شهدت أسعار الذهب (عيار 21 قيراطا) -وهو الأكثر انتشارا في مصر- زيادة بنسبة 114% خلال العام الماضي، مرتفعا من 786 جنيها للغرام آخر عام 2021 إلى 1685 جنيها أواخر 2022، وواصل ارتفاعه خلال الثلث الأول من العام الحالي (2023) بنسبة 54% ليبلغ حوالي 2600 جنيه بنهاية أبريل/نيسان الماضي.
وشجعت تلك الارتفاعات الكثيرين على شراء السبائك والعُملات الذهبية بقصد الادخار، وتحاشي المشغولات الذهبية التي تفقد “تكلفة الصناعة” عند البيع، فزاد الطلب وبقي العرض محدودا، ونظرا لأن الأسعار العالمية للذهب لم ترتفع بالقدر نفسه في تلك الفترة، فقد اتُّهم تجار الذهب بالمغالاة فى تسعيره، كما اتُّهم المشترون بتلك الأسعار العالية بالمضاربة في الذهب.
عالميا كان متوسط السعر العالمي للذهب قد ارتفع من 1790 دولارا للأوقية آخر عام 2021، إلى 1798 دولارا في آخر 2022، ثم إلى 1992 دولارا في نهاية أبريل/نيسان 2023.
وهنا تظهر المفارقة، إذ إن اتجاهات أسعار الذهب في مصر تختلف عن اتجاهات الأسعار العالمية خلال السنوات الماضية؛ ففي عام 2013 انخفضت الأسعار العالمية بنسبة 15.5%، بينما ارتفعت في مصر بنسبة 1%، وفي 2016 زادت الأسعار الدولية نحو 8% في حين زادت في مصر 59%، وفي 2020 زادت الأسعار العالمية 27% في حين لم تزد في مصر عن 21%، واقتربت نسبة الصعود بين الجانبين عام 2021، لكنها عادت فتباينت كثيرا العام الماضي بارتفاع ضئيل دوليا، وكبير محليا.
خصوصية أسعار الذهب في مصر
ويظل السؤال قائما عن سبب ذلك الاختلاف، رغم أن الذهب سلعة تخضع في تحركاتها للمتغيرات الدولية الاقتصادية والسياسية.
يفسر تجار الذهب في مصر الأمر بأن التسعير في بلدهم يتم من خلال ثلاثة عوامل رئيسية، وهي: سعر الأوقية عالميا، وسعر الصرف المحلي مقابل الدولار، والعرض والطلب المحلي.
وعليه فإذا كان سعر الأوقية دوليا لم يشهد تغيرا كبيرا العام الماضي، فإن العاملين الآخرين قد شهدا محليا تغيرا واضحا، حيث ظهرت السوق السوداء منذ بدايات العام، وزادت حدتها بعد خروج أموال ساخنة بنحو 22 مليار دولار، ولم يفلح الخفض الرسمي لسعر الصرف مرتين خلال العام في إعادتها.
وها هي بيانات جهاز الإحصاء الرسمي تشير إلى انخفاض قيمة واردات الذهب العام الماضي إلى 317 مليون دولار مقابل 831 مليون دولار في العام الأسبق بنسبة تراجع 62%، في بلد بلغ عدد عقود الزواج به 880 ألفا عام 2021، يحتاج كل منها إلى هدية من الذهب للعروس حسب التقاليد.
هذا الانخفاض في العرض أثّر على الأسعار خاصة مع اندفاع الكثيرين لاقتناء الذهب بغرض الادخار مع ارتفاع نسبة التضخم، الذي لم تعد معه عوائد الودائع المصرفية ذات جدوى، وزاد الوضع استفحالا لجوء بعض المستثمرين إلى تجميع الذهب لتصديره، والحصول على قيمته الدولارية في الخارج لاستخدامها في استيراد مستلزمات سلعية، وذلك بسبب تأخر البنوك في تدبير العملات الأجنبية للاستيراد.
محصلة ما سبق هي صعود أسعار الذهب محليا معظم شهور العام الماضي.
“زينة وخزينة”
لدى المصريين مبررات عديدة للتهافت على اقتناء الذهب يلخصها المثل الشعبي “الذهب زينة وخزينة”، فهو حلية للنساء في المناسبات الاجتماعية، ووسيلة للادخار والاستثمار مع ازدياد سعره عبر السنين.
الواقع يثبت صحة الاعتقاد، فسعر غرام الذهب (عيار 21) بلغ 263 جنيها عام 2015، وارتفع إلى 418 جنيها في 2016، وإلى 628 في 2017، ثم إلى 778 في 2020، وصولا إلى 1077 جنيها في 2022، وبذلك فقد حقق اقتناؤه نموا في القيمة تستفيد بها الأسرة لمواجهة متطلبات الحياة.
ويروي أحد كبار السن في مدينة دمياط الساحلية شمالي مصر أن تسمية إحدى ضواحي المدينة “عزبة النسوان” (أي النساء) لها قصة، فعندما بدأت الإدارة المحلية تمنح تراخيص بناء في أرض على أطراف المدينة، سارعت النساء لبيع ذهبهن ليشتري أزواجهن قطعا من الأرض لبناء منزل عليها، وعرفانا بفضلهن تمت تسمية المنطقة باسمهن.
المزارعون أيضا اعتادوا شراء الذهب بعوائد بيع المحصول لضمان الحفاظ على القيمة، وساعد على زيادة اقتنائه قيام بعض المتاجر ببيعه بالتقسيط، وقبول متاجر أخرى في المناطق القروية تأجيل الحصول على ثمن “شبكة الزواج” لحين جمع “النقوط” (الهدايا المالية التي تقدم للعروسين).
أجواء عالمية ومحلية تعزز اللجوء للذهب
وعموما، يعدّ التوجه لاقتناء الذهب خلال العام الماضي وحتى الآن سلوكا اقتصاديا رشيدا، رغم الاختلاف حول السعر المناسب، إذ يبقى ملاذا جيدا في وقت الأزمات العالمية، مثل أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
ففي أبريل/نيسان 2023 توقّع صندوق النقد الدولي تراجع النمو العالمي العام الحالي إلى 2.8% مقابل 3.4% العام الماضي، وحدوث انكماش في ألمانيا وإنجلترا، وأن يبلغ معدل التضخم العالمي 7% رغم محاولات الدول الكبرى خفضه إلى 2%، ومن جانبه توقع البنك الدولي في أبريل/نيسان الماضي أيضا ارتفاع سعر أوقية الذهب دوليا إلى 1900 دولار مقابل 1801 دولار العام الماضي.
وفي مصر يعيش المواطنون حالة من عدم اليقين اقتصاديا وسياسيا، وهم يرون العملة الوطنية تنخفض رسميا 3 مرات خلال 10 أشهر (من مارس/آذار 2022 وحتى يناير/كانون الثاني الماضي)، ومع ذلك لم يعصمها الانخفاض “الرسمي” المتوالي من مزيد من الانخفاض في السوق السوداء، وهناك توقعات دولية بمزيد من الانخفاض، وأنباء عن قرار حكومي مرتقب بخفض جديد.
كذلك، فوكالات التصنيف الائتمائي الثلاثة موديز وفيتش وستاندرد آند بور، تصنف مصر حاليا في درجة غير استثمارية، وتتفق على نظرة سلبية مستقبلية حيالها، والأنباء تتردد عن انخفاض السندات المصرية المطروحة بالخارج عن سعر طرحها، وانخفاض قيمة الصادرات السلعية في أول شهرين من العام الحالي مقارنة بهما من العام الماضي.
إجراءات الحكومة المصرية تبدو غير فاعلة، والشك متزايد في استعادة العملة قيمتها قريبا، ويبدو اقتناء الذهب خيارا آمنا لمن لا يملكون خبرات في أسواق المال أو العقار
هناك أيضا تأخر المشروع الحكومي بطرح شركات للبيع لجلب عملات أجنبية للتخفيف من مشكلة نقص الدولار، وتأجيل زيارة خبراء صندوق النقد الدولي لمصر، والتي كانت مقررة قبل منتصف مارس/آذار الماضي دون جدولة موعد بديل، وهي الزيارة التي سيترتب عليها منح القسط الثاني من القرض لمصر.
إخفاق إجراءات علاج نقص الدولار
هناك حالة من التشكيك في المعدلات الرسمية المعلنة للتضخم بما لا يزيد عن 30%، حيث يسود ظن بأن واقع الزيادة أعلى بكثير، ولذا فإن شهادات الادخار التي طرحتها البنوك مؤخرا بعائد 19% لم تلق رواجا لأنها لا تغطي معدل تآكل القيمة الشرائية للنقود، واستمر اتجاه الناس للتخلص مما معهم من جنيهات، واقتناء الذهب أو العملات الأجنبية أو العقار أو حتى العملات الافتراضية، رغم ما بها من مخاطر.
ولأن الاتجاه للبورصة يحتاج خبرة خاصة، كما يحتاج الاستثمار في العقار والأراضي مبالغ كبيرة، فإن خيار الذهب يبدو أقرب لمتناول يد الكثيرين لحفظ قيمة أموالهم، وهو كذلك خيار مجرب في كل مرة تظهر فيها سوق سوداء للدولار، كما أنه مجرب في دول أخرى عندما تراجع سعر عملتها مثل روسيا وتركيا مؤخرا.
إجراءات الحكومة تبدو غير فاعلة، والشك متزايد في استعادة العملة قيمتها قريبا، فبيانات البنك المركزي المصري تشير لتصاعد العجز الدولاري بالجهاز المصرفي بمعدل 1.5 مليار دولار شهريا منذ بداية هذا العام ليصل حاليا إلى 24.5 مليار دولار.
في ظل ذلك يبقى الذهب الخيار الأفضل لكثيرين، ويبدو أن الحكومة تعي ذلك، فمؤخرا طالب وزير التموين الحكومة بالسماح للمصريين المقيمين بالخارج بإدخال ما قيمته 10 آلاف دولار من الذهب بلا جمارك لزيادة المعروض المحلي.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.