في سهرة ماجنة في أحد أيام صيف عام 2015، خرج “يائير نتنياهو”، نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رفقة صديقه “أوري” من أحد الملاهي الليلية في تل أبيب. استقل الصديقان سيارة حكومية بسائق وحارس تدفع الدولة راتبهما، ولكن سرعان ما نشب الخلاف بينهما إثر رفض أوري إقراض نتنياهو الصغير مبلغا بسيطا من المال لدفعه إلى “فتاة تعرٍّ”، ليرد عليه الأخير بالقول: “صديقي، يجب أن تكون لطيفا جدا معي، أبي ساعد أباك في الحصول على صفقة قيمتها 20 مليار دولار، لا يجب أن تحس بالرغبة في البكاء من أجل 400 شيكل (100 يورو)، هذا حقي عليك”، ثم اختتم كلامه بسباب فاحش، حسبما نقلت بعض وسائل الإعلام.
لم يكن أوري هو الآخر شابا عاديا، فهو ابن الملياردير الإسرائيلي “كوبي ميمون”، الشريك في شركة “إسرامكو النقب 2” للغاز، التي استفادت من صفقة لاستغلال حقل غاز تمار البحري. وقد سُجِّلَت المحادثة من طرف شخص مجهول، ثم نُشِرَت بعد ثلاث سنوات، في الوقت نفسه الذي واجه فيه بنيامين نتنياهو تهما بالفساد واستغلال النفوذ. وحينها، علَّق رئيس الوزراء الإسرائيلي القديم الجديد قائلا إن الأمر لا يعدو كونه مزاحا بين شابين، فيما خرج ابنه للتأكيد أن التسجيل والكلام الوارد فيه لا يُعبر عنه ولا عن تربيته. هذه القصة الصغيرة جعلتنا نتساءل عن “بيبي* الصغير”، عن شخصيته وتربيته ونفوذه، وعن مكانته وسط التيار القومي العنصري اليهودي في إسرائيل.
سليل الصهاينة الذي فشل في الخدمة العسكرية
لنبدأ مع نتنياهو الجد، وهو “بن صهيون نتنياهو”، مؤرخ اعتنق الصهيونية اليمينية المتطرفة في أكثر نسخها عنصرية، ولم يخجل أبدا من التعبير عن دعمه لزعيم إيطاليا الفاشية بينيتو موسوليني في عشرينيات القرن الماضي، ولم يُخفِ كرهه العميق للمسلمين الذين وصفهم دون تحفُّظ بـ”الهَمَج”. أما الأب فهو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق والحالي والمستقبلي ربما “بنيامين نتنياهو”، صاحب السجل الدموي الكبير في حق الشعب الفلسطيني، والمتهم في قضايا فساد لا حصر لها. أما بطل قصتنا اليوم، فهو الحفيد، “يائير نتنياهو”، الابن الأكبر والعنصري المؤمن حتى النخاع بنقاوة وتفوق العِرق اليهودي، والنجم الصاعد في ساحة السياسة الإسرائيلية، التي تتفوَّق على نفسها في كل مرة بتبنيها أفكارا أكثر عنصرية من تلك التي صاغها مؤسسو دولة الاحتلال أنفسهم.
وُلد يائير نتنياهو في 26 يوليو/تموز 1991 بالقدس المحتلة. وبعد خمس سنوات، وصل والده إلى كرسي رئاسة الحكومة الإسرائيلية في ولايته الأولى التي انطلقت عام 1996. وفي هذه الفترة عاش نتنياهو الابن عند جدَّيْه لأمه، ثم درس الفنون المسرحية، والتحق بجيش الاحتلال، وخدم ضمن وحدة الناطق بلسان جيش الاحتلال الإسرائيلي وفي لواء المركز. لكن تجربته داخل الجيش لم تكن ناجحة، فلم يستطع التأقلم بسهولة مع الحياة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، تغيَّب نتنياهو الابن كثيرا عن مهامه العسكرية، ولم يُلقِ بالا لاتصالات الضباط التي تركها لحرسه الخاص للإجابة عنها نيابة عنه.
بدأ يائير نشاطه السياسي مبكرا داخل أروقة حزب الليكود، وظهرت توجهاته في العديد من الأنشطة التي قادها، كما حدث عندما حشد وروَّج لقانون المؤذن، ضاغطا على أبيه عبر جمع التوقيعات في المدن المختلفة لمنع الأذان من المساجد. أما السبب وراء هذا الحشد فظهر حين قال والده إن يائير ينزعج كثيرا من الأذان الذي يصدر من قرية جسر الزرقاء الساحلية القريبة من مقر إقامة العائلة، وإن كانت نشأته في بيئة معادية للمسلمين داخل منزل عائلة نتنياهو كفيلة بتفسير كل شيء.
ليس ليائير نتنياهو أي منصب رسمي في الوقت الحالي، لكنه يُعَدُّ أحد أكثر الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يحصد الشعبية ويثير الكثير من الجدل ويقول كل ما يفكر فيه، ولو كانت الأفكار مجرد تغريدات لا تحمل في طياتها إلا العنصرية والتحريض على كل مخالفيه، من العرب إلى الوزراء في حكومات أبيه. وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، حظر موقع فيسبوك حساب يائير بعد أن غرَّد قائلا: “لن يحل السلام هنا إلا في حالتين، الأولى بعد ترك اليهود للبلاد، والثانية بعد أن يترك المسلمون البلاد، وأنا أُفضِّل الخيار الثاني”، ثم أضاف تغريدة أخرى قال فيها: “هل تعرفون أين هي الأماكن الوحيدة التي لا تحدث فيها هجمات؟ في اليابان وأيسلندا، بالمناسبة لا توجد جالية إسلامية هناك”، وهو ما عدَّه فيسبوك تحريضا واضحا على المسلمين.
في هجومه على المسلمين، يكاد نتنياهو الصغير يخلق مشكلات أكبر “للدولة” التي يغرد صباحا ومساء للدفاع عنها، فقد ادعى ابن نتنياهو في وقت سابق تمويل منظمات يهودية وألمانية لاحتجاجات يهود الفلاشا (اليهود أصحاب الأصول الإثيوبية في إسرائيل)، موجِّها سؤالا إلى وزير الخارجية الألماني حول رد فعل بلاده إذا ما أقدم حزب الليكود على تمويل أعمال شغب تمس السِّلْم العام في ألمانيا، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة.
وفي يوليو/تموز 2022، طالب نتنياهو الصغير بطرد “الأقليات” الموجودة في تل أبيب، قاصدا بالطبع العرب والفلسطينيين. وهي تصريحات وصفتها صحيفة “هآرتس” العبرية نفسها بالقول: “ليائير نتنياهو إجابة سهلة وواضحة عن كل سؤال وعن كل مشكلة. المهاجرون؟ نطردهم. الإرهابيون؟ نعدمهم. الإرهاب؟ نقضي عليه. إيران؟ نقصفها. المحكمة العليا؟ نعيدها للشعب. وزير الدفاع قال إن هذا الإجراء قد يؤثر على أمن البلاد؟ نطرده من منصبه”. وقد عبَّر يائير عن خالص رغبته في أن يقتل كوفيد جميع اليساريين في العالم حينما حلَّ ضيفا على حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، صاحب الصلة بالأفكار النازية والعنصرية. تتقاطع أفكار نتنياهو الشاب مع اليمين المتطرف دوما، ففي إحدى الحملات الإعلانية، نشر حزب البديل من أجل ألمانيا جملة قال فيها يائير: “شنغن ماتت، نتمنى أن يموت الاتحاد الأوروبي المعولم أيضا، حتى تعود أوروبا حرة وديمقراطية ومسيحية من جديد”.
صداع في رأس بنيامين
يضم حساب يائير نتنياهو على تويتر نحو 170 ألف متابع، وهو يقدم نفسه على أنه مقدم برامج إذاعية وبودكاست، وهو صحيح إلى حدٍّ ما. فقد عكف على تقديم برنامج أسبوعي كل جمعة على أمواج إذاعة الجيش الإسرائيلي، حيث عبَّر عن أفكار عنصرية تتجاوز في تطرفها رموز اليمينية في الغرب. ويسير نتنياهو الصغير على خط شبيه بذلك الذي اتخذه “دونالد ترامب”، بكلام مباشر مستفز مليء بالمغالطات والأخبار الكاذبة والمواجهات الحادة مع الخصوم، من العرب والمسلمين والإسلام، والمثقفين اليهود، والفنانين “التقدميين”، وصولا إلى كل شخص يجرؤ على رفع بنانه في وجه أبيه وسياساته.
مع مرور الوقت، وانتشار صوته في كل مكان، بدأ الإسرائيليون يقتنعون بأن الوصول إلى أفكار بنيامين نتنياهو ليس بتلك الصعوبة، بل يكفي تتبُّع ما يخرج من لسان ابنه لتعرف ما يضمره الأب. وقد نشأ يائير في كنف أمه “سارة” المهووسة به، فكانت درعه الحامي الذي صدَّ عنه العديد من المشكلات التي ورَّط نفسه فيها، كما حدث في مارس/آذار 2019 حينما تسرَّبت له مكالمة هاتفية مع أصدقائه وهو في طريقه إلى نادٍ جنسي، إذ عرض على أصدقائه إقامة علاقات مع صديقته مقابل مبلغ مالي، ما وضع أباه في وضع محرج للغاية.
استلهم يائير العديد من الخصال من أمه، وأهمها اقتناعه بضرورة العيش في نعيم يليق بـ”أمراء إسرائيل”، ولذا كان من الطبيعي أن يَرِد اسمه ضمن التحقيقات الجارية حول فساد أبيه، بعد أن استخدما شققا فاخرة يمتلكها رجل أعمال أسترالي يدعى “جيمس بيكر”، الذي مول أيضا رحلات جوية خاصة لهما وإقامة بفنادق فخمة في دول مختلفة، كما حدث في نهاية سبتمبر/أيلول 2015، حينما رافق يائير والده لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وحطَّ الابن رحاله في فندق فخم ينزل فيه “بيكر” على حساب الأخير.
أزعجت هذه التهم الابن الأكبر أيَّما إزعاج، فتحيَّن الفرصة التي جاءت بمجرد نجاح أبيه في الانتخابات التشريعية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وخرج للمطالبة بمحاكمة الخونة من رجال الشرطة الذين عملوا على قضية فساد عائلة نتنياهو، معتبرا أن العقاب المناسب لن يكون أقل من الإعدام، ومتناسيا أن وحدها “الخيانة في زمن الحرب” يُطبَّق فيها هذا الحكم حسب القانون الإسرائيلي. وفي 18 مارس/آذار 2023، شبَّه يائير المعارضين للتعديلات القضائية في إسرائيل بكتيبة العاصمة النازية، ثم وصف المتظاهرين بعد ذلك بالإرهابيين بعد أن تجمَّع بعضهم أمام الصالون الذي تُصفِّف فيه أمه شعرها هاتفين: “البلد تحترق وسارة تصفف شعرها”، مطالبا في مداخلة إذاعية باعتقال جميع المحتجين.
فتح يائير النار أيضا على مؤسسات ثقيلة في دولة الاحتلال، فقد اتهم جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك” بمحاولة الانقلاب على أبيه، علاوة على اتهامه الخارجية الأميركية نفسها بتمويل الاحتجاجات للإطاحة بنتنياهو من على رأس الحكومة. ودلَّل يائير على صحة كلامه بمقال نشره أحد المواقع الأميركية اليمينية المتطرفة الذي قال إن الولايات المتحدة تهدف للإطاحة بالحكومة الإسرائيلية الحالية من أجل تمرير الاتفاق مع إيران. ولم تمر هذه التغريدة مرور الكرام، فقد وصف نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية كلام يائير “بالكذب”.
في المقابل، يلعب نتنياهو الأب دور الإطفائي عقب كل تصريح لابنه، فقد كتب على تويتر تغريدة للرد على مطالبة الأخير بإعدام الخونة الذين حققوا في فساد أبيه: “أحب ولدي يائير، وهو شخص مستقل بآرائه، كل شخص له الحق في الإعراب عن النقد، لكنني أختلف مع تصريحاته التي نُشِرَت”. وبعد التغريدة التي اتهم فيها وزارة الخارجية الأميركية بدعم الاحتجاجات ضد والده، اختفى الابن الذي توقف عن التغريد منذ 28 مارس/آذار الماضي، بعد أن كان ينشر عشرات التغريدات في اليوم الواحد. وتُشير بعض الأخبار إلى أن عائلة نتنياهو ضاقت ذرعا بابنها وبالمشكلات التي يتسبب فيها، وطالبته بالتوقف عن نشاطه على منصات التواصل الاجتماعي، ما تسبَّب في شجار عائلي عنيف على حد وصف أحد المصادر.
نتنياهو الصغير.. هل يَرِث عرش أبيه؟
كثيرة هي التقارير الإعلامية التي تطرقت للعلاقة بين الأب والابن، ومدى تأثير الأخير على خيارات أبيه السياسية، ورغم أن نتنياهو نفى ذلك مرارا، ويعتبر ابنه مجرد شاب يقيم في منزل رئيس الحكومة واصفا إياه بالمستقل في أفكاره، فإن الجزم بهذا الأمر ليس بهذه السهولة. بداية، لا يمكن للعائلة إنكار المساعدة الكبيرة التي قدَّمها يائير لأبيه فيما يخص دعمه على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بمساعدة صديقين له كانا يقودان حملة نتنياهو الافتراضية ابتداء من عام 2015، وهما صديقان تعرَّف عليهما يائير أثناء الخدمة العسكرية، وقاموا معا بعمل إعلامي افتراضي عُدَّ سابقة في ذلك الوقت.
يعتقد الكثيرون في دولة الاحتلال أن بنيامين نتنياهو هو الذي يستغل ابنه، وذلك من أجل اختبار المساحات التي يمكنه التمدد فيها دون الاصطدام بالرأي العام الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه، يقول “بين كاسبيت”، الصحفي الإسرائيلي وكاتب سيرة نتنياهو، إن زوجته وابنه يائير من أهم المؤثرين عليه، وأكثر تأثيرا من أقرب مستشاريه، وإن الشواهد على ذلك عديدة. على سبيل المثال، في عام 2016، عندما أجهز الجندي الإسرائيلي “إيلور أزاريا” بدم بارد على المواطن الفلسطيني الجريح “عبد الفتاح شريف” برصاصة في الرأس، وجد بنيامين نتنياهو نفسه مُجبَرا على الإذعان للموجة والمُضي قُدما نحو محاكمة الجندي الإسرائيلي. ولكن بعد ساعات، اطَّلع رئيس الحكومة الإسرائيلي عبر ابنه على آلاف ردود الفعل الغاضبة من إسرائيليين وإسرائيليات يدعمون الجندي الصهيوني، فغيَّر توجهه وانطلق لزيارة عائلة القاتل، وقدَّم لاحقا التماسا للعفو أمام الرئيس الإسرائيلي، ثم انتهت القصة كاملة بمدة حبس لا تتجاوز أربعة أشهر.
في السياق نفسه، يؤكد “نير هافيتز”، المستشار الإعلامي السابق لنتنياهو، أن يائير يلعب دورا كبيرا في القرارات السياسية لأبيه، ففي عام 2017، أجَّل رئيس الحكومة الإسرائيلية زيارته للهند بسبب “احتجاج عنيف” من الابن على عدم دعوته ضمن الوفد الإسرائيلي. وتشير مصادر أخرى إلى أن تأثير يائير يفرض نفسه داخل حزب الليكود، وبدأ اسمه يُطرح في الساحة على أنه الخليفة الممكن لأبيه، ولو أن القوة التي تمتَّع بها الأب بدأت تخفت كثيرا بسبب تدهور صورته والحسابات السياسية لتيار اليمين المتطرف الذي يخنقه في تحالف حكومي صعب. ورغم ذلك، تبقى فرص نتنياهو الابن قائمة في لعب دور سياسي في قادم السنوات، لا سيما أنه مقرب من رجال الأعمال المتحالفين مع والده، الذين دعموا نتنياهو للبقاء في الحكم. فقد تحدثت الكثير من التقارير الصحفية الإسرائيلية عن العلاقة بين يائير ورجال الأعمال من اليهود الأميركيين، إذ ينشط يائير في الولايات المتحدة التي سبق وقام فيها بجولة برعاية منظمة “إستي” الصهيونية للتسويق لرؤيته السياسية، التي يقول فيها إنه لا يوجد أي شيء يُدعى “الشعب الفلسطيني”.
ختاما، قد يبدو حلم الأمير الصهيوني الصغير في حكم دولة الاحتلال صعبا، خصوصا مع شخصيته الهشة وغير المتزنة التي تميل إلى المبالغة في التطرف والعنصرية، لكن في الحقيقة، يحمل يائير نتنياهو الروح الحقيقية للآباء الصهاينة المؤسسين لدولة الاحتلال، الذين قتلوا الشعب الفلسطيني بدم بارد، ثم قرروا بعد ذلك تكوين جيش يحمل السلاح عنهم، فيما لبسوا هم ربطات العنق التي جعلت منهم فجأة سياسيين وديمقراطيين بينما أياديهم كانت -ولا تزال- ملطخة بالدماء.
_________________________________________________
ملاحظة:
* “بيبي” هي كنية نتنياهو في إسرائيل.
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.