكن الأمر متروك لهم بصورة كاملة.
غير أن الكاتب والمؤرخ “بول كودوناريس” يرى أن هذا الفصل التام بين الحياة والموت أمر غير معتاد في تاريخ البشرية، حيث تصورت معظم الثقافات المعروفة وجود علاقة أكثر ليونة وانسيابية بين الحياة والموت، يقول كودوناريس: ”إذا نظرت إلى معظم الثقافات في العالم حتى يومنا هذا بخلاف الغرب، وإذا نظرت إلى الطريقة التي كانت عليها أوروبا في السابق، وإذا نظرت إلى معظم الثقافات القديمة، فستجد أن الحدود بين الحياة والموت كانت دوما ناعمة للغاية” (4).
يعدُّ الإدراك الاجتماعي للموت أمرا في غاية الأهمية، فلا بد للبشر من صيغة ما تُمكِّنهم من إدراك الموت، لأنه النهاية المؤكدة لحياتهم، ولأنه الأمر الذي يُودّعون من خلاله آباءهم وأقاربهم وأحبابهم. هذا الإدراك يلتقي في جانب كبير منه بـ”طقوس الموت” وطرق التعامل مع الموتى على اختلافها بين البشر. عموما، إدراكنا للموت أمر ذاتي للغاية، وهو المؤثر الأساسي في اختيار الطقوس التي نتبعها.
ورغم ذلك، قد يضطر البشر، في بعض الحالات، إلى التعامل مع الموت بطريقة لا يرغبون بها ولا تتفق مع طريقة إدراكهم له ولما يتبعه. مثلا، تودي الكوارث الطبيعية والأوبئة الكارثية بحياة الآلاف، وتتسبب في معاناة بشرية وعواقب وخيمة ودائمة. على سبيل المثال، كشف وباء الإيبولا في عام 2014، ووباء فيروس كورونا المستجد في عام 2020، عن بعض التعقيدات اللوجستية والأخلاقية المتعلقة بإدارة الجثث، فبينما يُكلَّف موظفو الخطوط الأمامية بإنقاذ الأرواح، تظل إدارة جثث أولئك الذين يموتون مشكلة تفتقر إلى الموارد للتعامل معها بالطريقة المناسبة والمتفقة مع معتقدات الأشخاص (6).
البحث عن المعنى
“الإنسان يبحث عن معنى” هو عنوان كتاب صدر عام 1946، كتبه الطبيب النفسي “فيكتور فرانكل”، خلال هذا الكتاب يعرض فرانكل تجاربه وخبراته التي آلت به إلى اكتشاف ما أسماه “العلاج بالمعنى” (7). يرى فرانكل أن دافع الإنسان للعيش والبقاء والمُضي قُدما في حياته ليس هو اللذة، كما قال فرويد، أو النجاح والمكانة، كما قال أدلر، ولكنه “المعنى” أي أن يجد الإنسان “معنى خاصا” لحياته (8).
البحث عن المعنى لا يتعلق بالتعامل مع الحياة فقط، بل يمكن أن يكون تفسيرا لبعض الطقوس التي يتبعها البشر في التعامل مع الموت (9). يحتاج جميع الناس تقريبا إلى تطوير إدراك أو “معنى ما” للموت من أجل مساعدة أنفسهم على التعامل مع الحزن والألم والفقد، بغض النظر عن ثقافتهم ودياناتهم. في هذا السياق، فحَصَ مقال بحثي جديد، كتبه “مايكل نورتون” و”فرانشيسكا جينو” من كلية هارفارد للأعمال، ونُشر في مجلة “علم النفس التجريبي”، التأثير القوي الذي يمكن أن تلعبه الطقوس المتبعة في مراسم الدفن والجنازات في مساعدة الناس على التعامل مع التأثير الفوضوي الذي تخلقه الخسارة.
يقترح نورتون وجينو أن الطقوس بوصفها “نشاطا رمزيا” يقوم البعض به قبل أو أثناء أو بعد حدوث حدث حزين من أجل تحقيق بعض النتائج المرجوة، يمكن أن تساعد الناس على تخفيف المشاعر السلبية. فالأشخاص الذين تعرضوا لفقدان شخص عزيز عليهم، غالبا ما يشعرون كأن حياتهم قد أصبحت خارجة عن السيطرة، هنا يمكن استخدام الطقوس لاستعادة هذا الشعور بالسيطرة، ومن ثم يسهل عليهم التعامل مع الحزن. في حين أن الطقوس تختلف من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى على نطاق واسع، فإن المبدأ الأساسي لاستعادة الشعور بالسيطرة عادة ما يكون ثابتا في مختلف المجتمعات والثقافات.
—————————————————————
المصادر:
1- 7 Unique Burial Rituals Across the World
2- ways your body can be disposed of when you die
3- Can Rituals Help Us Deal with Grief?
4- The Psychology of Death Rituals
5- More dead than dead: Perceptions of persons in the persistent vegetative state
6- Ethical and sociocultural challenges in managing dead bodies during epidemics and natural disasters
7- الإنسان يبحث عن المعنى: مقدمة في العلاج بالمعنى التسامي بالنفس
8- “العلاج بالمعنى”.. هل يمكن للإنسان أن يجد خلاصه في أخطائه؟
9- Americans’ Do-It-Yourself Death-Care Rituals
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.