آسفي- تختلط مشاعر عبد الحق ألبي (40 عاما) وهو ينظر إلى جثة فتاة ملقاة على شاطئ صخري، فيما يشرع في السباحة باتجاه شاب آخر أحاطت به الأمواج وهو يشير بسبابته إلى السماء.
يقف مندهشا بعض من يتابع المشهد من أعلى جرف “كورنيش” مدينة آسفي المغربية، المعروف بحوادثه الخطيرة، بسبب الإقدام على الانتحار أو الانزلاق أو غرق بعض من يسبحون في مياه البحر القريبة، فيما تتعالى صيحات آخرين للحث والتشجيع على إتمام عملية الإنقاذ.
يقول عبد الحق -للجزيرة نت- وهو يسترجع تلك اللحظات العصيبة، “أشعر بالحزن على المتوفين، مع ذلك أجد في كل إنقاذ شعورا بالرضا يدفعني إلى الاستمرار بالرغم من خطورة المغامرة”.
بداية الحكاية
يحاول عبد الحق -وهو عامل نظافة مؤقت- إنقاذ المقدمين على الانتحار من الجرف المطل على البحر، حتى بات ذلك أسلوب حياته، وقد أنقذ بعضهم، لكن المنية سبقته إلى آخرين.
يذكر أن حكايته بدأت وهو في الثامنة عشرة من العمر، عندما كللت محاولته لإنقاذ حياة أحدهم بالنجاح بمساعدة أصدقاء، “منذ ذلك الحين لا أتردد لحظة في المغامرة بحياتي لإنقاذ آخرين، لأن ذلك يقويني ويجعل لحياتي معنى”.
يشرح الطبيب النفسي أحمد الكرعاني -للجزيرة نت- أن مساعدة الآخرين فيها تقدير للذات، “فلمن يقدم الخير للغير نظام مكافأة لا يمكن الاستغناء عنه، هي جرعات سعادة يكتسبها تدفعه للاستمرار في انسجام تام مع ذاته ومع القيم التي يؤمن بها”.
قصص مثيرة
يصف هذا “البطل” -كما يصفونه- القصص التي عاشها بالمثيرة لكل جوارحه، إذ تستمر علاقته بمن أنقذهم خارج مياه البحر، لتصير علاقة إنسانية منفتحة، موسومة بإظهار حب الخير من جهة والامتنان من جهة ثانية.
يقول الشاب خليفة (23 عاما) -للجزيرة نت- “صورة عبد الحق لا تفارقني، وأنا أهاتفه من حين لآخر كي أسأل عن أحواله”.
ويحكي قصته مستطردا “وصل عبد الحق في الوقت الذي أنهكني فيه التعب وبدأت استسلم لقدري. كانت الأمواج تضربني بقوة، وجسمي يرتطم بالصخر. في لحظة ما، انتابني شعور بالاطمئنان، وأنا أسمع عبد الحق يهدئ من روعي، بدا مصمما على الإمساك بي، وإخراجي إلى بر الأمان”.
دوافع الانتحار
بدورها، عبّرت الشابة خلود -اسم مستعار- (19 عاما)، في حديثها للجزيرة نت، عن شكرها لمن كان سببا في إنقاذ حياتها.
وتأخذ نفسا عميقا وهي تنظر إلى آثار الجروح على جسمها، وتضيف “كنت خائفة جدا، خوفا لا يوازيه غير قوة تصميمي على إنهاء حياتي قبل لحظات”، ثم تتوقف عن الحديث لأنها تريد نسيان كل ما حدث.
ويوضح الدكتور الكرعاني أن “دوافع الانتحار عديدة، لكن أبرزها الإصابة بأمراض نفسية، مثل الفصام الذي يسمع صاحبه أصواتا تأمره بأشياء غريبة، أو الاكتئاب بعد تجربة مريرة، لا يرى صاحبها حلا غير إنهاء حياته بطريقة ما”.
ويضيف الكرعاني “بحسب تجربتي، من يقدم على الانتحار قد يتراجع في آخر لحظة، بسبب خوفه من عذاب الآخرة، أو تذكّره لمن يحب ولدا كان أو أبوين”.
خجل وجرأة
حين يتحدث عبد الحق عن مغامراته، يعلو محياه خجل ظاهر، يتحول إلى إقدام دون تردد وهو يبدي كفاءته في النزول سريعا من أعلى الجرف إلى المياه، أو القفر فيها من علو يزيد على 15 مترا.
ويقول الشاب حمودة الذي اعتاد على الصيد بالكورنيش -في حديثه للجزيرة نت- “خلال سنوات مضت، كان عبد الحق متطوعا وكفى، لكن وسائل التواصل الاجتماعي دفعته إلى الواجهة”.
انتشار مقاطع فيديو له جعل منه حديث الناس في كل مكان، بل تم تكريمه من قبل رئيس نادي أولمبيك آسفي ومن قبل جمعية “الأيادي البيضاء” أيضا، اعترافا بشجاعته ونبل أخلاقه.
يقول عبد السلام كويدير رئيس الجمعية -للجزيرة نت- “لا يفرّق عبد الحق بين ليل ونهار، بين وقت عمل ووقت راحة، كلما نودي عليه أن يأتي مسرعا للبدء في عملية الإنقاذ، قبل أن تتدخل الوقاية المدنية لإتمام ما بدأه”.
بتواضع، يعترف عبد الحق أنه ليس أول من عُرف بإنقاذ حياة الناس في الكورنيش، فهو يذكر قبله شابين آخريين.
في حين يقول عن خبرته في مجال الإنقاذ، “التجربة علمتني كيف أتعامل مع أمواج البحر، واحتكاكي برجال الوقاية المدنية ومشاهداتي على اليوتيوب، حول كيفية تقديم إسعافات أولية ضرورية قبل وصول رجال الإنقاذ، كل ذلك يساعدني في إتمام مهمتي”.
تتجمد الكلمات في حلقه، حين يتحدث عن الفتاة الذي توفيت، فيما يشع نور خفيف من عينيه وهو يحكي عن لقائه الأخير مع الشاب الذي أنقذه من موت محقق، قبل أن يختم بجملة أدبية منمقة “أنا ابن البحر، وهو ابني، عشق متبادل لا تمحوه عوادي الزمن”.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.