لا نبالغ إذا قلنا إن هناك أزمات متعاقبة عاشتها الأجيال الحديثة في كل العالم أثَّرت في طريقة استهلاكنا للطعام، وفي علاقتنا به، بحيث يمكن تمييز عادات غذائية لدى جيل الألفية (مواليد عقد الثمانينيات) وجيل زد (مواليد ما بعد منتصف عقد التسعينيات وحتى عام 2010) لم تشهدها الأجيال السابقة. لم يعد الطعام وسيلة لإشباع الجوع فقط أو الحصول على جسم صحي، لكنه أصبح بالإضافة إلى ذلك تجربة حسية وثقافية ثرية نسعى دائما لجعلها أكثر تأثيرا وحضورا، فكيف نتعامل اليوم مع طعامنا؟
ما تغير في علاقتنا بالطعام
خلال نصف قرن مضى، حدثت تغيرات ملحوظة في اتجاهات الاستهلاك في جميع أنحاء العالم، وتحولات كبيرة في الأنماط الغذائية، فاتجه المستهلكون إلى أنظمة غذائية أكثر تنوعا، ودخلت السكريات والدهون المشبعة بوصفها جزءا أساسيا فيها، ما أحدث عواقب صحية وخيمة حصدها السكان الأكبر عمرا، فانتشرت أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، وهو ما دفعنا للبحث عن خيارات غذاء صحية أكثر من ذي قبل، منها على سبيل المثال الميل إلى تناول الأغذية النباتية بشكل أوضح من ذي قبل. (1) (2)
هكذا نما الوعي بأهمية الغذاء الصحي وبمعرفة مصادر ما نأكله، فطوَّرت شركات الأغذية طريقتها في عرض المحتويات من خلال ملصقات أكثر تفصيلا للتعريف بالمنتج، ودخلت مصطلحات مثل “عضوي” أو “خالٍ من الجلوتين” إلى قائمة ما نبحث عنه في المتاجر، تبع ذلك اهتمام بالتصميم والملمس والقوام، وهنا يبرز متغير مهم آخر، كانت الشركات تقود العرض ويمتثل المستهلكون بالطلب من قبل، فيما قادت أجيال الألفية وجيل زد عملية التغير الثقافي والتجاري لتلاحقها الشركات وتكيف منتجاتها مع الطلب.(3)
بينما كانت تقارير الشركات والأبحاث العلمية تتبع هذا التغير، حدثت نقلة كبيرة أخرى؛ غيرت جائحة “كوفيد-19” شكل علاقتنا بالطعام جذريا، ليس فقط بشأن ما نأكله وميلنا لتناول طعام صحي يدعم صحة أجسامنا ومناعتها، لكنها غيرت أيضا الطريقة التي نأكل بها. (4)
نميل اليوم أكثر من ذي قبل إلى أن نوظف الطعام جيدا في حياتنا، نعرف ما يطلق عليه “الأكل الواعي”، فنعمل على تغذية أجسامنا بما تحتاج إليه، ونفرق بين الإشارات التي ترسلها؛ ما يتعلق منها بالجوع فعلا، وما يرتبط باحتياجات عاطفية، وللسبب ذاته تجذبنا ملصقات المنتجات الغذائية والمشروبات التي تتضمن كلمة “طبيعية” أو “عضوية”. (5)
كان الأكل الواعي إحدى الطرق التي اتبعها البعض إذن، وبحث آخرون عن عادات أخرى يمكنهم التأقلم معها، كان “الأكل النظيف” طريقة أخرى للبعض، ويعني التركيز على كل ما يدخل أجسامنا ليكون طبيعيا غير مصنع، مع الاهتمام باللياقة البدنية، تزايد البحث عن الغذاء الأكثر فائدة، فيما عُرف بـ”الأغذية الفائقة” (Superfood) مثل بذور الشيا أو مسحوق البروتين. (6)
صار بإمكان كلٍّ منا أن يوفر على مائدته فاكهة وخضراوات من كل حدب وصوب، لتدخل منتجات مثل الأفوكادو والتوت البري إلى قوائم غذائنا، ليس فقط لأنها أصبحت أكثر توفرا، لكن لأن الناس أصبحوا أكثر استعدادا لإنفاق نسبة أكبر من دخولهم على الغذاء.
ورغم ذلك، ليس كل التغيرات التي حدثت لنا صحية أو إيجابية، فقد انعكس هوسنا المتزايد بالتقاط الصور على طعامنا أيضا، فصرنا نبحث ليس فقط عن الطعام الجيد والصحي أو حتى الطعام طيب المذاق، ولكن أيضا عن تقديمه بشكل جيد يُشبع كل الحواس ويزيد متعة تجربة الطعام، ويكون صالحا للنشر عبر مواقع التواصل، والمشاركة مع الأصدقاء. (7)
أن تأكل لإشباع كل الحواس.. ما تفعله بنا الصور
يزخر تطبيق إنستغرام اليوم بما يقارب 500 مليون صورة تحمل وسم طعام أو “FOOD”، صور الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية هذه تزيد إفراز الدوبامين وتحفز مراكز المتعة في الدماغ، وتدفع منتجي الأغذية والمطاعم ومصممي الإعلانات للتسابق في تقديم طعام يجذب عملاء يشاهدون آلاف الصور لأطباق مميزة كل يوم، ويرقى إلى توقعاتهم العالية.(8)
أصبح التقاط صورة للوجبة فور تقديمها وقبل تذوقها شائعا في المطاعم، نفكر غالبا في الصورة قبل أن نفكر في المذاق، أصبحت الصورة جزءا من تجربة تناول الطعام، إنه اتجاه يُطلق عليه “إباحية الطعام” (gastroporno) أو (foodporn)، يروج له المؤثرون في شبكات التواصل وتُعنى به المطاعم، لكن ماذا عن تأثيره؟ (9)
تناولت دراسة نشرتها مجلة “براين آند كوجنيشن” (Brain and Cognition) عام 2016 فكرة الجوع البصري التي تدفعنا إلى مشاهدة صور الطعام، وما يصحب ذلك من تغير، نعيش اليوم في بيئات تتوفر فيها الموارد الغذائية أكثر من أي وقت مضى، وإحدى العلامات المميزة لتلك الوفرة هو انتشار مرض السمنة، وبينما كانت التهمة ملقاة على عاتق شركات الأغذية وحدها، فإن بوسعنا اليوم الحديث عن عامل آخر هو الإشارات التي تسبب الجوع.
تلعب صور الأطعمة الشهية أو ما يطلق عليه “المواد الإباحية للطعام” (Gastroporn) دورا كبيرا في إثارة الرغبة في تناول الطعام بشكل لم نعتده، إنه الجوع البصري، صور الطعام المحيطة بنا وسهولة الوصول إليها تؤثر في النشاط العصبي والاستجابات الفسيولوجية والنفسية.(10)
مجرد النظر إلى صور الفطائر الشهية يثير من جديد الشعور بالجوع حتى إذا كنت قد أنهيت وجبتك للتو، إنها أحد العوامل المسؤولة عن زيادة الشعور بالجوع، أما التأثير الآخر فهو تناول طعام غير صحي، إن صور الوجبات التي تكون في الغالب لأكلات غارقة في الدهون إلى جانب وصفات الطهي التي تقدم في البرامج تحتوي على الكثير من الدهون والسكر، وتتجسد أسوأ تأثيراتها في أنها تخلق لدى المستهلكين -ضمنيا- ما يبدو وكأنه معايير للطعام المناسب لهم، وما لا يحتوي على كل تلك العناصر لا يبدو مناسبا لتناوله في المنزل أو في المطعم.
فضلا عن أن مشاهدة صور عالية الجودة لأكلات لذيذة تقدمها بعض المطاعم بجوارك على إنستغرام مثلا ستدفعك آجلا أو عاجلا لتجربتها بنفسك، إننا في اتجاه زيادة مؤشر كتلة الجسم جراء عدد من السعرات الحرارية القادمة من الصور التي تشاهدها بين الحين والآخر. تُجري عقولنا محاكاة لتخيل مذاق الأطعمة وكيف يمكن أن تكون التجربة، وحتى إذا لم تدفعك مباشرة إلى تناول الطعام، وهو ما يحدث في أحيان كثيرة، فإننا نصبح على الأقل أكثر ميلا لاتخاذ قرارات أسوأ بشأن غذائنا عند التعرض لصور الأغذية الشهية، التي تكون غالبا غير صحية. (11)
في دراسة نشرتها مجلة “جورنال أوف كونسيومر سايكولوجي” (Journal of Consumer Psychology) عام 2021 تبحث في العوامل التي تزيد انتشار وصفات الطعام عبر موقع “Buzzfeed’s Tasty”، تتبع الباحثون مكونات الأطباق التي ينشرها الموقع، ليتبيّن أن كثافة السعرات الحرارية في الطبق كانت تؤثر بشكل إيجابي في معدل التعليقات والإعجاب والمشاركات، وبالعكس كان التفاعل يقل في وصفات الأطباق التي تنخفض السعرات الحرارية فيها. بعبارة أخرى، كان لمعان الطعام بالزبد والجبن واللحوم والزيوت يمنح المتابعين تجارب حسية غنية تزيد الإقبال عليها، حسنا، لكن ماذا لو كنت قادرا على التحكم برغباتك؟ هل ينتفي تأثير تلك الصور؟ (12)
يبدو أن محاولة مقاومة تلك الصور والوصفات يستنزف الموارد العقلية، إزاء تلك الأطعمة المغرية تبذل عقولنا جهدا في مقاومة إغراءات افتراضية، لذا ينصح الخبراء بأن تتحكم في مدخلات الصور لكي تقلل من الأسباب التي يكون عليك بذل الجهد في مقاومتها، وتتحكم بالتالي في السعرات الحرارية التي ستستقر في جسمك.(13)
السفر من أجل تجربة الطهي
لدى الجيل زد الذي يُعَدُّ أصغر البالغين في عالم اليوم رؤية مختلفة بشأن غذائه، يشير استطلاع الغذاء والصحة السنوي السابع عشر لعام 2022 الذي أجراه المجلس الدولي لمعلومات الأغذية في الولايات المتحدة (IFIC) حول تصورات وسلوكيات الشباب الأميركي فيما يتعلق بالغذاء إلى أن أغلب أبناء هذا الجيل يرون أنهم يتمتعون بصحة جيدة، ويعطون أولوية لتعزيز صحتهم الجسدية والعقلية من خلال الغذاء.
كانت النتائج تشير إلى أن هدف الكثيرين منهم من تناول الطعام تتراوح بين زيادة الطاقة وتقليل التعب وتحسين جودة النوم والصحة العاطفية أو العقلية وصحة الجهاز الهضمي، وهو أمر يعود ربما إلى مستويات التوتر والإجهاد العالية التي تعرض لها أبناء هذا الجيل، ما دفعهم للبحث عن حل للأمر من خلال الغذاء. هذه الرؤية المختلفة عن الأجيال السابقة تعود في الأصل لتأثيرات الأصدقاء والعائلة ومتخصصي اللياقة البدنية وخبراء الطهي والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي عوامل أخرى صار على شركات الأغذية والمعلنين أخذها بعين الاعتبار. (14)
يُبدي أبناء الجيل فضولا في عاداتهم الغذائية مقارنة بالأجيال الأخرى، إنهم إلى جانب الحرص على تناول غذاء صحي يُقبِلون بشغف على اختبار نكهات مميزة وتجارب تناول أكلات ومشروبات من ثقافات مختلفة لم تعتدها شركات الأغذية، بحيث مثَّل أحد التحديات لها. (15)
انتشار الصور في وسائل التواصل الاجتماعي أضفى لمسة جمالية على الطعام، وأغرى العديد من المسافرين حول العالم بالتعرف على ثقافة الطعام في الدول التي توجهوا إليها، بحيث تحولت سياحة الطهي إلى أحد أهم اتجاهات السفر وأكثرها نموا. تزامن هذا مع انتشار تطبيقات متخصصة في الطعام منها “VizEat” و”Feastly” و”Foodspottin” و”Roaming Hunger”، على سبيل المثال، يربط بعض هذه التطبيقات المسافرين بالسكان المحليين، لاستضافتهم في تجارب طهي مثل تناول العشاء مثلا وتعليم وصفات معينة، ويكون بوسع أحد القادمين من دولة عربية أن يتعلم ويجرب صنع الكريب في باريس أو المعكرونة في روما، ويتحول الطعام إلى تجربة تغمر حواسنا وتثري معارفنا، ووسيلة للتواصل مع الآخرين. (16)
تتغير العادات الغذائية بشكل متسارع إذن، بعض هذه التغييرات يبدو إيجابيا مثل الاهتمام الزائد بالطعام الصحي وتزايد الوعي بالارتباط الواضح بين الطعام والصحة العامة، وبعضها الآخر ربما يكون سلبيا حيث يدفع الارتباط المتزايد بعالم الصور نحو أنماط غير صحية من الغذاء، لكن المؤكد أننا نشهد ثورة حقيقية لا تدور فقط حول طبيعة طعامنا ولكنها تشمل أيضا طريقة تناول هذا الطعام والدور الذي يلعبه في حياتنا، وأن هذه الثورة سيكون لها تأثير لا يمكن تجاهله على مستقبلنا.
_______________________________________________
المصادر
- Los gen Z y los Millennials son lo que comen
- Food consumption trends and drivers
- Así comen y beben los ‘millennials’ y los ‘centennials’
- Content Hungry: How the Nutrition of Food Media Influences Social Media Engagement
- Los gen Z y los Millennials son lo que comen
- #FoodPorn: People are more attracted to social media content showcasing fatty foods
- Los gen Z y los Millennials son lo que comen
- #FoodPorn: People are more attracted to social media content showcasing fatty foods
- Gastroporno: cuando vamos a restaurantes a hacer fotos más que a comer
- Eating with our eyes: From visual hunger to digital satiation
- Gastroporno: cuando vamos a restaurantes a hacer fotos más que a comer
- Content Hungry: How the Nutrition of Food Media Influences Social Media Engagement
- Gastroporno: cuando vamos a restaurantes a hacer fotos más que a comer
- 2022 Food and Health Survey Spotlight: Generation Z
- Food is Gen Z’s top spending priority, survey finds
- ¿Porqué las nuevas generaciones adoran el turismo gastronómico?
اكتشاف المزيد من ينبوع المعرفة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.