نشرت المخرجة أسماء المدير حالة من البهجة والفخر في المجتمع المغربي، وأعادت أجواء مشابهة للاحتفال الشعبي والوطني بالإنجاز الكبير للمغاربة في كأس العالم “قطر 2022″، لكن الفرح هذه المرة لم يكن رياضيا. كان الفرح سينمائيا بامتياز، إذ أبدعت المدير بالضوء والظل والحكاية في فيلم “كذب أبيض”، ومن ثَمَّ فازت بجائزتين في مهرجان كان السينمائي الدولي.
انطلقت أسماء في عالم السينما الوثائقية منذ 13 عاما بفيلم “الرصاصة الأخيرة”، وعبرت السجادة الحمراء في “كان” حيث توّجت مرتين، الأولى بجائزة الإخراج في مسابقة “نظرة ما”، والثانية بجائزة العين الذهبية للمهرجان.
ويحكي فيلم “كذب أبيض” عن رحلة عودة المخرجة إلى منزل والديها في مدينة الدار البيضاء المغربية لمساعدتهما على الانتقال إلى منزل آخر، لتجد صورة أطفال يبتسمون في ساحة مدرسة، وعلى حافة إطار الصورة تشدها فتاة صغيرة تجلس على مقعد وتنظر إلى الكاميرا بخجل.
إنها الصورة الوحيدة للمخرجة وهي طفلة، لكنها مقتنعة بأنها ليست الطفلة الموجودة في الصورة. وعلى أمل أن تجعل والديها يتحدثان، تستخدم المخرجة أسماء المدير كاميرتها وتنتقل من هذا الحدث الحميم لتفتح جراحا مرتبطة بانتفاضة الخبز سنة 1981.
أسماء المدير تحدثت للجزيرة نت عن تجربتها مع فيلمها المتوج “كذب أبيض”، انطلاقا من الفكرة، ومرورا بمسار الإنتاج بمشاركة “الجزيرة الوثائقية”، ثم وصولا إلى التتويج وأثره.
كيف ولدت فكرة إنجاز الفيلم الوثائقي “كذب أبيض”؟
الفكرة ولدت شخصية في البدء، كان البحث في الذكريات الشخصية، المفقودة أو الممسوحة، ثم بدأ الاشتغال بالقصص البسيطة التي حُكيت لي وأنا طفلة، والتي كانت تستهويني لطرحها في فيلم. بعد ذلك أخذت في طرح أسئلة بسيطة مثل: ماذا لو عدت لسن الثانية عشرة، وصدقت الحكايات البسيطة التي حكاها لي أفراد عائلتي؟ ثم أعدت طرحها بنضج؟ مثل هذه الأسئلة كانت المنطلق.
خوض التجربة سرّ النجاح
هل يمكن اعتبار أن عائلتك هي من صنعت حبكة فيلم “كذب أبيض”، أم رغبتك في صناعة فيلم وثائقي انطلاقا من العائلة كيفما كان الموضوع المثار للنقاش؟
الفيلم الوثائقي هو عالمي. منذ سنوات وأنا أحاول التقاط الواقع وتقديمه بطريقة مغايرة، وهو مجال خصب للتجريب كلما وجدت الفرصة لذلك. أنا من صنعت حبكة الفيلم كمخرجة، وعبر سنوات صنعت الفيلم مع شخصياتي وليس حولهم، فأنا جزء من هذا الفيلم، وما أحكيه هو واقعي، لكن طريقة هذا الحكي تبقى لي ولذلك أنا مخرجة العمل.
حاولت السمو بمعطيات/ أشياء حقيقية، والتحليق بها فوق ما هو معهود في الوثائقي الكلاسيكي في محاولة للتجريب، وهو ما جعل اللجنة تقتنع بمنح “كذب أبيض” جائزة الإخراج من بين 16 فيلما خياليا، كلها كانت تستحق هذه الجائزة.
كيف تمكنت من الانتقال السلس من الشخصي إلى العام، أو من مجرد البحث عن مادة بصرية لإنشاء فيلم عائلي من خلال التنقيب عن صور الطفولة المفقودة إلى اكتشاف أشخاص مفقودين في عائلتك والجيران من زمن انتفاضة الخبز التي توافق ذكراها القريبة 20 يونيو/حزيران؟
هو عامل الزمن. الزمن كشاف، وهو ما ساعدني على التنقل السلس بين الأفكار. في الكتابة عبر الزمن كنت متنقلة، أكتشف أشياء وخيوطا بشكل متسلسل وبطيء في الحياة العادية. هذا الأمر ساعدني في الكتابة، كلما كبرت أنا ومشروعي كبرت الأفكار معنا، وتنوعت القصص ودخلت الشخصيات مراحل أخرى مغايرة تماما، كما هي حال الحكي في الفيلم حينما ينطلق في بدايته، فيعبر وسطه ثم ينتهي.
أسماء المدير.. بطلة أم مخرجة؟
ما الخط الفاصل بين المخرجة والبطلة في الفيلم الوثائقي الذي يحكي داخله قصة صناعته؟
يبدأ فيلم “كذب أبيض” بأسماء الطفلة، وينتهي بالمخرجة التي تملك -كمخرجة- العصى السحرية لتتدخل وتفرض إيقاع الأشياء. ربما الخيط الفاصل أنني لست البطلة في هذا الفيلم، البطلة هي جدتي. أنا شخصية من شخصيات الفيلم.
الطفلة أسماء والمخرجة تلتقيان خلال رحلة الفيلم كلها. المخرجة تأخذ بيد الطفلة حتى تكمل الجزء الخاص بها بسلام، ثم تنهي المخرجة الطريق وحدها لتختم تلك الرحلة بين الطفلة ومديرة الفيلم، صاحبة الرؤية الفنية، بشيء من النضج. حاولت التنقل بسلاسة بين الحياتين رغم أنهما لشخص واحد. البعد الطفولي ساعد على الحكي. في النهاية كل فيلم واقعي يجب أن يحكي حكاية وإلا فلا داعي لإنجازه.
كيف استطعت تدبير إنتاج فيلم وثائقي لمدة طويلة مع شركائك في الإنتاج؟
الثقة هي أساس العلاقات مع كل شركائي في هذا الفيلم. لم أقبل أي دعم من أي شريك كنت أعلم أنه سيعيق تقدم الفيلم أو سيفرض شروطا قاسية لإنهائه بسرعة. لقد اشتغلت مع “الجزيرة الوثائقية” حول فيلم آخر هو “في زاوية أمي” الذي جال العالم بأسره، وأظن أن تلك الثقة ساعدت في منح فيلم “كذب أبيض” مساحته ليكتمل.
كانت “الجزيرة الوثائقية” أول من وثق بالفيلم، وهي ما شجع الشركاء الآخرين على الانضمام، وقد دعمت الفيلم في كل مراحله حتى في مهرجان “كان”.
أشتغل مع القناة منذ 2009 كمخرجة، ثم كمنتجة مستقلة، وأظن أنني أحس بفريق القناة كأفراد من عائلتي. نشتغل بمهنية كبيرة منذ سنوات، وهذا ما حافظ على العلاقات الطيبة مع فريق العمل إلى يومنا هذا.
أثر التتويج بجائزتي كان
بعد التتويج في الدورة الأخيرة لمهرجان “كان”، ما الأثر الذي تركه هذا الإنجاز على المخرجة وأسرتها والجيران والمجتمع المغربي، خاصة أن الموضوع المثار في الفيلم يعتبر من التابوهات، وجزء مهم من الذاكرة الجمعية للمغاربة؟
بعد التتويج، أظن أن الوسط الفني المغربي سعيد، لأني أتلقى التهاني كل يوم من المغاربة ومن جميع الفئات. بعد عودتنا من فرنسا للمغرب، أقام وزير الثقافة مهدي بن سعيد حفلا تكريميا هائلا لتهنئة الفائزين بمهرجان “كان”. سعدت شخصيا بهذا التكريم من وزير شاب يقدر الفن والفنانين ويدافع عن الثقافة.
لم أكن أعلم أن المشاركة والفوز سيعيدان لنا ذكريات كأس العالم 2022 بطعمها السينمائي. أحس بالفخر، ربما بالمجد. وأشعر بطعم الفوز والتغيير. جيلنا أعاد الثقة للسينما المغربية، ربما منذ سنوات لم يحضر المغرب كما هذه السنة بقوة في مهرجان عالمي مثل “كان”. نحن فخورون بهذا الإنجاز، تُذكر أسماؤنا في كل مكان، الإذاعات، والجرائد والقنوات التلفزيونية.
أعظم إحساس أن تحس أنك جلبت شيئا لوطنك. شرف الانتماء إحساس لا مثيل له. لم أكن أظن أن تلك الجوائز ستفرح العالم العربي لا المغرب فحسب.
لا شيء بالفيلم يعتبر من التابوهات. اشتغلت على الفيلم بكل أريحية لأني أثق بأن مغرب جيلنا هو مغرب التصالح مع الماضي. أنا فخورة أنني أنجزت شيئا عن ذاكرتنا لأن من لا ذاكرة له لا مستقبل له. نحن نحكي قصصا شخصية تترابط مع أحداث وطنية، هكذا هي السينما تنطلق من الخاص إلى العام. السينما تنطلق من الهوية.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.